شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
Headlines
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (11)
لا أعلمُ يا بني إذا ما كنت قادراً - يوماً - على الإمساك بيديك - كما فعل جدُّك مَعِي - في طفولتي وشبابي، وسرت بك حول رسوم المواضع التي عبَقَت أرجاؤها بذلك التاريخ المشرق الذي كانت بدايته عندما اختار الخالق - عز وجل - تلك الأرض المباركة لتكون مُهَاجراً ومَوْئلاً لحبيبه وصَفْوة خَلْقِهِ - سيِّدنا - محمد عليه صلوات الله وسلامه ثم ضمته أحشاؤها متباهية - ويحق لها أن تتباهى واحتضنت جَسَده الشَّريف ذرَّات تُرْبها الزكي متفاخرةً ويحق لها أن تُفاخر، ومنذ ذلك اليوم، أو تلك اللحظة في تاريخ هذا الكون، والأرواح تنجذب في شفافية إلى ذلك المقام حتى إذا ما وقفت متأدِّبةً في حَضْرتِهِ تيقنتْ كم هو عظيمٌ - ذلك النبيِّ الهاشمي الذي خُتمتْ بنبوته الرسالات، عظيم في خلقه، في رحمته، في عطفه، في وفائه، في مسلكه الذي صاغه رب العزة والجلال عليه، وصدّقتْ آيات الذكر الحكيم التي وصفته في قول بليغ، وبيان معجز فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
تلك روح الإسلام الصافية التي لمحَ آثارها والدُك في أخلاق الجيل الذي لم تكن هناك وشيجة تربطُهُ سوى وشيجة الدين، لم يسمعهم يا بُني في مجالِسِهُم يفاخِرُون بأنسابهم، أو يتباهون بشيء من حُطام هذه الدنيا، كان الفتى يشبُّ في أحياء البلد الطاهر حتى إذا ما رآه مَنْ هم أكبر سناً منه، سألوه في أدب: من أبوك؟ حتى إذا ما رفع رأسه في حياء وأجابهم، سمع تلك العبارة المألوفة والجميلة: ((وانْعِمْ بأبيك)) وربما حدَّثوه في شيء من الاقتضاب عن أخلاق أبيه وجَدِّه ومَسْلكهم، وأفسحُوا له في مَجْلسِهم فكان الابن والصديق لهم وكان هذا يا بني كافياً للفتى آنذاك لأن يتلقَّن دُروسَ الحياة وتجاربها من تلك النفوس المليئة بحب الآخرين، والقادرة على البذل والعطاء في أريحية، ولعلك تجد شيئاً من الصعوبة في إدراك سرَّ تلك التقاليد التي جَذَّر الفَهْمُ الواعي لأخلاقيات الإسلام تعميقها في نُفُوس الناس، فهي أبعد ما تكُون عن التَصنُّع، وأقرب إلى الفطرة السَّوية التي خلق الله عباده وجبلهم عليها.
لقد كان الأبناء - يا بني - لا يرفعون أبصارهم ولا تتعالى أصواتُهم في حَضْرةِ الوالدين أمًّا كان أو أباً، وكان لصديق الأب وجليسه في منزله ما كان للأب نفسه، وكانت الأجيال تُخاطِبُ بعضها في الدِّيارِ الطاهرة بصيغة الجمع احتراماً وتقديراً، وكان الصغير لا يأخذ مجلس من هو أكبر منه مَقَاماً وسناً، وكُنا إذا ما ضمَّنا مَجْلِسٌ مَعْ أهل العلم والفضل أصغينا في أدب، وسألنا في رقة ووداعة، ولقد أدركنا من أهل العلم نفراً كريماً ونادراً في علمه وخُلقه ومسلكه كفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح - رحمه الله - الذي صعد منبر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم لأكثر من أربعين عاماً - فلم تخرج منه كلمات الكُفر والشِّرك في حق أحدٍ من أتباع الديانة السماوية الخاتمة وكان - يا بني - رفيقاً بجيران المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومحباً لهم، وكم دخل والدك دَارَه التي كانت تقوم بجوار مسجد المصطفى - صلى الله عليه وسلم، ومقامه الطاهر، فوجد أبناءه قد تأدَّبوا بذلك الأدب الرفيع الذي عمل - أبو محمد - رحمه الله - على أن يأخذه منه الأبناء والأحفاد، وعندما نادى المُنادِي في أحياء ((طيبة)) بأن الشيخ الموقر - ابن صالح - قد غادر الدنيا، خرجت المدينة - جميعها - شُيوخاً وشباباً وأطفالاً ليواروه في التُّربة التي أحبَّ وتأدَّب مع صاحبها وصحابتِه وآل بيته - رضوان الله عليهم - وجيرانه الذين رأوا أن المحراب والمنبر لم يملأهما أحد كما فعل ((ابن صالح)).
وكان يوم تشييعه شبيهاً بذلك اليوم الذي شيَّعتْ فيه هذه البقعة الحبيبة إلى قلب كل مسلم، ذلك العالم الرَّباني الزَّاهد الشيخ محمد علي التركي - رحمه الله -، الذي مات وهو يسكن في دار تعود ملكيتها للأسرة الكريمة - آل الخُريجي -، وعندما سألتُ مُريدَهُ الرَّجلَ الحافظ لكتاب الله والممتلىء وجهه نوراً وجلالاً الشيخ محمد منصور عمر - أطال الله بقاءه: هل كانت وفاة الشيخ ابْنُ تُرْكي في عام 1380 أو 1381هـ لم يجزم بشيء، ولكنه خاطبني في أدب - يليق بعلمه وفضله قائلاً: يا ابن الخال، إنهم انطلقوا من هذا السجن الدنيوي إلى عَالمِ المَلكُوت الذي لا تحده الحدود، لقد ودعته - يا بني - في شيء من الأسى فكم كنت أتمنى أن أجلس إلى رجل من بقية الناس في البَلدِ الطاهر، يذكِّرني بتلك الوجوه التي كانت تُضِيء بها ساحات باب السَّلام، والخَوْخة، والصُّفة، والرَّوضة التي شَرَّفها الله بمواطىء أقدام سيِّد الخلق وشفيع الناس - عليه صلوات الله وسلامه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :696  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 114 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.

الاثنينية ::المكتبة