شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (16)
إن تكن كلمة (أديب) تعني مجموعة تلك الصفات الفكرية التي تتوافر في شخصية معينة فتتهيأ لها ظروف المشاركة في البناء الثقافي للمجتمع الذي تعيش ضمن إطاره فهو وصف ينطبق على هذا المرثي الذي أردتُ أن أخصه بالقليل الذي لا يشمل كل جوانب تلك الحياة الإيجابية التي لم يكن فيها فقط أديباً بهذا المعنى المتداول الذي يتسارع إلى أذهاننا عند سماعنا للكلمة نفسها. وهو - بلا شك - ربط طبيعي ومنطقي لا جدال فيه. إلا أن الصفات الفكرية وحدها لا تكفي في كثير من الأحيان أن تكون المقياس الوحيد الذي ننظر من خلاله إلى ذويها وفي تاريخ الأمم رجال لم يُؤلفوا كتباً أو يدبجوا مقالات ولكنهم تركوا في مجتمعاتهم آثاراً حميدة بما رسموه من منهج إنساني أو خلدوه من عمل نبيل.
وكم هم أولئك الذين يقفون أمثلة شامخة في حياتنا، يستمدون ذلك الشموخ من الصفات الإنسانية التي يتحلون بها والتي تترك آثارها البعيدة في نفوسنا فلا نملك إزاءهم غير هذا الإعجاب الذي هو إحساسٌ غريبٌ يتعمَّق دواخلنا وكم يعجز العقل أن يعطي تفسيراً لما يعتمل في نفوسنا من شعور أو تقدم عليه شخصياتنا من مسلك.
لقد عرفتُ الأستاذ البصنوي - رحمه الله - في مكة المكرمة في حي تقرب أرجاؤه من بيت الله الحرام. لقد عرفته في حي الشامية وفي دار أخيه العامرة فضيلة الشيخ عبد الله - أمد الله في عمره - كنت أستمع إلى أحاديثه العذبة في شؤون شتى منها ما يتعرض لأحوال الفكر ومنها ما يتجاوز الفكر إلى الأدب ومنها ما هو اجتماعي فقط وفي كل تلك الشؤون كنت أجد في شخصه صفات الأديب الذي يناقش بعمق وهدوء وقليلاً ما رأيته يحتد بل كانت أحاديثه مصحوبة بابتسامة عذبة تُومئ إلى تلك الروح السمحة التي كان يتمتع بها. ولا أعلم إذا ما كان لشخصيته الرِّياضية التي عُرِف بها في مطلع حياته أثر في هذا الجانب الوديع الآخر الذي يشكل في حد ذاته مسلكاً أخلاقياً يتفرَّد به أولئك الذين أُعطوا من صفات الحلم والصبر ما يؤهلهم لأن يكونوا في دور القدوة التي تُحتذى والمثال الذي يجدر بالاتباع.
وإنني لأذكر يوماً أن الحديث امتدَّ بنا لنقارن بين الشَّاعرين المرحومين حمزة شحاته ومحمد حسن عوَّاد وكنتُ مُتحمِّساً لشاعرية شحاته - رحمه الله - وأرى أنه من الخطأ عقد مقارنة بين الشاعرين لانتمائهما إلى اتجاهين أدبيين مختلفين ولقد رأى رحمه الله في تحمُّسي لشحاته إغضاضاً من منزلة العوَّاد الذي كان زميلاً له يوم كان البصنوي سكرتيراً لمديرية الأمن العام فإذا هو يبتسم قائلاً: لو لم يقل العوَّاد في كل ما أنتج إلا هذا البيت لكفاه وإذا هو ينشد بيت العوَّاد المعروف:
من هنا شع للحقيقة نور
من قديم ومن هنا يتجدد
وكان رحمه الله معجباً بصديقه الشاعر الأستاذ إبراهيم فوده - أسكنه الله فسيح جناته - دائم الحديث عن ملكته الخطابية؛ التي ظهرت جلية في حفل افتتاح حفل النادي الأدبي بمكة المكرمة سنة 1395هـ على شرف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد رحمه الله الرئيس العام لرعاية الشباب آنذاك.
يومها استمعت إلى الأستاذ الفوده متحدثاً ولم يتملكني فقط ذلك الإعجاب ببلاغة عباراته ومدى قدرته على التأثير ولكنها تلك الموضوعات الفكرية التي طرقها في الكلمة الافتتاحية لتلك المناسبة.
وعلمت يومها أنها ليست زمالة العمل المشترك بين الرجلين في الإذاعة السعودية في يوم من الأيام ولا انعكاس علاقة الأستاذ بتلميذه حيث كان الأستاذ البصنوي - رحمه الله - مدرساً قديراً في علم الرياضيات وكان الأستاذ الفوده ضمن تلاميذه ليس هذا هو ما دفعه أن يضع الفوده في تلك المنزلة بل هي المنزلة التي يعرفها كل أولئك الذين استمعوا إليه مُحَدِّثاً أو قرأوه شاعراً.
هي كلمات قليلة أردت أن أتحدث بكل نزاهة عن شيء من صفات شخصية كان لها عطاؤها المتعدد في المجتمع الذي عاشت فيه. هي كلمات رائدها الوفاء لأولئك الذين يستحقون منا الإشادة يوم كانوا أحياء بين ظهرانينا فلا أقل من الإشارة لما قدموه بعد رحيلهم عنا ففي ذلك استجلاب للدعاء واستنزال للرحمة.
وإنني أدعو بالمغفرة للأستاذ البصنوي الذي فتح في يوم من الأيام هو وأخوه المفضال باب مكتبتهما العامرة فكنتُ أتسلَّلُ إليها يوم كنتُ طالباً في كلية الشريعة أراجع فيها من المصادر ما لم تمكني ظروفي - يومها - من الحصول عليها.. إنني مدين لهما بهذا الفضل الفكري وغيره فلا أقل من وفاء يتجسَّد في عبارة.. وشكر يتمثل في دعاء.. رحمك الله أبا إبراهيم.. وأسكنك فسيح جنَّاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :601  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.