شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (11)
شهور مضت صرفتني فيها شؤون الحياة عن إكمال حديث الأشجان، وكنت توقفت عند الشيخ حمزة قزاز أطال الله عمره.. وصوته الشجي، ولم يكن القزاز وحده هو مَن يشجيني صوته وتأخذ بمجامع نفسي كلماته، فلقد أدركت من مؤذني مكة ذوي الأصوات الحسنة عدداً كبيراً مثل: حسن لبني وأحمد توفيق وأحمد شحات وصالح فيده وخطاب يعقوب شاكر وكان شيخاً للمؤذنين بعد والده رحمهم الله جميعاً. وخارج إطار الأذان كان هناك الشيخ المقرئ زيني بويان راوية لأشعار العلامة الجليل السيد محمد أمين كُتبي ومُنشداً لها في مجالس المحبة والخير، ثم برز صوت آخر فاق كثيراً من معاصريه فهو سليل بيت علم وفضل وخريج جامعة الإسلام - الحرم المكي - جده كان يفيض علماً على أهل الحرم وسواهم، وأبوه كانت مجالسه درة مضيئة يتجمع حول شعاعها كل من كتب الله له أن ينظر إلى ذلك الوجه المنير الذي يبعث السَّكينة في النفوس، ينصت إليه الناس وكأن على رؤوسهم الطير ويبلغ صوته مشارف الحجر وتخوم المقام، وأخوه الفاضل جمع فأوعى، أدرك النخبة الصالحة من علماء الحرمين الشريفين: محمد العربي التِّباني وحسن يماني وحسن المشَّاط والسيد محمد أمين كتبي ويحيى أمان ومحمد نور سيف ومحمد مرداد وعبد الله دردوم وعبد الله اللَّحجي وعبد القادر شلبي وعباس قارِّي وحسن الشاعر وأمين الطرابلسي وسواهم.
قال لي الصديق الفاضل الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: تخصَّصنا في الفقه وفضيلة السيد الدكتور محمد علوي مالكي تخصَّص في علم الحديث وسواه فأجاد وتمكن.. أما صاحب الصوت الذي يحفظ المئات من القصائد حفظاً متقناً، ويؤديها بين الناس أداء مُحْكماً فهو السيد الفاضل عباس بن علوي المالكي، وعَقْدُ قِرانٍ يحضره - أبو علوي - يأتي إليه الناس في البلد الحرام من كل حدب وصوب، ويغشاه القوم يحدوهم حُبٌّ صادقٌ ووجْدٌ صادقٌ.
الشيخ عبد الله بصنوي أسكنه الله فسيح جناته، يقول لي بصوت منخفض: السيد عباس أصبح في علم الإنشاد علماً يَرْحَلُ الناس إليه، واليوم يا صديقي - يا أبا عاصم - أبكي أيَّاماً قضيناها بين النقا والشَّامية، وساعاتٍ تنقلنا فيها بين الصَّفا وباب السلام، وحلقات علم جلسنا في رحابها ننعم بتلك الوجوه المضيئة والألسن الذاكرة، والأجفان الدامعة، يا صديقي.. ليالي الحب والصفاء في رحاب الحارة، وقباء وقربان، تستدر مني الدمع غزيراً في سني الكُهولة التي ولجنا أبوابها في دورة هذه الحياة الفانية، - يا أبا علوي - أتذكر قولك يوم نفضنا أيدينا من التراب الذي حثونا ذراته على قبر أبي محمد - في جنة الحجُون وشُعبة النُّور.. تقول لي.. وأنت ترى الأسى يتجسَّد في ملامح وجهي أين ((المقعد)) يا أستاذ؟ وتقصد بيت الحبيب البصنوي في الشامية، لقد صمتُّ يومها لم أجبك.. فلم أكن أتصور أنني سوف أشهد مكة وهي تخرج مودعة رجل الفضل والإحسان والعرفان، كنت أسمعُ صوته رحمه الله يترَّدد بين جرول والشِّعب، والمسفلة وحارة الباب، كان صدى كلمات الحق يتردد في مسمعي ((الصَّلاة خير من النوم)) كأنه أمامي بعمامته، بجبته البيضاء، بقامته الشامخة، بوجهه المضيء، بصوته الخفيض.. وخرجت يومها - يابن العلم والفضل - أمسك بيدك وأحدث نفسي قائلاً: هنا مشيت معه في هذه الدُّروب، هنا لمحتُ طلعته البهيّة لأول مرة بالقرب من الكعبة، يطوف البيت، يقبل الحجر، يصلي بين الركن والمقام، وأسأل نفسي اليوم كيف تفرَّق جَمْعٌ بعد التئام؟ ولماذا انطفأ القنديل في مقعد الدار؟ ولماذا خلت الحلقة من روّادها وغاب عنها حاديها الذي كان يقودها؟
لم تغب عن ذهني - يا أبا عاصم - ملامح فَجْر زاهٍ صلَّيناه سويَّةً في رحاب الروضة والصفة، ولم أنس فضلاً هو من دواعي ذلك الحب العميق الذي أحمله للأخوان بين جنبات نَفْسي وأنت أيها الحبيب في مقدمتهم، وأنا فخور بأن الدُّور في الشامية والنقا والعتيبية والمسفلة والمصافي، قد ضمتني يوماً بين جنباتها وإنني جلستُ في ((الدَّرْس)) بباب السلام مُستمعاً، وقرأتُ الكتاب في الحديث مُريداً، كيف أنسى أيها الحبيب ونفسي ارتوت من مجالسكم كما ارتوت من ماء زمزم، علماً متجرداً، وحقيقة موثقة؟
لقد خاطبني الصديق الشاعر محمد صالح باخطمة يقول ممازحاً: كيف وَصلْتَ في أشجانكَ إلى ((الشُّبيكة))؟ ورددتُ عليه: وَصْلتُ إليها بقلب محب ونفس عاشق، وهذا موجز القول لكل من يسألني عن أشجان لم أرد لها أن تكون تاريخاً. فالتاريخ يسطره أهله، ولكنها خواطر محب وأنَّات غريب، فإن أصبت فيها فإنني سائل الدعاء وإن قصرت في شيء منها، فقد يخطئ اليراع، ويعفو الكريم، وتبقى المحبة رداءً يتجَّملُ به الأحباب في غدوهم ورواحهم، وليلهم ونهارهم، وقربهم وبعدهم، فاللهم جملنا بالستر، يا ستار أسترنا بسترك الذي سترت به على ذاتك فلا عين تراك ولا يد تصل إليك.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :647  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.