شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (15)
ـ أعود إليك اليوم يا صديقي، فالحديث بيني وبينك لم ينقطع ولكنه حديث من طرف واحد. فلقد أضحيت تلوذ بالصمت وكنت ذات يوم لا تحل بمجلس إلا وأنصت القوم لهذا الحديث الذي لا تتكلفه ولا تبحث له عن وسيلة تروقه بها، إنه حديث الفطرة الذي ما إن يخرج من بين شفتيك حتى يستقر في أعماق المُنْصِتِينَ لك - وكنتُ كثيراً ما أسأل نفسي: أي نَبْعٍ هذا الذي يتدفق منه القول لديكَ؟ وأي سر ذلك الذي تنطوي عليه نفسك؟ فلا يستطيع الناس حتى وإن اختلفوا معك في الرأي أن ينكروا عليك هذه النعمة التي بدت آثارها في هذا الجمع الذي يكاد يتهافت على كل كلمة تلقيها على مسامعهم، ويجد آخرون على ما يكون لديهم من علم ومعرفة إلا أنهم يخفقون في التأثير على سامعيهم ومع هذا فهم يحاولون المرة تلو الأخرى وبهذا تصبح المعضلة لديهم ذات شقين.
أنت يا صديقي لم تجر وراء هذا المطلب ولم تكلف نفسك عناء البحث عنه، ولكن الله منحك إياه كما يمنح جميع عباده ما يريد، وهو القادر وحده أن يمنع عنهم ما يريد. وكيف لا يمنحك الله نعمة كهذه ولقد كنت تبحث عن الضعفاء من عباده فتأويهم؟ تأويهم إلى نفسك وتغدق عليهم من مشاعرك ولا تشعرهم بأنك متفضل عليهم بل ترى حقيقة أنهم ذوو الفضل وأصحاب المنة فانطبق عليك قول زهير:
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وكيف لا يكون لعباراتك هذا الحضور وقد قتلت هذه النفس، لقد قتلتها عندما طهرتها بذكر الله والثناء عليه ولم تدع لمطامع الدنيا وشهواتها أن يكون لها مرتع خَصْبٌ فيها، أنت يا صديقي عرفت الدواء الذي يعالج كل ما في هذه النفس البشرية من جموح فأحسنت استخدامه. ومن الناس من إذا أصابه داء حسي سعى إلى جرعة الدواء يأخذها في وقتها المحدد. وإذا ما اعترى نفسه داء معنوي لم يلق له بالاً وتركه يستشري في أعماقه. ومن هنا تأتي ظلمة النفس وانغلاق البصيرة وفساد الإِحساس. لقد قضى ذكر الله وشكر نعمته والتأمّل في ملكوته على تلك النوازع الشريرة التي قد تصيب النفوس بحكم فطرتها البشرية. كما أن ما عالجت به نفسك أعطاك أيضاً المنحة ومنحك القدرة على التَّمييز بين ما يُرْضي الله وما يسخطه. وإذا رضي الله عن عباده جعل الناس كافة تأنس بهم فتهرع إلى مجالسهم وتسعى للقرب منهم.
تلك مناقب قد يتقاتل الناس، لو كان بوسعهم ذلك، في سبيل حيازتها ولكنها تتمنع أي تمنع على غير أهلها وتأبى أن تكون من نصيب الذين لا يعطون لنفوسهم حقها كما يعطون لهذه الأجساد ما تحتاجه من طعام وشراب. ولو أرادوا أن يتأقلموا في هذا المطلب حقيقة لسألوا أنفسهم: هل قصدنا وجه الله عندما كتبنا أو حدثنا؟ وهل أخلصنا للعمل الذي انتدبنا أنفسنا له؟ هل نحن مؤمنون بما نقول؟ ومدركون لأبعاد ما نلقيه على أسماع الآخرين؟ وإنه ليحضرني دوماً هذا المثال العجيب الدال على الإِخلاص والخشية من الله والسعي إلى رضاه. فلقد وقع نظري على عبارة في ترجمة إمام أهل الحديث.. الإِمام البخاري - رحمه الله - وأخالها في (الأدب المفرد) فلقد كان - رحمه الله - يصلي ركعتين في الروضة بمسجد النبي المصطفى عليه صلوات الله وسلامه قبل أن يدوّن أي حديث في كتابه الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عزّ وجلّ. يصلي يطلب من الله الرشد في عمله والتّثبت من القول الذي يريد أن يدوّنه. تلك أخلاق السلف من علماء هذه الأمة. وهذه سلوكياتهم التي تركوها لنا نبراساً. ما أحوجنا اليوم نحن طلبة العلم إلى الاهتداء به والسير على ما يشعه من ضياء. ما أحوجنا إلى الضياء وما أشد شوقنا وحنيننا إليه!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :717  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.