شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (8)
كنت توقفت قليلاً في الحلقة السادسة من هذا الموضوع عند بعض الشخصيات التي عرفت بصوتها الحسن وأدائها المتميز.. فكان من هذه الشخصيات مؤذنون، وكان منهم منشدون. ولكن هناك ظاهرة ارتبطت بحياة بعض هذه الشخصيات، وأعني بها ظاهرة النزوح عن المدينة ثم العودة إليها بعد حدة من الزمن، ولعلّ الظروف التي مر بها المجتمع المدني قبل أن يصبح هذا المجتمع جزءاً من مجتمع الجزيرة العربية الذي أراد الله له أن يتوحد على يد المغفور له جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - وكان من آثار ذلك تلك المظاهر الإِيجابية المتمثلة في نشر الأمن. ونبذ الخلاف، والمساواة بين الناس. أقول: إن تلك المظاهر كانت في تلك العصور الماضية سبباً وراء نزوح أهل المدينة وكان من بين هؤلاء النازحين حفظة لكتاب الله ومؤذنون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدباء عرفوا بإبداعاتهم الشعرية المتميزة.
((إبراهيم محمد زين سمان)) - رحمه الله - كان واحداً من المؤذنين الذين نزحوا إلى بلاد الشام وأقام بها فترة طويلة ثم عاد إلى المدينة في حقبة الثمانينات الهجرية. ولقد أدركته - رحمه الله - بعد عودته إليها، وكان ذا هيئة حسنة ((جبة بيضاء وعمامة أقرب في شكلها إلى تلك التي كان يلبسها العلماء)). وكان صوته يحمل بقية من تلك الطلاوة التي اشتهر بها في المجتمع المدني. كما أن الكتاب الذي طبعه من بعده ابنه - أحمد السمان - رحمه الله - وجمع فيه عدداً من القصائد والمقطوعات الشعرية، يدل على أن عدداً من أفراد هذه الأسرة الكريمة عني بالشعر وروايته وإنشاده.
وإذا كان إبراهيم السمان اتخذ من بلاد الشام مسكناً له بعد خروجه من المدينة فإن ثمة نفراًٍ من مؤذني المسجد أقاموا بأرض ((جاوا)) ومنهم أبو بكر خوج والأستاذ عبد الستار بخاري - رحمهما الله - ولكنهم عادوا جميعاً إلى المدينة، عرف الخوج بمواظبته الدائمة على أداء الأذان وخصوصاً الأذان الأول في صلاة الفجر، يجلس - رحمه الله - مع عدد من المؤذنين في مؤخرة المسجد، يضبطون ساعاتهم، ويتهيأون لصعود المنائر التي يصدحون من فوقها بكلمات التوحيد والإِيمان، في تلك البقعة كثيراً ما رأيت أصدقاء الخوج الذي قليلاً ما كان يخلع عباءته من فوق كتفيه، رأيتهم يمازحونه ويداعبونه بكلماتهم، وهو مزاح لا يخرجهم عن وقارهم وأدبهم الذي تعكسه وجوههم النيرة وهيئاتهم الحسنة. وإني لأتذكر صديقين له يحبانه ويحبهما - في الله - وهما إبراهيم شيرة، وبكر عبد الجواد - رحمهم الله جميعاً - وكان يجلس غير بعيد من القوم رجل تقوم بينه وبين المسجد صلة قوية وألفة دائمة وهو المرحوم سليمان عبده.
أما الأستاذ عبد الستار الذي كان يتميز بين زملائه بحفظه لكتاب الله ومعرفته المتعمقة باللغة العربية في أصول كلماتها ونحوها وصرفها، وروايته لتلك الإِبداعات الشعرية التي فاضت بها قرائح بعض شعراء المدينة الذين عرفوا بإجادتهم لفن القول إجادة لا تقل عن تلك التي وجدت عند نظرائهم من شعراء العالم العربي، وهم: عبد الجليل برادة وإبراهيم الأسكوبي، وأنور عشقي، ومحمد العمري. حياة الأستاذ عبد الستار ونشاطه لم يقتصرا على بلاد ((جاوا)) وحدها فلقد عاش فترة من حياته في مكة المكرمة، حيث كان على صلة قوية بالشيخ عباس قطان - رحمه الله - أحد وجهاء مكة المعروفين - ولعلّ تلك الصلة دفعته إلى الإِقامة بمكة. ولقد أخبرني الشيخ المفضال - عبد الله بصنوي - رحمه الله - والذي عاصر عدداً كبيراً من مؤذني المسجدين الشريفين - أن الأستاذ عبد الستار، كان يؤذن بين الستينيات الهجرية، فلقد سمعته يوماً يقول: قابلني أحدهم عند وصولي إلى المدينة وأخبرني بوفاة السيد عبد الرزاق نجدي - رحمه الله - وهذا الأخير كان من أشهر مؤذني المسجد، وأتصور أنه أكبر سناً من الأستاذ عبد الستار ومن هم في طبقته من المؤذنين، ولقد أدركت شخصياً السيد حسين نجدي - رحمه الله - الذي كان صاحب صوت متميز ولكنه ترك الأذان في آخر حياته..
عندما يرتفع صوت ((أسعد نجدي)) من فوق منائر المسجد الشريف فإن المرء ليشعر بتلك النفحات التي تلامس أدق مواضع النفس الإِنسانية، ويتفاعل مع ذلك الصوت الندي الوجدان الخالص الذي فطر الله الإِنسان عليه، وهو نفس الشعور الذي أحسسته عندما سمعت لأول مرة صوت المؤذن الشهير - عبد العزيز بخاري - وكان لم يستقر بعد في المدينة، وكانت النفس تتجاوب مع صوت الشاب وتسبح في أجواء يظللها الرضوان وتحوطها السكينة، ورأيت يومها الناس يسرقون النظر إلى صاحب هذا الصوت وهو يخرج من منارة ((الشّكيلية)) ممسكاً مفتاح المنارة بيده، ولم يكن غريباً على الأجداد والآباء من مؤذني مسجد رسول الله وخليله الذي اصطفاه من بين خلقه ليس غريباً عليهم أن ينشئوا أبناءهم على تلك التربية التي تستمد تعاليمها من كتاب الله وسنة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، إنهم ليسوا فقط جيران الحبيب الذي أوْصَى في أحاديثه الصحيحة برعايتهم، ولكنهم كذلك أطول الناس أعناقاً في يوم الزحف الأكبر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :684  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج