الفصل الثاني |
وأدهشني عمي، حين سمعته يتحدث إلى أمي باللغة العربية (الدارجة)، دون أن يحاول تجنّب اشتراكي في سماع ما يقول... سمعته يقول: |
:ـ. المشكلة يا فاطمة هي في المعاشات... |
:ـ. كانوا بيصرفوه كل شهر... لكن من أكثر من ثلاثة شهور ماصرفوا معاشات الموظفين حتى نحن في المستشفى... يعني الأطباء... والصيادلة، وحتى الخدم والممرضين ما استلموا شيء... |
:ـ. حتى الأساتذة... وباين انو الشيخ عبدالقادر الشلبي، مدير المعارف، فهم وعرف انّو الحكومة، ماهي رايحة تقدر تصرف المعاشات، إلا بعد مدة، ما أحد يدري متى. |
:ـ. وهوّه الشيخ عبدالقادر الشلبي هادا يعرف هادي المسألة اكتر منّكم؟؟ |
:ـ. يمكن... لأنو يقرأ الجرايد اللي تجيله من الشام، ومن مصر ويقولوا كمان من مكة وجدة... |
:ـ. لكن ليه ما تشتكوا للأمير (أحمد ابن منصور) أو (عبد المجيد باشا)، أو... |
:ـ. الأمير بنفسه ما بيستلم معاشه... و (عبد المجيد باشا) ما هو عارف كيف يسكّت العسكر اللي كل واحد منّهم ما بيستلم شي... غير (الكروانه) و (التعيين).. وحتى الكروانة يمكن توقف... لمّا يخلص الدقيق، اللي في المخازن. |
:ـ. لكن ايش السبب؟؟؟ هوّه بيحارب قبايل الشروق؟؟ |
:ـ. هدا اللي بنسمعه |
:ـ. طيب ليه يحارب الشروق، وهوّه ما هو قادر يصرف على العسكر... في المدينة، وعليكم كلّكم. |
:ـ. ما يقدر يصرف هنا، وهنا... والسبب زي ما بيقولوا عندنا في المستشفى... يحي بك ومحمود بك، وحتى السيد محمد هاشم، والشيخ يوسف ديولي اللي يزورونا، ويشربوا الشاهي عندنا في (بخشة المستشفى) بعد العصر... السبب أنّو الإنجليز وقفوا عن الشريف المساعدة اللي كان يستلمها منّهم من يوم ما قام بالحركة اللي حارب بها الدولة العثمانية، واللي يسمّوها (النهضة العربية)... |
:ـ. يعني، هادي حرب... وكمان يمكن توصل المدينة... مو كده؟؟ |
:ـ. العلم عند الله... بس، نحن لازم نشتري شوية أرزاق... ونحاسب في المصروف.. |
:ـ. خلاص... أنا اليوم أنبّه على (أمي باجي)... و (أمي حسينة).. وكمان (منكشة) انهم يحاسبوا. |
وهنا رفع إصبعه وصوب نظرته إلى أمي وهو يقول: |
:ـ. لأ يا فاطمة... لا تقولي لهم شيء عن اللي سمعتيه... هادا كلام ما هو لازم يعرفوه... ثم التفت إليّ شخصياً ورفع يده بأصبعه وهو يهزّها ليقول: |
:ـ. وانت يا ولدي، سمعت كل الكلام... ولكن اصحا تقول لأحد عن اللي سمعته... انت كبرت... وانا شايف إنك سرت رجّال... والرجّال لازم يعرف كيف يسكت وما يقول لأحد شي من اللي يسمعوا من عمّه أو من أمّه... |
:ـ. خلاص يا عمّي... ما أقول لأحد شيء من اللي سمعته... لكن |
:ـ. لكن ايه؟؟ |
:ـ. لكن فيه خوف علي إذا لعبت مع أصحابي في الزقاق.. |
وهنا ضحك ضحكة خفيفة، لم تشاركه أمي فيها وقال: |
:ـ. لأ... ما في خوف ابدا دحّين... ولمّا يسير خوف، رايح تعرف انت ورايحين أصحابك كمان يعرفوا... ولكن قول: (الله لا يقدر).. |
:ـ. الله لا يقدّر.. |
واذكر اليوم، إني قد حرصت فعلاً على أن لا أتحدث إلى أحد عمّا سمعته، وقلت في نفسي: |
:ـ. إنها الحرب مرة أخرى... ولكن مادام يمكن أن ألعب بدون خوف... فالمهم أن (أعدّ) (الكبوش) التي أختزنها تحت الحنية... وأن أجد (اليُغل) الكبير الذي لم أنس أني (رصّصْتُه) عند (أبو دربالة) وكبست به هذا العدد الكبير من الكبوش. |
واستقبلت منذ ذلك اليوم، أياما في اللعب، ما أكثر ما تطورت، وأصبحت لها حكايات وقصص تقرؤها في الفصل أو الفصول المقبلة، إن شاء الله. |
وقد لا يعرف أبناء هذا الجيل، وربما الجيلين قبلهما، شيئا عن (الكُبُوش) وعن (اليُغُل) الذي يُعتمد عليه في كسب أكبر عدد من (الكبوش)... ولا أجد لزوما للشرح والتعريف، وقد أقوم بهذا الشرح، في هامش الكتاب عند طباعته. |
والمهم، هو أني هبطت إلى (الَحِنية) في الدهليز، وحملتُ (الكبوش) في (عُبّي) وخرجت بها إلى دكّة الدهليز التي لم يعد فيها الجنديان، كما كانا في بيت (مقعد بني حسين) وقد أذكر أن السبب، هو أنهما نقلا إلى المستشفى... |
ونشرت على الأرض المفروشة بالحنبل الهندي، كل ما في عبي من الكبوش، وأخذت أعدها (عشرينات).. كل عشرين منفصلة عن الأخرى... وكدت أزعق فرحا حين وجدت أنها أكثر من مئتين... كما وجدت أني أملك أكثر من (يُغُل مرصّص)... فلم يبق إلاّ أن أعيد الثروة الهائلة إلى مخبئها في الحَنّية، وانطلق إلى الشارع في انتظار اللاعبين. |
وقد يحسن، أن يعرف جيل هذه الأيام، ذلك النوع من العلاقة التي تربط بين اللاعبين فهم، أبناء الجيران في شارع الساحة، ولكن بدون الابتعاد في هذا الشارع إلى أكثر من عطفة (الحماطة) في اتجاه اليمين، وعطفة زقاق لا أذكر إسمه الآن في الإتجاه الآخر يؤدي إلى خلفية بيوت (السلطانية)... التي تنفصل عن بعضها البعض ويمكن أن يمرّ عبر الفواصل الضيقة، مَنْ يريد المرور لأي غرض. |
وكان هذا اليوم، هو أول أيام هذه العطلة التي أغلقت معها أبواب المدرسة الراقية ولم يَخب ظني، إذ ما كدت أقف على باب البيت والتفت هنا وهناك، حتى رأيت عددا من أبناء الجيران، وبعضهم من زملاء المدرسة... رأيتهم مجتمعين، يتحاورون حول (الخط) الذي يرسُمونه على الأرض حفراً خفيفاً في التراب، لِلُعبة (الكَبَتْ)... ولأني لم أكن من عشّاق هذه اللعبة، وربما كنت أكرهها لأن قدميّ، والساقين، يغرقان في التراب الذي يتصاعد أثناء (المبارزة)... وهذا يعني ما لابد أن أجد جزاءَه عند أمي عندما تقوم بتحميمي كعادتها عند عودتي من (الزقاق كما كانوا يسمونه) والجزاء هو كما سبق أن ذكرت مصع الأذنين والضرب ـ عند اللزوم ـ بسيف المنسج. |
لاحظت أن واحداً من المجتمعين، يبتعد، بعد أن تم تقسيم الفريقين، اللذين سيمارسان اللعبة، وهو ابنُ الجار (أو الجارة) التي تسكن البيت المواجه تقريبا لبيتنا، ووجدتُها فرصة... فرفعت صوتي أناديه: (يا إبراهيم...) وما كاد يلتفت ويراني حتى أشرق وجهه الوسيم بابتسامة... ثم انطلق مسرعا في اتجاهي... ولم أضع وقتا... إذ بادرت إلى (خشخشة) مافي جيبي من الكبوش... وأنا أقول له: |
:ـ. هيا، هات كبوشك... وخلينا نلعب. |
:ـ. ما عندي كبوش. |
:ـ. ليه فين راحت كبوشك.. كان عندك كتير. |
:ـ. أمي، أمرت دادة حسينة، ترميها كلّها في البير... |
:ـ. ليه؟؟؟ يعني ما تبغاك تلعب... هادي الأيام خلاص ما في مدرسة. |
:ـ. خالي قال، اللي يكسب من الكبوش اليوم... يكسب من لعب القمار لمّا يكبر. |
:ـ. قمار؟؟؟ يعني ايه قمار؟؟؟ |
:ـ. لعب ما يعرفوه إلا الكبار.. |
:ـ. طيب.. لكن ايش تبغانا نلعب؟؟؟ |
:ـ. ما نلعب. الأحسن نتمشّى... تعال نروح الحماطة... نشوف المناخة وباب الشامي. |
:ـ. يعني ايش رايحين نشوف؟؟؟ المناخة نشوفها لمّا يوم القشاع يجي... |
:ـ. لأ يقولوا إننا نشوف العسكر اللي بيتعلّموا... |
:ـ. يتعلّموا؟؟؟ يتعلّموا ايه؟؟ |
:ـ. يتعلّموا كيف يمشوا... وكيف يجروا.. وكيف ينبطحوا على وجوههم. |
:ـ. مين اللي قال لك هادا الكلام؟؟؟ |
:ـ. خالي... أنا سمعتو وهوّه بيقول لأمي أنّو الباشا بيستعد للحرب.. |
:ـ. يستعد للحرب؟؟؟ |
:ـ. إيوه... كدة قال لأمي... وقال لها كمان لازم تشتري أرزاق... وقال كمان أنّو هوّه اشترى أرزاق، والأسعار سارت زيّ النار؟؟ |
:ـ. عشان ما عادت القوافل بتجيب شي من ينبع.. |
:ـ. هادا اللي يسمّوه (حصار)... يعني فيه ناس بيحاصروا.. يعني يمنعوا عن المدينة الأرزاق... هادا زي أيام فخري... لمّا سفّر اهل المدينة (بالبابور) إلى الشام. |
:ـ. إيوه... أمي بتقول كدة كمان. |
:ـ. لكن عبد المجيد باشا رايح يسفّر أهل المدينة؟؟ |
:ـ. ما أدري... هيا تعال نتمشّى ونشوف التعليم في المناخة. |
|