شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((شبندر تجار)) بخمسة مجايدة
كانت المفاجأة التي واجهتني بها أمي في صباح اليوم التالي لتلك (العلقة) والسجن في المرحاض، انها سوف تصحبني إلى العريف الشيخ محمد بن سالم، ولذلك جعلتني اسرع في ارتداء ملابسي، بينما ارتفقت (ملاءتها)... ولفت نظري انها لم تطالبني بأن اتأبط اللوح وكتاب (جزو عمّ)... ومن جانبي لم اسألها عن السبب في الذهاب إلى كتاب الشيخ محمد بن سالم... كما لم ألفت نظرها إلى اننا نخرج من المنزل، بدون اللوح والجزو.. رجّحت فيما بيني وبين نفسي، انها سوف تبلغ الشيخ عما اقترفته من الأخطاء الكبيرة، وهي الهروب من الكتاب، وركوب الحمار... ليقوم من جانبه ـ بدوره ـ في اعطائي علقة في الفلكة التي لم يسبق للشيخ ان عاقبني بها قط، لأني كنت دائما (حافظ اللوح) بل واصبحت بفضل قراءة سور القرآن الكريم في جزو عمّ على يد أمي كل ليلة، وحفظها دون خطأ.. اصبحت سابقا لزملائي ليس في (الحفظ) فقط بل في قراءة الخط المطبوع في الجزو، وهو لا يختلف، عن الخط الذي يكتبه لي العريف في (اللوح).
وعند انعطافنا في الشارع إلى باب المجيدي وكنت امشي امامها، لمحت زميلي (مالك خليفة)، متابطا اللوح في طريقه إلى الكتاب... وقد التفت اليّ، ولكنه ظل يمشي بعيدا عنا لأنه ادرك ان التي تمشي خلفي هي أمي... وكالعادة عند بواب (الباب الكبير) سألته أمي عمّا اذا كان الشيخ في الكتاب... فقال انه قد دخل منذ قليل... وهنا تطوع (مالك) وهو يقول:
:ـ. انا اقول له، انكم تبغو تقابلوه..
وجاء الشيخ وما كاد يراني، حتى ابتسم، وهو يردد (ما شاء الله... ما شاء الله) ثم أخذت أمي تقول:
:ـ. انا يا سيدي الشيخ جيت معاه اليوم، عشان اشكركم... هادا الحمد لله (فك الحرف) وحفض جزو عمّ كله.
وقاطعها الشيخ يقول:
:ـ. ايوه... الحمد لله يا بنتي... الشكر لله.. هادا دايما سابق اخوانه... ومن يوم ما جبتيه إلى اليوم ما احوج نفسه لأي كلمة... ابشرك يا بنتي انو رايح يبيض وجهك ورايح يكون رجّال بإذن الله.
:ـ. وعشان كده يا سيدي الشيخ انا جيت عشان اشكركم... وعشان اخبركم اني رايحه أدخله المدرسة اللي انفتحت، يقولوا اسمها (الراقية)...
وتهلل وجه الشيخ محمد بن سالم، بل واتسعت ابتسامته ونظراته الحنون، وهو يقول
:ـ. احسن ما تسوي يا بنتي... إيوه فتحوا المدرسة (الراقية) اللي كانت هيّه اللي يسمّوها (الرشدية) في ايام الاتراك... وأنا اعرف مدير المدرسة، السيد حسين طه... والسيد ماجد عشقي... وديه للسيد ماجد وقوليله... العريف محمد بن سالم يسلم عليك... وهوّه اللي يقبله في المدرسة، مادام فك الحرف. وان كان تحتاجي اروح معاكي... انتظريني عند الباب... وانا اجي معاكي.
:ـ. لا يا سيدي الشيخ... ما ابغاكم تتعبو... انا اروح للسيد ماجد عشقي.. اللي يمكن يعرف ابو (عزيز)...
:ـ. رحمة الله عليه.. رحمة الله عليه.. حتى انا اعرفه
:ـ. لكن ماجانا خبر انو مات... هادا غايب من زمان قبل ما يسفرنا فخري..
:ـ. على كل رحمة الله عليه... حي أو ميت.. هيّا روحي للسيد ماجد واذا احتجتي لأي شي انا مستعد اجي وأقابله، وما اظن تحتاجي.. عشان الولد ما شاء الله.. فك الحرف... ومدام فك الحرف... رايح السيد ماجد، يقبله... هيا... ربنّا يكون في عونك ويبارك لك في هادا الولد اللي رايح يسير انشاء الله رجّال يعوضّك عن صبرك وتعبك عليه.
والى ان انتهى هذا الحوار، بين العريف بن سالم وبينها، كنت اتابع مشهد اولئك الزملاء الذين قضيت معهم فترة من الزمن، نحفظ اللوح، وفي نفس الوقت نمارس فنون الشقاوة التي لا أدري اليوم ما الذي كان يغرينا بممارستها، ومنها على الأخص تكسير اباريق الوضوء وتفريغ الحنفية من الماء، وعندما يحين وقت الصلاة، نعمد إلى التيمّم... ولم يخطر بذهني في تلك اللحظات، انها النظرة الأخيرة وآخر العهد بهذا الكتاب، الذي ادين له حتى اليوم بالفضل الكبير... ولن انسى ان اللوح والمضر، وهجاء الحروف، بالفتحة والكسرة والضمة، وبقية متعلقات القراءة، قد تلقيتها في ذلك الكتاب، وعلى يد ذلك الشيخ الكبير العريف محمد بن سالم رحمه الله.
وما كاد ينتهي الحوار، وتأخذ أمي طريقها للخروج من باب الحرم حتى انتبهت إلى انها تذهب بي إلى المدرسة (الراقية)، التي لا ادري كيف وصلت إلى قرار الحاقي بها، ولا ادري اين هي هذه المدرسة... وكيف تهتدي اليها، وهي تذهب بي اليها لأول مرة.
ولم يطل تساؤلي اذ اخذت أمي يدي في يدها، كما ألِفَتْ ان تفعل، في كل مرَّة تخرج فيها من المنزل، ولا استطيع اليوم ان اصف ارتياحي، ولا ان اسرد ذكريات هذه المشية معها في حلب أو حماه... حيث كانت بعد وفاة جدي، هي التي تتولى بنفسها مراجعة الدوائر الحكومية التركية ـ وهم ينظمون انسحابهم من حلب ـ لتحصل على الأوراق التي تحتاجها للعودة إلى المدينة بعد الانسحاب... رحمها الله... كانت لا تنقصها الجرأة، فلا تتردد في مناقشة المسؤول الذي تراجعه في هذا الأمر أو ذاك، مناقشة تصل إلى حد ما يشبه تذكيره بأنه مسؤول عن انجاز المعاملة... وانها ستضطر إلى مراجعة من هو اكبر منه مقاما اذا تأخر الأنجاز...
وما هي الاخطوات، حتى رأيت ذلك المبنى في ساحة باب المجيدي، بالقرب من باب الحرم، اخذنا نتجه اليه حتى وقفت بي عند باب المبنى، المغلق، ولكن على كرسي خشبي جلس رجل عجوز، سألته أمي:
:ـ. هيّه المدرسة مقفولة اليوم؟؟
:ـ. لا... ما هي مقفولة... بس لازم نقفلها ساعة الفسحة عشان ممنوع خروج التلاميذ.
:ـ. طيب... انا أبغا اقابل السيد ماجد عشقي
:ـ. مدير التحضيرية... موجود.. اوقفي عندك، وانا ادخل آخذلك اذن منه.
ونهض عن كرسيه بنشاط وخفة حركة... وعَبْر فتحة الباب الضيقة دخل وغاب دقائق ثم عاد وهو يقول
:ـ. السيد في الغرفة اللي على يسارك وانتي داخلة... ينتظرك.
ودخلنا، وكان باب غرفة السيد، ماجد مفتوحا... وهو وراء مكتب خشبي صغير... وخلفه دولاب فيه صفوف من الكتب. وما كدنا نخطو عَبْر الباب حتى ارتفع صوته يقول:
:ـ. ادخلي، يا بنتي.. واجلسي انتي والولد.. شوفي عندك الكرسيين هنا.
وجلسنا، وتكلمت أمي باختصار، وبصوت منخفض.. وكان أهم ما قالته اني قد (فكيت الحرف) في كتاب الشيخ العريف محمد بن سالم... وانه هو الذي امرها بأن تتقدم اليه.
والتفت السيد ماجد اليّ وهو يقول:
:ـ. انت فكيت الحرف؟؟
:ـ. ايوه.. وحفضت جزء عمّ كله.
:ـ. طيب... تعال هنا.. وعندما وقفت امامه ـ وبيني وبينه المكتب الذي يجلس خلفه ـ وضع امامي صفحات ورق مكتوبة بحروف كبيرة... هي نفس الحروف التي تعلمت قراءتها، (في اللوح) اولا... ثم في (جزو عمّ)... وقال لي وهو يشير طرف القلم الرصاص بين اصبعي يده السمراء الكبيرة:
:ـ. اقرأ من هذا السطر... وسمِّعني... يعني أرفع صوتك... ولم أجد أي صعوبة فيما طلب مني قراءته... قرأت السطر الذي كان يسير بقلمه الرصاص على كلماته واحدة بعد الأخرى... ثم هبط بالقلم بين اصبعيه إلى سطر مكتوب في آخر الصفحة، وهو يقول
:ـ. طيب... هيّا اقرا هنا كمان.. وارفع صوتك..
ومرة اخرى قرأت بسهولة السطر كله.. ورفعت وجهي انظر اليه، لأرى وجهه الأسمر النحيل تحت (العمة المدني) متهللا، ترتسم على فمه ابتسامة... أو مشروع ابتسامة... وسحب الورقة اليه وهو يقول:
:ـ. خلاص... يا بنتي... هادا ولد شاطر... رايحين نقبله في سنة اولى (تحضيري) هيّا اعطيني اسمه... واسم ابوه...
واخرج من درج مكتبه، دفترا كبيرا وطويلا اسود التجليد... وتناول القلم البوص الذي كان غارقاً في الدواة الزجاجية امامه، واخذ يكتب ما تمليه عليه أمي من معلومات...وعندما ذكرت له اسم ابي (زاهد)... تساءل أهو (ميّت) ام (مسافر)... وقصت عليه قصة سفره الذي لم يعد منه.. وأضافت انها الآن متزوجة بعد ان حصلت على الطلاق منه من المحكمة على المذهب المالكي... ولم تختصر قصتها... فقالت له شيئا عن حماة وحلب وموت ابيها (جدي) هناك... ولقد بدأ الاستاذ مهتما بما كان يسمعه منها... وانه هو ايضا من الذين هاجروا من المدينة ايام الحرب.. ولكنه لم يبق في الشام... بل ذهب إلى اسطنبول. وعندما انتهت الحرب، عاد إلى المدينة.. ليعمل في هذه المدرسة.. التي كان يعمل فيها قبل الحرب والتي كانت تسمّى (المدرسة الرشيدية)... ورفع صوته مناديا
:ـ. حمزة سليم... يا حمزة...
ودخل المُنادى ـ حمزة سليم.. ووقف متأدبا.. ويسمع من السيد ماجد:
:ـ. خد هادا التلميذ... يدخل الصف الأول... وقول للعريف (... عبدالحفيظ حماد) يجلِّسه في الرَّحلة اللي فيها (ابو الفتوح) ولد الناظر.
والتفت إلى أمي يقول: ـ. وهوه بالطبع يعرف يروح البيت... فين بيتكم؟؟ وخلف (حمزة سليم) الذي تلقى الأوامر من السيد هاشم عشقي... مشيت تاركا أمي تنهض هي ايضا لتعود إلى البيت. وانا اسمعها تتحدث إلى السيد ماجد باللغة التركية كلاما لم أُعْنَ بأن افهم منه شيئاً... ولكني ادركت ان السيد ماجد يعرف التركية... وان كانت ملامحه لا تدل على انه تركي...
وما هي الا خطوات قليلة حتى وقف بي حمزة سليم أمام باب طرقه... وعندما فتح رايت الفصل، والتلاميذ، كل ثلاثة على مقعد كنا نسميه (الرَّحلة..) وكل منها مزود بمنصدة، فيها لكل تلميذ (درج)... وكما امر الأستاذ السيد ماجد عشقي، نهض العريف (... حّماد) واجلسني
كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي، التي ارى فيها التلاميذ يجلسون بهذا النظام.. وقد كانت ارض الغرفة مفروشة بحصير تظيف اصفر اللون.. ولم التفت إلى المدرس الذي كان يجلس على كرسي وظهره إلى الجدار... امام صفوف المقاعد. وحين جلست إلى جانب ابو الفتوح رأيت الأستاذ المدرّس فارتبكت قليلا... وهنا لكزنى (ابو الفتوح) وهمس يقول:
(ما سلّمت على الأستاذ... قوم سلم على يدّه...) وقبل ان انهض لانقذما اشاربه زميلي... صاح الأستاذ يقول
:ـ. اذا ما سكت يابو الفتوح... انادي حمزة سليم يطلعك برة.
وخرس ابو الفتوح... والتزمت مكاني اذ اتضح لي ان المطلوب هو التزم الصمت والأصغاء إلى ما يقوله المدرس... واخذت اصغي بانتباه... فاستأنف الأستاذ كلامه عن (جدول الجمع) في الحساب... وهو مادة لم يسبق لي بها اي صلة... ولكن كنت اعرف العدد إلى (100) وان عشر مئات تساوي الألف... والفضل في ذلك لتلك الأيام التي كنت أعدُّ فيها الأيام بحبات الفاصوليا في دهليز بيتنا في زقاق القفل... واعني ايام الشهور الباقية لبلوغي السنة السابعة من العمر التي اذا بلغتها يصح لأمي ان تتقدم بطلب الطلاق من ابي الذي سافر قبل الحرب ولم يعد.
وارتفع صوت الأستاذ يسأل احد التلاميذ
:ـ. مادام عرفنا انّو 7+7 تساوي 14... مين منكم اللي يقدر يقول لي 70+70 تساوي كم؟ وارتفع عدد من الأيدي وأصبع السبابة في كل منها، منفلت بينما بقية الأصابع مجتمعة... وكانت تلك هي المرة الأولى التي اشهد فيها حركة من هذا النوع... واصبع السبابة منفلت مرتفع... واخذت الأجابات تتلاحق... والأستاذ يرفضها... وحمدت الله على انه لم يطلب مني اجابة.. واخذ هو يشرح كيف نستنتج ان حاصل جمع 70+70 تساوي مئة واربعين.
وفجأة سمعنا صوت (صافرة) نسميها (صُفيرّة)... ونهض الاستاذ وخرج... وأخذنا نخرج من الفصل لأسمع أكثر من زميل من الزملاء، يستوقفني ويسألني عن اسمي... ثم يسألني إن كنت قد دخلت مدرسة قبل هذه المدرسة... فاذا قلت:
:ـ. لا... أنا دخلت كتّاب العريف بن سالم.. يسمع أكثر من واحد منهم يقول:
:ـ. كم مرة أكلت علقة بالخيزرانة المبلولة.؟؟؟؟
وخرجنا إلى فناء المدرسة وهو عبارة عن ساحة مستطيلة ممتدة من باب المدرسة إلى باب يقابله... وإلى اليمين سلالم رأيت عدداً كبيراً من التلاميذ يهبطون منها ورفعت بصري لأرى الدور الثاني... شرفة أو (بلكونة طويلة) تطل على فناء المدرسة ومن التلاميذ من يقف يتحدث مع زميل له وأيديهم تمسك الدرابزين من الحديد المشغول... وقف إلى جانبي (أبو الفتوح) وهو يقول:
:ـ. هادول تلاميذ الراقية.. كلّهم فوق.
:ـ. طيب.. لكن ما هو نحن كمان في الراقية...
:ـ. لا نحن تحضيري... وبعد التحضيري.. فيه فوق التأهيلي... وبعدها الراقية...
:ـ. يعني كم شهر، إلين نوصل الراقية؟؟
:ـ. كم شهر؟؟؟ قول كم سنة... التحضيري سنتين... والتأهيلي سنة... والراقية تلاتة سنوات ولاّ أربعة...
وضحك ضحكة هادئة وهو يقول:
:ـ. يعني نكبر، ونشيّب ونحن في هادي المدرسة... قول لي أنت جبت معاك غدا؟؟
:ـ. لأ... أنا كنت آخذ ((قُفة)) الغدا في الكتّاب.. لكن أُمي ما أعطتني القفة اليوم. وعاد يضحك وهو يقول:
:ـ. خلاص... إن كان عندك فلوس... حمزة سليم عنده شريك وجبنة.. والشاهي كمان... والغدا اللي أنا جايبه يكفينا نحن الاتنين..
وهكذا بدأت أول يوم من أيام المدرسة (الراقية)... في موقعها من ساحة باب المجيدي ومع هؤلاء الزملاء، وفي مقدمتهم هذا الذي أمر السيد ماجد عشقي أن أجلس في (رحلته) لأنه اخر تلاميذ الفصل، أبو الفتوح ولد الناظر.
كانت المفاجأة عند وقت الغداء في المدرسة، أني في اللحظة التي كنت أمشي فيها مع (أبو الفتوح) إلى حمزة سليم لشراء الشريك والجبنة وفنجان الشاهي، لأن أُمي قد سبق أن زودتني بقطع من النقد عند خروجنا من المنزل في مقعد بني حسين إلى الكتّاب ثم هذه المدرسة... وكنت اقنعت أبو الفتوح بأني لا أُريد مقاسمته غذاه الذي قال أنه يكفينا نحن الاتنين، ما دمت أحمل من (الفلوس) ما يكفي لشراء ما يبيعه حمزة سليم... كانت المفاجأة أن حمزة هذا ما كاد يراني أقف أمامه حتى قال:
:ـ. أنت اسمك عزيز؟؟
:ـ. أيوه نعم اسمي عزيز...
:ـ. هيّا خذ هادا (السفرطاس)... فيه أكل... أرسلو لك هوْه من البيت، مع واحد عسكري..
وكان أبو الفتوح يسمع... فالتفت الي وهو يقول:
:ـ. هادول أهلك يحبوك كتير... جيْبك مليان فلوس... وكمان يرسلو لك الغدا...وكمان مع واحد عسكري.. ليه أبوك باشا؟؟
:ـ. لأ... أنا أبويا مسافر من زمان... وما رجع ـ وأُمي متجوّزة (عمّي).. ظابط وعنده اتنين عساكر...
:ـ. يا بختك... خلاص أنت صاحبي... هيّا تعال نتغدّى سوا...
:ـ. فين نتغدّى؟؟
:ـ. شايف هاداك الباب اللي في آخر هذا الحوش... ندخل منه نلتقي كل التلاميذ بيتغدوا هناك.
* * *
في اللحظات التي كنت أمشي فيها إلى جانب (أبو الفتوح)، وفي يد كل منا هذا الذي يسمّونه في المدينة (سَفرَطاس) واخواننا المصريون يسمونه (عمود) وأظنه يسمى في مكة وجدة (مطْبقية)، في طريقنا إلى تلك الغرفة أو القاعة التي يتناول فيها التلاميذ وجبة الغداء... كنت أشعر أني اكتشف قلب (أُمي)... وإني كنت فيه كما ظللت منذ فتحت عيني على الحياة... ولم يكن فيه أبي الذي سافر وتركني في حضنها وعمري تسعة شهور. وأحسست كأن قلبي يطير من صدري فرحاً... ولو كان يسعني أن أراها في تلك اللحظة لألقيت نفسي على صدرها أقبلها وأقبل يديها... فهي التي أخذتني بيدها إلى كتّاب العريف الشيخ ابن سالم، وهي التي جاءت بي اليوم إلى المدرسة الراقية... ثم ها هي لم تنس أن تبعث اليّ الأكل في هذا (السفرطاس)... ولا أدري بأي شعور، أو ضمير، أو ووجدان، أفسّر ما دار بذهني في هذه اللحظات مع تيار من ذكريات العمر معها في تلك الرحلة التي قضينا في الشام معها أقسى معاناة الجوع والرعب، ودفن الموتى من أهلنا... ثم هذا السؤال الذي وجدته ينهش صدري وهو أنا في قلبها... وليس فيه أبي... ولكن أليس فيه هذا الرجل الذي أصبح زوجها؟.. ولا بد أن أعترف اليوم أنه كان سؤالاً يرفضه الواقع المترف الذي أصبحت أعيشه في كنف هذا الرجل ـ كان سؤالاً فيه الكثير المخزي من الجحود... لأن هذا الرجل كان يعاملني بشحنة من الحب والحنان، لا أبالغ إذا قلت أنها ربما أكثر كثيراً من حنان أمي نفسها.
على أية حال، لابد أن القارىء يدرك أني كنت صغيراً، أخطو إلى العاشرة من عمري وإن كان مما يثيره ويثيرني اليوم ـ أن تكون النفس الإنسانية في تلك السن قابلة للاستجابة ـ ربما التلقائية ـ لنوازع النكران والجحود التي لا ندري كيف تتم في ضمير الإنسان ووجدانه حتى في تلك السن.
* * *
وما أكثر الذكريات في القسم التحضيري من المدرسة الراقية ـ ومع (أبو الفتوح) بالذات، فقد كان ممن يوصف ـ ليس بالذكاء ـ وإنما بفنون من (الشقاوة) التي لا تخطر ببال أحد من تلاميذ تلك المرحلة سواه... فمن هذه الذكريات ذلك التصرف الخبيث ولكنه المضحك في نفس الوقت.
كانت الحصة الأولى وكل يوم لقراءة القرآن الكريم، ومن جزو تبارك كما تعلمنا أن نسميه... وكان استاذ الحصة من أجلاء القراء ـ كما عرفته بعد أن كبرت، وعرفت الدنيا... كان الاستاذ يدخل الفصل، فيرتفع صوت العريف (الحماد) بأمر عسكري من كلمة واحدة هي: (أحترم).. فنقف وكفوف أيدينا اليمنى على جباهنا (مثل العسكر) ونظل واقفين ولا نجلس إلى أن نسمع منه (جلوس) فنجلس ونلتزم الصمت بينما يأخذ الاستاذ مجلسه على كرسيه، أمامنا، وخلفه السبورة السوداء.. وكان رحمه الله لا يكاد يستقر في مجلسه، حتى يرتفع صوته آمراً:
:ـ. اقرأ يا ولد!
والقراءة هنا تكون على أساس متوالية مقننة تبدأ من العريف ثم من يليه وهكذا إلى أن تصل إلى (أبو الفتوح) ثم إليّ وكنت آخر تلاميذ الفصل.
ولكن الأستاذ يكاد لا يسمع من القارئين بهذه المتوالية، إلا العريف ثم الذي يليه، حتى تراه قد استغرق في نعاس، بل هو نوم عميق،... فاذا حدث أن مال عنقه أو انحنى برأسه على صدره، يرتفع صوته مرة أُخرى قائلاً: دون أن يفتح عينيه:
:ـ. اقرأ يا ولد.
وهنا تجي المهزلة، أو التصرف الخبيث الذي ابتكره زميلي (أبو الفتوح) وهي تبدأ على التحديد من حشرة (الخنفساء) السوداء التي لا أدري لماذا كانت كثيرة الظهور في فصلنا.
فقد جاء (أبو الفتوح) ذات صباح وفي جيبه علبة صغيرة فيها عدد من هذه الخنافس وجلس إلى جانبي وفتح غطاء العلبة ليريني ما فيها... كانت ثلاث خنافس ثم أخرج من جيبه أيضاً (عقرباً)... لا أخفي أني تقززت... وكدت ابتعد عنه... ثم فهمت أنه هو الذي صنع تمثالاً للعقربة من مادة سوداء كنا نسميها (زفت).،.. وكان التمثال بالغ الدقة والاتقان بحيث قد لا يشك من يراه، أنه (عقربة) فعلاً وفي نهاية فصوص ذيلها المعقوف إلى أعلى شوكة كما هي صورة العقربة المألوفة.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :848  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 69 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج