شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
موقف الألمان من العمال الأتراك
ليس مما ينسى أن ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية وأكثر مدنها ومصانعها أنقاض سوتها قنابل غارات الحلفاء بالأرض تماماً. وكلنا أصبحنا مأخوذين إعجاباً بقدرة ألمانيا على الخروج من تحت الأنقاض وعلى الزمن القياسي الذي استطاعت فيه أن تعيد بناء الأنقاض كلها والمصانع والمؤسسات بحيث يصعب اليوم أن تقول وأنت في شوارع فرنكفورت أو همبورج أو بون إنها كانت مسرحاً للهدم والتدمير والقتل العشوائي في الفترة التي صمم فيها الحلفاء على القضاء على النازية في هذا البلد.
وليس لأحد أن يقول إن إعادة بناء ألمانيا كان مديناً للأعداد الهائلة من العمال الأتراك الذين استقدموا بعد هذه الحرب للقيام بأكثر الأعمال الثقيلة التي فضل الألمان أن يعهدوا بها إلى عمالة مستوردة. وفضلوا من جنسيات الدول التي تجاورهم، الأتراك دون سواهم وذلك من منطلق تلك العلاقة التقليدية بين الأتراك والألمان التي جعلت منهم رفاقَ سلاح في الحرب العالمية الأولى. تلك مقولة مرفوضة لأن كل فرد في ألمانيا، وحتى الأطفال كانوا يعملون إلى جانب النساء... ولكن الأتراك أخذوا على عاتقهم المتابعة والاستمرار والملاحقة طوال سنين.
وقد بلغ عدد العمال الأتراك في ألمانيا 350 ألفاً وبطبيعة المدة التي استغرقتها عملية إعادة البناء وقد نيفت على ثلاثين عاماً، ثم بطبيعة النظر البعيد إلى مستقبل العمالة سمح لهؤلاء الأتراك أن يستوطنوا ألمانيا وأن يجدوا فيها الرعاية ومستوى المعيشة الذي لا يجدونه في تركيا.
وانتهت عملية إعادة البناء كما انتهت حالة الترف الذي جعل الألمان يترفع عن كثير من الحرف اليدوية التي كانت تترك للعمالة التركية، ثم بدأ زحف العامل الاقتصادي وزحف حالة البطالة وأصبحت ألمانيا تواجه ضرورةَ الاستغناء عن العمالة التركية وأن تحقق غرضها في إجلاء المستوطنين وإعادتهم إلى تركيا بأي ثمن، وللأمانة يمكن القول إن تصرف الألمان لم يخلُ من لمسةِ إنسانيةٍ في محاولةِ الإجلاء إذ لم يبخل على كل من يريد العودة لتركيا بإعانة مالية لا تقل عن 10 عشرة آلاف دولار وهو مبلغ طيب بالنسبة لمن يريد أن يبدأ حياة جديدة في وطنه.
ولكن المشكلة كانت في جيل الشباب الذين ولدوا وتعلموا في ألمانيا وألفوا الحياة فيها ولم تغب عنهم مشكلة الفرق بين مستوى المعيشة في ألمانيا وهذا المستوى في تركيا... هؤلاء كان الجلاء بالنسبة لهم كارثة بلغ من قسوتها عليهم أن أقدمت فتاة في ربيع العمر على حرق نفسها في ركن أحد شوارع همبورج احتجاجاً على الروح العدائية والمعاملة القاسية التي أصبح يواجهها العمال الأتراك الذين يرفضون الجلاء.
عددهم 350 ألفاً ونسبة عالية منهم عمال مهرة واكتسبوا هذه المهارة والخبرة من الأعمال الكثيرة التي قاموا بها. وهم بعد ذلك مسلمون ونحن في المملكة العربية السعودية قد فتحنا الأبواب لاستقدام العمالة الأجنبية من مختلف بلدان العالم - ومنها بلدان الشعوب الوثنية - أعتقد أن من حق هؤلاء الأتراك المسلمين أن يفضلوا على الوثنيين وغيرهم من غير المسلمين حتى وإن كانت أجورهم أكثر من أجور غيرهم.
لا تزال مشكلة العمالة التركية في ألمانيا تتعقد ولا تزال مشكلتنا مع العمالة الوثنية وغير الإسلامية تتزايد بفكرة أنها الأرخص على ما أظن فهل نستطيع أن نعيد النظر على ضوء الواقع.
* * *
كان ترحيب أجواء مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي بقيام الجمهورية التركية بتجميد علاقاتها بالعدو الإسرائيلي تعبيراً لا بد أن تتعمّق مغزاه تركيا، إذ ظهر به أمل جميع الدول الإسلامية في أن يزداد تحول اتجاه السياسة التركية نحو العرب والمسلمين، إذ هم أشقاؤها الحقيقيون الذين لا نشك في أن كبار المسؤولين في تركيا لا يجهلون أهمية توثيق وتوطيد العلاقات بهم، ليس فقط بسبب تلك الوشائج التاريخية العريقة التي ربطت بين الشعب التركي وبين هؤلاء الأشقاء قروناً طويلة، تم فيها من التلاحم والتراحم بين الجماهير ما كاد يصل إلى وحدة واندماج في الدماء والأعراق، وهذا إلى جانب العقيدة الإسلامية التي يدين بها ويتبعها ويتمسّك بقيمها ومثلها أكثر من تسعة وتسعين في المئة من الشعب التركي، الذي لن ينسى التاريخ، ولا تنسى سيرة الجهاد في سبيل الله، أنّه أبلى بلاء حسناً في الدعوة إلى الله ونشر لواء هذه العقيدة على كثير من أقطار أوروبا الشرقية، إلى جانب الذب عن الحياض والدفاع عن الثغور والتصدي بالاستشهاد والفداء لكل من تسوّل له نفسه الاعتداء على بلد من بلدان المسلمين... ليس فقط بسبب كل ذلك، وإنما لأن المتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في مختلف المجالات، وتشابك العلاقات والمصالح بين دول المنطقة وبين القوى العظمى وما لا يزال يتلاحق من ردود فعل في متطلبات استراتيجية الدولتين العظميين أصبح يفرض على الدول المتجاورة في المنطقة أن توسّع قنوات الاتّصال وأن توطّد جسور العلاقة وأن تنظر إلى احتمالات المستقبل بمنظار أكثر قدرة على تعمّق أبعاد الساحة، ومن زوايا جديدة يتاح للنظر أن يرى منها ما لم يكن يراه من قبل.
وتجميد تركيا للعلاقات بينها وبين العدو الإسرائيلي حين يتم الآن ومكة المكرمة تستقبل ملوك المسلمين ورؤساءهم وأمراءهم، مؤشر قوي في الواقع لما أخذ يطرأ على نظرة الشعب التركي من تحوّل قد يبدو بسيطاً في حجمه ومداه، ولكنّه هام وعميق الأثر بالنسبة للعدو الإسرائيلي الذي كانت تركيا وإيران من أخطر ركائزه في مخططه لترسيخ وجوده كدولة دخيلة على الجسم العربي وكعنصر اغتصاب وقهر لا يستغني عمّن يمكن أن يركن إليه في الخط الذي يحيط بالأرض العربية في الشمال والشرق عندما يتعرّض هذا الوجود للخطر في يوم بعيد أو قريب.
ثم هو مؤشّر قوي أيضاً للتطور الذي أخذ يتنامى في علاقات تركيا بالعالم العربي ككل وبالمملكة العربية السعودية على الأخص، ولعلّ مما يجدر ذكره، أن السيد جودت سوناي رئيس جمهورية تركيا الأسبق، كان قد قام بزيارة للمملكة، منذ سنوات وكان مما أفضى به لبعض جلسائه في جدة، بمناسبة الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله التي أعلنها جلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز، أنّه كان بين صفوف المجاهدين في سبيل الله، دفاعاً عن القدس في عام 1917، وقد سقط جريحاً في ميادين القتال وظل أسيراً في أيدي قوات الاحتلال البريطاني إلى عام 1920. وحين يفضي رئيس دولة بمثل هذا التصريح، فإنّه يؤكّد أن الصورة القاتمة التي كانت تسود علاقات تركيا بالعالم العربي قد أخذت تتغير وتشرق،وتبشّر بأن مستقبل هذه العلاقات سيكون أكثر قوة وإشرافاً بحيث تفتح الأبواب واسعة للشروع في تعاون مثمر في كثير من المجالات في المستقبل القريب.
وبعد، فما أكثر ما تؤلمنا المفارقة التي تترسّخ بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي وحضور هذا العدد الكبير من رؤساء وملوك وأمراء الدول الإسلامية، وتحضره الجمهورية التركية وقد جمّدت علاقاتها بالعدو الإسرائيلي ويمتنع حضوره على جمهورية مصر العربية، لأنها اعترفت بهذا العدو، وتبادلت معه التمثيل الديبلوماسي على مستوى السفراء، بل وزادت على ذلك أن أمعنت في التقرب منه والتودد إليه بتطبيع العلاقات، وفتح الممرات البريّة والجويّة والبحرية، يدخل منه الإسرائيلي ويخرج، لا فرق بينه وبين العربي أو المسلم الشقيق والصديق. بل وأكثر من ذلك هذا التحبّب إلى رئيس عصابة الآراجون زفايي ليومي، التي كانت ارتكبت جريمة دير ياسين بكل التوحّش والجبروت، ورئيس وزراء العدو الآن، مناحم بيجين بحيث عشنا لنسمع أنّه (صديقي مستر بيجين)، كلّما جاء ذكره على لسان (فخامة الرئيس).
مفارقة مؤلمة دون شك... والأشد إيلاماً أننا لا نرى كيف يمكن أن تخرج مصر من عنق الزجاجة الذي تورّطت في محاولة العبور منه وعبره إلى ما سمّته السلام الشامل والعادل، وهو الذي لا يزال وسوف يظل حلماً من الأحلام.
* * *
تختلف المملكة عن كثير من بلدان العالم، بأنها لا تحتفل بغير العيدين (الفطر والأضحى). ولكن إذا كانت الأعياد فرصة للإحساس بالفرحة، والانتعاش، واتساع أفق الآمال، وامتداد النظر إلى الأبعد والأحفل ببشريات الخير في مسيرة المستقبل، فإن يوم صدور ميزانية الدولة من كل عام، يمكن أن يعتبر عيداً ثالثاً، ينتظره المواطنون، على اختلاف أعمالهم ومهنهم ومواقعهم في المجتمع بشحنة من الترقّب والتطلّع، بل وبالاستعداد لتنفيذ الكثير من المشاريع التي تتوقّف على الزيادة المتوقعة في الدخل، إما بزيادة في الراتب أو بالترقية إلى مرتبة أعلى، وإمّا بالمزيد من الانتعاش في الأسواق، كنتيجة لما يُنفَّذ من مشاريع التنمية وما يستتبعه ذلك من تدفّق الأموال وسيولتها. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن عيد الميزانية هو عيد النماء والعطاء والأمل المتوثّب في نفوس المواطنين.
وقد جاءت ميزانية هذا العام كما ظل يتوقّعها الكثيرون فيّاضة بالسخي من العطاء، وكانت أرقامها الضخمة مؤشراً قوياً للانطلاق في طريق خطة التنمية الثالثة بكل ما تعد به من إصرار على تجاوز بقايا التخلّف، ليس فقط في التجهيزات الأساسية، في مستوى الخدمات وإنما فيما هو أهمّ وأشد حاجة وإلحاحاً على واقع المجتمع، وهو (الإنسان). ويصعب على الكثيرين تصوّر نجاح الخطة في الوصول إلى هذا الهدف الكبير، لأن المستهدف هنا هو هذا الإنسان بكل مكوّناته المعقّدة القادرة بطبيعة التكوين على القبول والرفض، وعلى المسايرة المرنة وعلى الممانعة المتعنّتة في آن واحد. ومع ذلك فإن الكثيرين لا ينسون أن مشاعر الاستصعاب - إذا صحّ التعبير - في تنفيذ الخطة الثانية بالذات كانت هي الشعار الذي ظلّ يرفع ويتردّد طيلة فترة تنفيذ الخطة وحتى اليوم تقريباً. ومع ذلك فقد تمّ تنفيذ نسبة عالية من الخطّة إن لم يكن كلها، وشهدت المملكة حقائق من التطوّر ربما لم تكن تخطر على بال أكثر المراقبين تفاؤلاً وثقة وحسن ظن... وهذا ما أعتقد أننا سنشهده في الخطة الثالثة بالنسبة لهدفها الكبير، رغم أن هذا الهدف هو - كما نعلم - (الإنسان).
وكل مرحلة من مراحل التنفيذ لا بد أن تتكشّف عن سلبياتها، إلى جانب الإيجابيات الكثيرة بطبيعة الحال، ويتعذّر أن ننسى سلبيات تنفيذ الخطة الخمسية الثانية، ولذلك لا أشك في أن القيادات المسؤولة قد استفادت من تجارب الماضي، ووضعت في حسابات تنفيذ الخطة الثالثة الاحتياطات الكافية لتجنّب أهم السلبيات التي ظهرت طيلة السنوات الخمس. ولذلك فمن المستبعد أن يتاح لها الظهور في الخطة الثالثة. بطبيعة الحال.
ممّا قيل من أهمّ سلبيات الخطة الثانية، أنها، شجعت حركة الاستيراد على أوسع نطاق، والتشجيع ليس بمعنى أن القيادات المسؤولة قد مارسته نصحاً أو توجيهاً، وإنما جاء التشجيع من طبيعة المشاريع الضخمة التي تعاقدت الدولة على تنفيذها مع الشركات الأجنبية من جنسيات مختلفة... وكذلك من طبيعة حركة الإعمار الهائلة التي انتشرت في جميع مناطق المملكة، واستلزمت استقدام عشرات أو مئات الألوف من العمّال... كان لا بد لرجل الأعمال أن يستورد وفي حسابه أن السوق رائجة، وأن الطلب على السلع التي يستوردها لن يتوقف... وشهدت الأسواق انتعاشاً لم يسبق له مثيل في الواقع، كما شهدت الأسعار ذلك الارتفاع الصاروخي الذي قلّ نظيره في العالم. وحققت دوائر المال والأعمال عندنا أرباحاً طائلة دون شك، ولكن - رغم ذلك - فقد عانت بعض السلع كساداً استلزم تعطيل رؤوس أموال ضخمة، بل يقال إن هذا الكساد شمل حتى السلع الخفيفة التي لم يكن من المنتظر أن تكسد، لأن طلب ألوف العمال عليها كان ينبغي أن يكون طبيعياً، لأنّها ممّا لا يستغنى عنه.
قالوا إن السلع التي عانت الكساد الثقيل، هي المعدّات الثقيلة التي استوردها التجّار بكميات كبيرة على أمل أن تطلبها الشركات الأجنبية التي تعاقدت مع الدولة على تنفيذ مشاريعها الضخمة فإذا بهذه الشركات تستورد معداتها وتستغني من الثراء من الأسواق المحلّية. وبالنسبة للسلع الخفيفة التي عانت هي الأخرى نسبة ملحوظة من الكساد نتيجة لانصراف العمّال عن شرائها، فقد كان السبب ولا يزال أن بعض هؤلاء العمّال - من جنسيات معيّنة - استقدمتهم الشركات المتعاقدة مع الدولة وضمنت لهم استيراد ما يحتاجونه من البلد الذي قدموا منه. أصلا، وذلك بطائرات تأتي مشحونة بهذه السلع مرّة أو أكثر في الأسبوع.
قلت لمحدّثي عن هذه الظاهرة: إن السبب في عزوف الشركات الكبيرة عن شراء معدّاتها الثقيلة من الأسواق المحلّية، وتفضيل استيرادها بمعرفة هذه الشركات، وكذلك، حرص بعض الشركات على استيراد أغذية العمّال الذين تستقدمهم، واضح جداً، وهو ذلك الارتفاع الصاروخي في الأسعار في أسواقنا... لو أن الشركات وجدت في أسواقنا هذه السلع بأسعار معقولة لما تكبّدت عمليات الاستيراد، ولما كلّفت نفسها عناء استيراد أغذية ولوازم عمّالها.
قال: وما الذي يمنع أن تتدخّل الدولة بترشيد الأسعار، وترشيد الاستيراد نفسه بحيث تكون هناك رقابة على الكميّات المستوردة ومقارنتها بحاجة الأسواق الفعلية؟ فلا يستورد التاجر إلا بحساب، وبقدر حاجة الأسواق.
قلت، ولا أزال أقول: إنها مسألة شديدة التعقيد بالنسبة لي شخصياً، ولذلك فإن المختصين - ولا أدري من يكونون - مدعوّون لإبداء الرأي الحاسم، وهو مطلوب وضروري، ما دامت ميزانية العام الجديد أذنت بالشروع في تنفيذ مشاريع الخطة الخمسية الثالثة.
* * *
ما يتحقق من نتائج العلاقات ووشائج الأعراق والدماء التي تربط بين المملكة العربية السعودية وكل دولة من دول الخليج، يؤكّد ما تتمتع به قيادات هذه الدول من حكمة وبعد نظر، وقدرة على استشفاف ما وراء المستقبل الممتد من احتمالات يفرض أخذها في الاعتبار أنها الدول التي أراد الله سبحانه فأنعم عليها بأن تكون المالكة لأكبر قدر من مخزون الطاقة في العالم... ولأهم طرق إمداداتها، فيتعلّق بها قدر كل دولة محتاجة إلى هذه الطاقة على سطح الكرة الأرضية، ويكاد يستحيل وجود دولة لا تحتاج إليها حتى نهاية هذا القرن، الذي ارتبط كل التقدم التكنولوجي والصناعي فيه بهذه الطاقة وحدها بين مختلف أنواعها التقليدية القديمة، أو التي يمكن أن تستحدث أو تكتشف في مقبل الأعوام.
وإذا كان مجلس التعاون الخليجي الذي شهد العالم اجتماع قمته منذ أيام، واحداً من أضخم المتغيّرات التي شهدتها المنطقة في أوائل السنة الأولى من القرن الخامس عشر، والتي قدّمت للحالمين بنموذج أو آخر من نماذج وحدة الصف أو وحدة الهدف، نموذجاً جديداً لمفهوم وحدوي استهدف الأغراض العملية التي تتوخّاها نماذج أو مشاريع أو أحلام الوحدة أو الاتحاد، متجنّباً التعلّق بألفاظ ومدلولات تقليدية معيّنة، لأن الأغراض العملية في مسيرة التعاون هي الهدف المنشود بالنسبة لكل دولة من الدول الست... فإن التوقيع على عقد تنفيذ مشروع الجسر الذي يربط المملكة بدولة البحرين الشقيقة من الدول الخليجية الست، يعتبر واحداً من أهمّ المؤشرات التي تزيح الستار عن عمق وقوة الوشائج التي تربط بين الدول الخليجية كلّها، بحيث لو قلنا إنها تتجاوز جميع المألوف والتقليدي من الروابط والعلاقات، وإنها تصل إلى حد الترابط الأسري، لما تجاوزنا الواقع في شيء.
والواقع أن علاقة أبناء المملكة، بإخوانهم أبناء دولة البحرين الشقيقة، علاقة أسرية صميمة وحميمة منذ أقدم العصور، وعلى الأخص أبناء المنطقة الشرقية، الذين يجدون في البحرين وعند أبناء البحرين من مشاعر الود و الألفة، بل والتقارب في المشارب والطباع والعادات، ما يجعلهم يشعرون أن حياتهم في البحرين، كحياتهم في المملكة، لا ينقصها الإحساس بالمواطنة، والشعور بالدعة والطمأنينة والاستقرار الذي يتمتعون به في وطنهم. وذلك بطبيعة الحال هو أيضاً شعور أبناء البحرين حين يكونون في أي بلد من بلدان المملكة.
ومع أن للجسر الذي سيربط شاطىء المملكة بتراب البحرين أنواعاً من الجدوى والفائدة التي وضعت في اعتبار المخططين لبنائه، فإن حركة الانتقال بين المملكة والبحرين عن طريق البحر أو الجو يومياً تكاد لا تختلف كثيراً عن انتقال المواطنين في البلدين من حي أو ضاحية إلى حي أو ضاحية أخرى في أي ساعة من النهار. مما يجعل وجود الجسر ضرورياً للتخفيف من المتاعب التي لا يخلو منها الانتقال عن طريق البحر من جهة، ولتنمية أواصر التلاحم بين أبناء البلدين الشقيقين، في مختلف المجالات، والتجارية منها بوجه خاص من جهة أخرى.
ولا شك أن تنفيذ هذا الجسر سيكون إنجازاً حضارياً رائعاً، ليس فقط لضخامة المشروع وجدواه على المدى البعيد، وإنما لأن التفكير في هذا الإنجاز، والإنفاق على تحقيقه، وقبل ذلك اتفاق الدولتين الشقيقتين على وجوده، ممّا يعني إلغاء حاجز مائي عملاق بين البلدين... كل ذلك يؤكد حكمة القيادة في الدولتين، وبعد نظرها وسعة أفق تفكيرها، وإيمانها بجدوى التقارب والتلاحم بين أبناء بلدين شقيقين لم تنقطع الصلة والعلاقة، والألفة والود بينهما قط.
وكلمة لا بد أن تقال، بالنسبة لتكاليف إنشاء هذا السد العتيد. لقد أدهشني أنها أكثر من معقولة بالنسبة لضخامة المشروع والحاجز البحري الذي سوف يقام عليه، وكذلك المدة التي سوف يستغرقها تنفيذه... خطر لي وأنا أسمع رقم التكلفة، أن أقارن بينها وبين تكلفة إنشاء بعض الجسور في مدننا أو في طرق الحج، أو في غيرها... ولكن لذلك حديث آخر أرجو أن أعتمد فيه على معلومات دقيقة، وقد نخرج من المقارنة بأكثر من إشارة استفهام.
* * *
في القرارات التي أسفر عنها المؤتمر الطارىء لوزراء خارجية الدول العربية، الذي انعقد في تونس، قراران، لا أشك في أن العدو، ومعه الولايات المتحدة الأمريكية قد وجدا فيهما ما يصل إلى حد المفاجأة، بالنسبة للمألوف من القرارات الكثيرة التي تصدر من جامعة الدول العربية طيلة مختلف مراحل الصراع العربي مع العدو، وفي ظروف إذا كانت تختلف زماناً ومكاناً وتحدّيات، فإنها لا تختلف عناصر وأسباباً وأجواء، وقبل ذلك بالنسبة لحملة التخويف التي ظلت تمارسها الولايات المتحدة، مستثمرة تهديد مناحم بيجين بضرب منصات الصواريخ السورية، بل، وبالحرب إذا لم تذعن سوريا للتهديد والوعيد فتسحب هذه الصواريخ.
والقرار الأول في تسلسل السياق هو الذي أوضح أن الدول العربية ستقدم لسوريا الدعم اللازم لصد العدوان، وستضع (كل) إمكانياتها بتصرف المعركة، بما في ذلك مشاركة قواتها العسكرية، وفقاً لميثاق جامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع المشترك.
ودعم سوريا، أو تقديم الدعم لها لصد العدوان جزء من القرار يعد في حكم البدهيات التي لا ينتظر سواها، ولا أقل منها كنتيجة للاجتماع الطارىء، الذي انعقد في أجواء الأزمة التي تنذر - أو جعلتها حملة التخويف - تنذر بالانفجار... ولكن إجماع الدول العربية على أن تضع (كل) إمكانياتها تحت تصرف المعركة، و(بما في ذلك مشاركة قواتها العسكرية)، وأضع تحت كلمة (العسكرية) خطاً أحمر، هو الذي تجاوز البدهيات و الأولويات المألوفة، ليضيف شحنة عالية من القوة المنذرة، لا نشك في أنها القليل الذي رأى الوزراء إزاحة الستار عنه، بينما البعض (الأهم) وهو التفاصيل التكتيكية التي تحدد حجم هذه القوات وأنواعها، ومواقع كل قوة لكل دولة من ساحة المعركة، قد ظل من القرارات التي جرت العادة أن لا تلقي عليها الأضواء.
أما القرار الثاني - وهو التاسع في تسلسل السياق - فهو الذي لا نشك في أنه كان السبب في التغير المفاجىء الذي طرأ على خط سير المبعوث الأمريكي، السيد فيليب حبيب، حين اتجه أولاً إلى تل أبيب في الوقت الذي كان مقرراً أن اتجاهه كان إلى دمشق، ثم إلى واشنطن التي ظلّت تؤكّد نجاح المبعوث في مهمته، إلى الحد الذي جعل الرئيس رونالد ريجان يعني بالثناء على السيد حبيب، والإعجاب بنجاحه، وإن كانت الحقيقة الماثلة، هي أن سوريا لم تسحب صواريخها حتى اليوم، بل لم تغيّر من لهجتها المتشدّدة والمفعمة بالإصرار على بقاء هذه الصواريخ حيث وضعت.
إنه القرار الذي لا أجد حرجاً في أن أخلع عليه من خصائص الأهمية ما يجعلني أسميه (تاريخياً) وفريداً بكل معيار. والملاحظة التي يجب أن لا تفوت المعقبين والمحلّلين، هي أن صاحب السمو الملكي، الأمير فهد بن عبد العزيز، حفظه الله، قد أفضى في الحديث الذي حظيت وكالة الأنباء السعودية، قبيل انعقاد المؤتمر، بتصريحات كانت هي الصوت الجهير الذي قال للولايات المتحدة، إن الدول العربية لم يعد في منطقها قبول التعامل مع النهج الأمريكي في معالجة قضية الشرق الأوسط، لأنّ هذا النهج، لم تعد له القدرة على تمرير الحقائق التي اختزنتها الدول والشعوب العربية طيلة عقود من السنين، عن الموقف الأمريكي من عدالة قضية العرب مع العدو، وهي - هذه الحقائق - وباختصار، كانت أميركا وسوف تظل معصوبة العينين، ليس فقط، عن مواجهة الحق والعدل في هذه القضية، وإنما عن أهمية وحيوية وخطر علاقاتها بالدول والشعوب العربية.
وقد جاءت قرارات مؤتمر وزراء الخارجية في تونس، ومنها القرار التأريخي الذي أشير إليه، لتؤكد وتضع النقاط على الحروف بالنسبة للموقف الذي يجب أن تتخذه الدول العربية، وفي مقدمتها - على ضوء تصريحات سمو الأمير فهد بن عبد العزيز - المملكة العربية السعودية من الولايات المتحدة الأمريكية.
قالت الفقرة التاسعة من قرارات مؤتمر وزراء الخارجية: (يدعو المجلس الولايات المتحدة الأمريكية، إلى وقف جميع أنواع الدعم والمساندة لإسرائيل)... وإلى هنا يمكن أن نقول إنها دعوة مكرورة سواء من وزراء الخارجية مجتمعين، أو من أي بلد عربي منفرداً، على مستوى الحكومة أو على مستوى الجماهير،ولكن ما يلي هذه الدعوة، وهو محصلة الدعم ونتائجه كما تفهمها الدول العربية، هو الذي يشير إلى التغير الصريح والخطير، والذي يعتبر الخطوة الأولى من التحرك نحو ((المجابهة)) التي لا يجهل أحد أنها ظلت أمنية الجماهير طيلة سنين كلّما صدمتها مواقف أميركا المتحيّزة للعدو. إذ قال القرار نصّاً: (هذا الدعم يشكل اعتداء على الأمة العربية، وعلى كرامتها ومستقبلها، وعلى الأمن والسلم في المنطقة).
ولم يكتف القرار بهذا التفسير الصريح والقوي لمعنى الدعم الأمريكي وأثره، وإنما انتهى إلى ما ارتفع إلى مستوى (الإنذار) توجّهه الدول العربية مجتمعة، ومن منطق الوصول إلى مرحلة المجابهة، إذ يقول: (إن استمرار الدعم سيؤدي إلى مجابهة جدِّية بين الأمة العربية، والولايات المتحدة الأمريكية).
ولا نرى ما يبيح أن نقول إن هذا الكلام يقصد به الاستهلاك المحلّي أو استرضاء وتهدئة مشاعر الجماهير الساخطة، وإنما هو الكلمة التي لم تجد الدول العربية بدا من أن توجّهها إلى الولايات المتحدة وبجميع احتمالاتها وخطرها على العلاقات، وبكل ما تنطوي عليه هذه العلاقات من المصالح التي بقي على أميركا منذ اليوم بينها، وبين أن تضحي بها وتنسف جميع ركائزها في سبيل دعم عدو تعلم هي قبل غيرها مدى تجاوزه لجميع حدود الالتزام، واستهتاره بجميع الأعراف والقوانين.
وبعد: فقد أعلن البيت الأبيض، بعد أن أسبغ على مهمة مبعوثه السيد فيليب حبيب فيضامن التقدير والثناء، أنه سيعود إلى المنطقة، وفي الوقت نفسه أعلنت سوريا أنها لن تسحب صواريخها، ولم يخيب مناحم بيجين ظن وتوقع ناخبيه وأنصاره والمنتصرين لباطله، من جانبه، إذ ما كاد السيد حبيب يقلع من الشرق الأوسط إلى أميركا، حتى أخذ بيجن يمارس نشاط سلاحه الجوي على لبنان،ويتبجّح فيعلن عن غاراته، وعن الخسائر التي أوقعها في المواقع التي هاجمتها وضربتها طائراته.
وليس من يدري بماذا سيعود السيد حبيب من واشنطن، ولكننا ندري حقيقة واحدة،و هي أن (استمرار دعم أميركا لإسرائيل سيؤدي على مجابهة بينها وبين الأمة العربية) وهذا ما سوف تكشف مضمونه الأيام.
* * *
حق النقض الذي لا تتردد الولايات المتحدة الأمريكية في استعماله ضد أي قرار يمكن أن يصدره مجلس الأمن في صالح الحق العربي الأبلج، أصبح اللعبة القذرة التي لم تعد أميركا تشعر بأي حرج في ممارستها، ما دام ذلك يحقق مطلب العدو الإسرائيلي في تجاوز جميع الأعراف والقوانين. وأعجب ما في سلوك أميركا، أنها لا تلجأ إلى استعمال حق الرفض هذا، إلاّ لتدعم تجاوز القانون، وتخطّي العرف، والجرأة على الحق الصريح.
إن إجماع أعضاء مجلس الأمن على قرار ما، لا يتحقّق إلاّ على أساس من القانون الدولي الذي يفترض أن يحكم كل دولة اعترفت بها الأمم المتحدة، ووقعت على ميثاقها، فإذا رفعت إحدى الدول الخمس التي تتمتع بهذا الحق السخيف - حق النقض - في وجه قرار للمجلس فإن ذلك يعني أن هذه الدولة وقفت في وجه القانون، وضلعت مع الباطل، واشتركت مع الدولة المعتدية في الجرم الذي اقترفته.
فإذا أحصينا المرات التي رفعت فيها أميركا سلاح حق النقض في وجه قرارات مجلس الأمن ضد إسرائيل، بحيث كانت النتيجة إبطال مفعول هذا القرار، واعتباره كأن لم يكن فإننا نخرج بنتيجة لا تدري كيف لم يدرك معها المجتمع الدولي أن أميركا شريكة متواطئة مع العدوان (وعلى عينك يا تاجر)... وأنها في موقف لا يختلف في شيء عن موقف الدولة المعتدية، بحيث تستحق أن تطلب جميع الدول الموقعة على الميثاق، من مجلس الأمن اتخاذ قرار يحمّلها مسؤولية الجرائم التي اشتركت في ارتكابها.
الأعجب في تصرفات أميركا، أنها تتاجر بلعبة حق النقض هذه، بأسلوب رخيص، بحيث تحقق بعض الأرباح التافهة، على حساب التبشير باستعمال هذا الحق عند التصويت على القرار... فعلى سبيل المثال، تقدم (الجنرال) الكساندر هيج، بكل حجمه وأوسمته، ووزارته للخارجية، إلى أفرايم إيفرون، سفير دولة العدو، يوم الاثنين، الرابع من يناير 982، ليبلغه على إسرائيل. وكانت هذه البشرى التي زفّها الجنرال الخطير إلى السفير عندما يتساءل هذا عمّا سوف تفعله أميركا، عندما تطلب سوريا وحلفاؤها العرب صدور قرار بتوقيع عقوبات على إسرائيل في مواجهة إقدامها على ضم مرتفعات الجولان السورية إلى أرض إسرائيل. وليس هذا فحسب،وإنما فوق ذلك، أكد (الجنرال) الهمام، أن أميركا سوف لن تسمح بتوقيع أي عقوبة من أي نوع على إسرائيل، وإن كانت - من جهة أخرى - مضطرة إلى الموافقة على اعتبار عملية الضم مخالفة للقانون.
وتعقب الواشنطن بوست على الخبر، فتقول، إن هذا الموقف، (من جانب الجنرال الهمام) - ويعني البشري باستعمال حق النقض - استهدف، تخفيف حدة التوتر، الذي عكّرت صفو العلاقات الإسرائيلية الأمريكية منذ الشهر الماضي، عندما صوّتت الولايات المتحدة الأمريكية لصالح القرار الذي أصدره مجلس الأمن باستنكار ضم مرتفعات الجولان إلى أراضي إسرائيل. خصوصاً وأن الإدارة الأمريكية، قد أضافت إلى ذلك، تعليق العمل باتفاقية التعاون الاستراتيجي، وأجّلت قرارات الموافقة على دعم المساعدات الخارجية التي طلبتها إسرائيل، لصناعة السلاح.
ومن المشكوك فيه - إلى أي حال - أن تصوت الولايات المتحدة في صالح أي قرار بتوقيع عقوبات على إسرائيل، وكل ما يمكن أن يتمخّض عنه الجهد العربي، هو قرار بالاستنكار والإدانة، وتكرار مطالبتها بالعدول عن قرار الضم. ومن المفروغ منه في نفس الوقت أنها لن تعدل، عن القرار.
ولكن ليس ذلك لأن أميركا ترفع سلاح حق النقض، وإنما لأن العالم، ينتظر من الدول العربية أن تقف موقفاً أكثر فعالية من اللجوء إلى مجلس الأمن... ينتظر العالم من الدول العربية أن تدرك، أن ما لديها من الطاقات والإمكانات، يمكن أن تلعب الدور الأساسي، في مواجهة كل جريمة ترتكبها إسرائيل، وتشترك فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
* * *
قامت قيامة أجهزة الإعلام في العالم العربي، ولم تقعد، ولا ندري هل سوف تقعد أم لا - منذ تناقلت وكالات الأنباء تلك التصريحات التي أفضى بها السيد كلود شيسون، وزير العلاقات الخارجية الفرنسية، عن المبادرة الأوروبية، أو عن بيان البندقية، وذلك خلال فترة زيارته لفلسطين المحتلة.
وهذه التصريحات تضمنت ما فهمته أجهزة الإعلام العربية على أنه تراجع، تنقصه لباقة ديبلوماسية ترك الباب موارباً، عن بيان البندقية، وهو بيان قمة السوق الأوروبية المشتركة عن السلام في الشرق الأوسط.
ومع أن كلود شيسون، زعم في بروكسل أن تل أبيب قد حرّفت تصريحاته، وأكد أنه لا تغيير في السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط، فإن ما يجب أن تفهمه بمنتهى الوضوح، أن فرنسا ومعها جميع الدول الأوروبية التي أصدرت بيان البندقية، كانت تخطط - وراء الجدران - للتراجع عن بيان البندقية هذا، إذعاناً لرغبة الولايات المتحدة الأمريكية، في الإبقاء على فعالية اتفاقات كامب ديفيد. ولم يكن اتفاق الدول الكبرى الأربع، وهي فرنسا وبريطانيا، وهولندا وإيطاليا) على الاشتراك في القوة متعددة الجنسيات التي سوف ترابط في سيناء بعد انسحاب إسرائيل منها في إبريل القادم... لم يكن ذلك إلاّ مؤشراً واضحاً - بل وصارخاً - بأن بيان البندقية قد اعتبر كأنّه لم يكن وأن اتفاقات كامب ديفيد هي التي تدعمها أوروبا، بكل ما فيها من تحايل على حقوق الشعب الفلسطيني، وتمييع لمطلب انسحاب العدو من الأراضي المحتلة.
ولكن، حدث مع هذا التخطيط الدقيق للتراجع من بيان البندقية،أن ظهرت المبادىء الثمانية التي أعلنها صاحب السمو الملكي ولي العهد، الأمير فهد بن عبد العزيز، فكان من الطبيعي أن تتريّث عملية التراجع، وأن تتربّص بالنتائج التي سوف يتمخّض عنها موقف الدول العربية من هذه المبادىء. وأن تحشو عملية (التريث) هذه بومضات من التصريحات التي رحّبت بما سمي (المبادرة السعودية) ومنها تصريحات وتعقيبات لورد كارينجتون ممّا أوهم الساحة الدولية، بأن التنسيق بين بيان البندقية، والمبادرة السعودية، هو الأرجح احتمالاً وهو السبيل إلى إصدار تصريح الوفاة لاتفاقات كامب ديفيد.
ولا نحتاج أن نقول عمّا ذا تمخّض موقف الدول العربية من هذه المبادىء، ولكن لا مناص من أن نعي، أن الدول الأوروبية، قد فهمت، من نتيجة قمة فاس ما نريد أن نفهمه نحن متعلّلين، باحتمال انعقاد الجلسة الثانية لهذه القمة وبخروج العرب بقرار موحّد عن مطلب السلام أو الحرب.
وعلى ضوء هذا المفهوم، لم يكن غريباً أن يصرّح كلود شيسون بما صرّح، ولن يكون غريباً أن تتلاحق التصريحات المماثلة من غيره، ولكن ربّما (بديبلوماسية ترك الباب موارباً) للتخفيف من حدّة استنكار أجهزة الإعلام العربي ولتأمين جو أكثر هدوءاً في مسيرة تنفيذ البقية من اتفاق كامب ديفيد بعد انسحاب إسرائيل من سيناء.
هذا يعني باختصار أن الموقف العربي من المشروع السعودي للسلام، كما أظهرته قمة الساعات الخمس في فاس، هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام تخلّي الكثير من الدول في الساحة الدولية كلّها عن أي مشروع سلام، سوى مشروع كامب ديفيد.
ولكن... ترى هل هذا كل ما في الأمر؟؟؟
هل يصح في منطق الدول العربية التي أصرت على بقاء المشروع السعودي مدرجاً في جدول أعمال القمة، أن يحتاج المزيد من خسارة المواقف، ومن خسارة الدعم الذي كان متوافراً للمشروع السعودي؟؟؟
هل يصح أن نظل مكتوفي الأيدي، بينما العالم يواصل اللعبة بقضيتنا؟ بل يواصل التصرف في مقدراتنا، في غياب أحمق، تصر عليه الدول صاحبة الحق الصريح؟؟؟
* * *
حكاية التباكي على حقوق الإنسان تزيح الستار عن كثير من الكذب الدولي، يكاد لا يختلف عن تباكي بعض النساء للوصول إلى التافه من مطالبهن. الرئيس الأمريكي السابق أكثر من التباكي على حقوق الإنسان، ورفعها في بداية رياسته شعاراً ظن بعض الطيبين من الناس أن أميركا في عهده سوف تقود أعظم حملة للدفاع عن هذه الحقوق التي لا يجهل أحد أنها مهدرة ومنتهكة في أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ولم تمض فترة قصيرة حتى تبيّن للعالم أن بكاء السيد جيمي كارتر على حقوق الإنسان، لم يكن إلاّ لغرض واحد تجري وراء الوصول إليه إسرائيل، وهو تخفيف قيود هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي إن لم يكن إلى إسرائيل، فإلى أميركا... أما حقوق الإنسان المهدرة في أميركا اللاتينية، وفي كثير من دول العالم الثالث، فلم يعلن السيد جيمي، حتى بالإشارة إليها في أي تصريح من تصريحاته أو نداء من نداءاته الباكية على هذه الحقوق.
ولا تختلف أوروبا، بكل حضارتها، وبكل ما ينسب إليها من احترام لحقوق الإنسان عن أميركا، في التباكي على هذه الحقوق باعتبارها التزاماً تقليدياً وقعت وثيقته في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكنّها لا تختلف عنها أيضاً في استثمار هذه الحقوق لتحقيق غرض معيّن ينتهي التباكي، ويتلاشى النداء بمجرد الوصول إليه.
والمفارقة التي تصل إلى مستوى الفضيحة، في الالتزام بصيانة حقوق الإنسان في موقف أوروبا بالذات، ثم أميركا، من هذا الالتزام، هي ذلك الصمت المطبق الذي تلتزمه جميع هذه الدول من المجازر التي يمارسها حكم الخميني على الشعب الإيراني طيلة السنوات الثلاث التي مضت، وخلالها النقد التي تصل إلى حد التهديد بوقف الدعم الاقتصادي بالنسبة للحكم العسكري في تركيا.
وأوروبا تعلم أكثر من غيرها أن الحكم العسكري في تركيا، كان الملاذ الأخير الذي كان لا بد من اللجوء إليه للقضاء على ذلك الصراع الدموي الذي ظل يدور بين اليمين واليسار، والذي كاد ينتهي إلى حرب أهلية، وما ظل يفرزه من فوضى واضطراب، وخطر أصبح محققاً على حياة الأبرياء من السكان في جميع المدن التركية تقريباً. واستطاع الحكم العسكري أن يوقف نزيف الدم، وأن يعيد إلى الشارع التركي حالة الأمن والاستقرار. وكان لا بد له للوصول إلى غرضه، أن يحتجز أو يسجن أو يحاكم كل من يشك في علاقته بمثيري الاضطراب من اليمين واليسار على السواء... لم يكن هناك من سبيل إلى توطيد الاستقرار غير هذا الأسلوب الحازم والحاسم الذي عجزت حكومات الأحزاب عن ممارسته رغم تعدد الفرص التي أتيحت لها.
ومع أن هذا الحكم العسكري، كان يستطيع أن يتحلّل من أي وعد بالرجوع إلى ثكناته، وأن يعطي نفسه الحق في أي تصرف يستهدف صالح الشعب التركي الذي أنهكته الفوضى فاستقبل الانقلاب بكل ارتياح وترحيب، فإن هذا الحكم التزم منذ البداية، بوعد العودة إلى الحكم الديموقراطي بعد أن يوطّد له بدستور يتجنّب ما في الدستور الحالي من فجوات نسب إليها ما كان يقع ويتلاحق من أحداث.
بقي أن العجيب، وغير المفهوم، في موقف أوروبا - والغربية على الأخص - أنها تتباكى على الديموقراطية التي اغتالها الحكم العسكري في تركيا. وتتساءل عن عدد الذين أغلقت عليهم أبواب السجون، وتبالغ لتصل بهم إلى أكثر من 40 ألفاً، وتذهب بعضها إلى حد إنذار زعماء الحكم العسكري في تركيا بوقف الدعم الاقتصادي، الذي تقدمه هذه الدول، إذا لم تعد الحياة الديموقراطية، أو حكم الأحزاب، وتعود قيادات الجيش وقواته على ثكناتها.
لا تفسير عندي، لهذا التناقض، في موقف هذه الدول، من مجاز إيران بالصمت المطبق، ومن استتباب الأمن والاستقرار في تركيا، بالنقد والتباكي على حقوق الإنسان والديموقراطية إلى أن ما تتطلع إليه أوروبا هو أن تعود تركيا إلى نزيف الدماء، وإلى الاضطراب والفوضى، وإلى كل ما يزيدها ضعفاً وهزالاً وتخلّفاً، لأن تركيا القوية المستقرة، وإيران القادرة على استيعاب الحكم الجمهوري بدون مجازر وحمامات دم، بموقع كل منهما في استراتيجية الحرب والسلام دولتان شرقيتان، وشعوبهما شعوب مسلمة، يسر أوروبا كما يسر الدولتين العظميين، أن تظلا غارقتين في وحل التخلّف إلى ما شاء الله.
لست أدري شيئاً عن حجم الدعم الاقتصادي الذي تدفعه أوروبا لتركيا، ولكني أستبعد أن يصل إلى أكثر من ستمئة مليون دولار... وهو حجم ضئيل نسبياً، تستطيع أن تقدمه بعض الدول الإسلامية، للشعب التركي المسلم الذي نتمنى أن ينعم بالأمن والاستقرار تحت ظل الحكم العسكري، أو على حكم يستطيع أن يوقف نزيف الدم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :804  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 202 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.