شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
1 ـ في الهجرة والتهجير أيضاً
2 ـ حياتي في عالم الوظائف
حضرة الأخ الكريم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري المحترم:
تحية تكريم وتقدير
وإني لفي خجل بالغ أمامكم تلقاء تأخري عن إجابة طلبيكم الموجهين في خطابيكم إلي في تاريخين متباعدين. وما كان ذلك يعلم الله عن إهمال أو عدم عناية، ولكني منذ مدة طويلة شاءت المقادير أن أبتعد عن أضواء المحيط الأدبي والصحفي. ولا أعلم عن سبب ذلك إلا ما أحسه من ارتباك في صحتي، واهتزاز في أعصابي، نتيجة لمرض السكر الذي أتى على كياني منذ أربع سنوات، وهو مرض قاسٍ مقلق عندما يباغت صاحبه فترتفع نسبته، وتزداد مضاعفاته، ومتعب في معالجته، ومرهق في حميته، ومضنٍ في مداراته ومراقبته، ومنهك للجسم والأعصاب والفكر في كل أطواره، ولم يهتد الطب حتى الآن إلى علاج حاسم له. وإنه الغريم الثقيل الذي لا ينفك يلازم غريمه من يوم حلوله بساحته إلى نفاد أجله. وقى الله كل سليم منه، وعجل باكتشاف ما يقطع دابره عن كل مريض به.
أضف إلى ذلك تقدم السن الذي يشيع الوهن في قوى الإنسان الجسمية والعقلية، ويجعله يميل إلى الراحة والكسل في كثير من الأحيان. وإني وقد أشرفت على الستين من سني حياتي، وهي نهاية مراحل العمر على الأغلب في المواطن الحارة. فماذا يبتغي الأدباء والكتّاب مني؟! وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم تنزيله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (الروم54) والضعف أو الشيبة متلازمان يقف الإنسان عند بلوغهما تجاه آماله ومراميه موقف العجز والاستسلام، والرضا بالواقع، ومهما عالج وجاهد وكابر فلن يصل جهده وعناده إلا إلى ما وصل إليه الشاعر العربي في أمنيته الحسيرة حيث يقول:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
والآن بعد هذه المقدمة الاعتذارية الذاتية الخاصة، أريد أن أجيبك أيها الأخ الأديب الكريم على أحد موضوعيك وهو: ((ذكرياتي وتجاربي في مجالات الوظائف الحكومية والأعمال الحرة)). وأما الموضوع الآخر وهو موضوع ((الهجرة والتهجير إلى هذه البلاد)). فقد كتب فيه كتّاب مواطنون قديرون. أدلوا بآراء حرة في بيان ناصع ووجهات نظر مختلفة، لا أراني أستطيع أن أزيد على ما جاء فيها من عرض وإفاضة وإيضاح وبرهان. كلها تهدف إلى رعاية الصالح العام للوطن والأمة والدولة. على أني أميل إلى الأخذ قبل كل شيء بتوجيه الأيدي العاطلة القادرة على العمل ذكراناً وإناثاً إلى الحقول المعطلة في مرافق البلاد الحيوية - زراعياً وصناعياً - توجيهاً قسرياً جاداً، حتى إذا ما عملت تلك الأيدي كلها تحت إرشاد وإشراف خبراء أكفياء مخلصين - وطنيين وأجانب. وفاضت بعد ذلك منابع أخرى ثرة في البلاد في أي حقل من حقولها الاقتصادية. حينئذ يدرس موضوع الهجرة وبالأصح طلب هجرة فريق من الأيدي العربية أو المسلمة ذات الكفاءة المختصة والخلق القويم، للعمل في الحقل الذي يراد استثماره وإنماؤه من ينابيع الثروة والغنى في البلاد. ويسن لذلك في حينه على ضوء الواقع الماثل نظام يحفظ للمواطنين حقوقهم تجاه المزاحمة غير المشروعة في مختلف المصالح الاقتصادية، وللمهاجرين حقوقهم في الاستقرار وضمان ما يصبون إليه من كسب مشروع وسعادة واطمئنان في مواطنهم الجديدة تلقاء المشاركة بالمال أو الرأي أو الخبرة أو الجهد في تحقيق ما أتوا له من أعمال ومشروعات تنهض بشتى مرافق البلاد الحيوية وتشيع الرخاء والرفاه بين سكانها. فإني ما زلت أوقن أن في أرجاء وطننا الشاسعة أيدي عاطلة جمة. ومجالات العمل لها لا تزال ضيقة محدودة، وتوجيهها إلى العمل توجيه اختياري متراخٍ لا يشعر معه العامل المتعطل المتسكع بالمسؤولية الوطنية الكبرى القاسية الملقاة على عاتقه والتي تجبره على العمل والمصابرة في غير دلال أو أنفة أو استهتار أو عدم اهتمام ولا مبالاة. كما أن في التسرع في فتح باب قبول الهجرة إلى البلاد قبل التثبت من ضمان الكفاية للمواطنين في جميع أنحاء الوطن في ميادين الأعمال المختلفة، وفي إباحة استيطان الأجانب التي قد تفرضها الحاجة الماسة دون قيود وحيطة.. إن في ذلك كله من المحاذير الاجتماعية والاقتصادية والخلقية والصحية، ما يهون معه كل منفعة ومصلحة مادية تعود على البلاد.
لهذا أرى أن موضوع البحث في طلب هجرة الأيدي العاملة الأجنبية إلى بلادنا سابق لأوانه. وإنما نحن الآن جد محتاجين إلى خبراء فنيين مخلصين يدرسون ويرشدون ويوجهون ويأخذون بناصر أبناء هذه البلاد والأيدي الوطنية العاطلة فيها لرفعها إلى مستوى أسمى وأفضل، وعمل أرقى وأنفع، وحياة أحب وأسعد.
ولأعد إلى موضوع: ((ذكرياتي وتجاربي في حياة الوظيفة الحكومية والأهلية)) وأحب أن أورد للقارئ الكريم، إذا كان يهمه أن يعلم ذلك، إني قضيت حياتي في الوظيفة في ثلاثة حقول:
1 ـ حقل التدريس..
2 ـ حقل الوظائف الحكومية..
3 ـ حقل الوظائف الأهلية..
أما حياتي في حقل التدريس فكانت حياة مليئة بالنشاط وحب البحث والانسجام في الدرس مع الطلبة. وكانت لذتي في هذه الفترة واستمتاعي بالحياة المدرسية العملية مع مشرق كل يوم، رغم ما قد ألاقيه في بعض الأحايين من متاعب الطلبة وشقاوتهم، والطالب خصوصاً في سن المراهقة - وهو غالباً يكون في مرحلة الدراسة الثانوية - صعب المراس، معتد لنفسه، حيث يشعر بتطور حياته ورجولته، يلتمس ثغرات الضعف في أستاذه، ليستخف - إذا استطاع - ويتمرد عليه إذا أمكنه، ولهذا، إذا كان الأستاذ ضعيف الشخصية، مهزوز الأعصاب، قليل الحيلة والحزم في قيادة الفصل الذي يدرس فيه.. يلاقي الأمرين من هذا الضعف من الطلبة الأشقياء والأذكياء، وكثيراً ما تلازم الشقاوة والعفرتة الذكاء والنجابة، وهذا الصنف من الطلبة لا ينفع معه العنف الشديد ولا الميوعة المهلهلة، وإنما تنفع معه قوة الشخصية التي تفرض عليه احترامها وحبها وهيبتها. فيعامله الأستاذ النابه بحزم مشوب بعطف وحسن تقدير وتشجيع ما يأتيه من فضائل ومحامد، ومؤاخذة حكيمة ونقد بارع مؤثر لما يبدر منه من شذوذ ومساوئ وأخطاء. وكثيراً ما رأيت أساليب القسوة والعنف في التربية المدرسية والبيتية.. أدت إلى عكس النتائج المتوخاة منها، وكانت وبالاً وخساراً على الطرفين المربي والناشئ. وخير للمربي والمدرس أن ينمي العلاقة الطيبة بينه وبين من يتولى تربيتهم وتدريسهم، وأن يجعل حسن توجيهه وإرشاده لهم، وبره ورفقه بهم، أساس حبهم واحترامهم له، حتى يكون تعلقهم به أشد وأقوى، وإقبالهم على دروسه أشوق وأتم، وانتفاعهم بها أسرع وأمكن. وحتى يذكروه مدى حياتهم بأطيب الذكر وأحسنه، ويتحلوا بصفاته وأخلاقه، ويتأثروا بأفعاله وسلوكه. وكثيراً ما يكون التلميذ مرآة شمائل مربيه، وجماع شيم أستاذه.
وأنا ما زلت وما أزال أحن وأشتاق إلى عهد التدريس، وأتمنى - لو أن لي من الأمر الآن شيئاً - أن أرجع إلى ذلك العهد . فإني مؤمن أشد الإيمان أن عهد التدريس في حياة أي إنسان عهد رضى يغذي عقله وروحه بغذاء المعرفة الدسمة، ويسير بفكره في آفاق الثقافة الواسعة الخلاقة التي تنير سبل حياته وتحيطه بهالة من العزة والفخار. وبودي لو أستطيع أن أعود أستاذاً أستفيد وأفيد، وأتعلم وأعلم، وأدرس وأدرس، وأزهو بأفواج حملة مشاعل العلم الذين يتخرجون من المدارس التي أدرس فيها ينشرون أضواء الثقافة والمعرفة بين ربوع وطننا العزيز.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :688  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 138 من 143
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.