شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (26)
في عام الرمادة الثاني.. كان عبد العزيز ((عمريا))..
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
عام رمادة ثانٍ، في تحديد الوقت.. وفي المدينة المنورة.. وفي حدود ما عرفت، فالأول كان في عهد.. أصلب الرجال وأقساهم في الجاهلية عمر بن الخطاب وأحن الرجال من الذين طهرهم الإِسلام من جبروت السلطان وصهرهم الإِيمان ليكونوا رحمةً لرعاياهم ليكونوا صناع المعروف، احتراماً للمسؤولية.. لا يريدون بذلك إلا أن يكونوا على الطريق، ليمروا على الصراط لقاء ما أحسنوا من أعمال.. وأحببت أن أسمي العام في وسط الخمسينات عام رمادة، وليس ذلك حصراً لأعوام الرمادة، فإنها كثيرة ولكن بيت الشعر وأهل النجوع كانوا القهر للقهر، فما أكثر العذاب صب على بيت الشعر بأمراض وجوع وتشتيت.
ولكن بيت الشعر بقي على الدهر الودود الولود، والمدد فهو بأنساله الفاتحين وهو بأنساله من موجات المهاجرين، قد ملأ الأرض العربية بالآباء والأمهات والبنين.
فاللغة الشاعرة نشرت فأصبحت لغة الملايين، كأنما هي قد أعطاها إسلامها أن تكون له راسخة القدم، وأن يكون بها راسخ الوجود، الإِسلام قرآن.. والقرآن بلسان عربي مبين.
في عام الرمادة الثاني أدهرت قبائل العرب في شمال المدينة وشرقها فكلهم أصحاب رعي لديهم النعم والغنم يعيشون لها وبها، فالغيث حياتهم، أما من هم غرب المدينة فلا يضارون الضرر البالغ إذا أنحبس الغيث، لأنهم أهل أعمال.. جمالة حطابة فحامة أهل فلاحة، فرحقان ((الفقرة)) لا تجوع لأن الجبل غني بشجره ونخله ونحله.. كما وادي الصفراء كان غنياً بعيونه وأعيانه.
وامتلأت المدينة بالنازحين إليها من ولد محمد ومن بني رشيد ومن مطير ومن إليهم.. وصلوا إليها كما وصل أجدادهم يوم عام الرمادة الأول.. وانتشر الجدري فانقطعت اليد العاطفة من الحاضرة نحو البادية، لكنه الملك عبد العزيز كان عمرياً حين أسس مبرة، في البستان الدامر الداؤدية خارج الباب الشامي وبجانب العطن مأوى الكثير من البادية، كانت المبرة برًّا، وكانت العهدة لإدارتها في يد مدير مالية المدينة حينذاك الصديق ابن المدينة كما هو ابن عنيزة ناصر العبد الله العقيل، أغاثت المبرة الجياع لأن التكية المصرية لا يجد بدوي الطريق إليها فأرغفة العيش مقررات لأناس من الحاضرة، وشربة الرز توزع على بعض فقراء الحاضرة.
دخلت في ضحى يوم على مكتب أستاذنا مدير المدرسة الأميرية زائراً لأني لم أكن فيها بل كنت في دار الأيتام فإذا هو لا يجلس على مكتبه بل كان جالساً يطل على النافذة على الشرشورة بجانب بيت القيم عليها الشيخ حمزة رجب والد تلميذنا وأستاذنا ضياء الدين رجب، سلمت على الأستاذ رأيت الدموع في عينه، قلت ((إيش بك؟ لماذا تبكي)) قال قربت الساعة لقد رأيت جنازة يحملها ثلاث من النسوة ورجل واحد، لم يجد الميت من يحمل نعشه من الرجال فجادت النساء يحملن النعش، قبل دقائق مرت إلى البقيع، إنها جنازة بدوي والنسوة بدويات والرجل أيضاً بدوي، قلت ولماذا لم تصنع شيئاً، عطل الدروس كلف الأساتذة أن ينزلوا ليحملوا نعش ميت عربي مسلم، بل ابن هذه الأرض، قال ليتني فعلت، ثم إني رأيت جنازة بدوي يحمل نعشها رجال ثلاثة، وكان لدار الأيتام دور فكم من يتيم وجدته أنا والأستاذ حسن إسماعيل تحت جدار لا أم ولا أب ولا أحد حملناه إلى دار الأيتام.. ممزق الثوب جلده عليه أوضار من الوسخ، كان مجدوراً شفي أخذناه وإلى الحمام حسن يصب الماء وأنا أغسل الطفل، كان من ولد محمد حسين عرفناه، طلب الأكل كان جائعاً، وكان الأكل فتة عدس قدمنا له صحناً وقفت عليه أنا والأستاذ حسن وهو يأكل حتى إذا أكل لقيمات رفعنا الصحن عنه خفنا عليه من التخمة لأن معدته خاوية، كاد يبكي حين رفعنا الصحن، قلنا له بعد ساعة نعطيك إياه لتأكل.
وهكذا عشنا عام الرمادة الثاني، وليت الألسنة تركتنا نعمل بل كان بعض الظالمين لأنفسهم حرباً على دار الأيتام وأنزل الله الغيث ورجع المعافون إلى مضاربهم وبقي اليتيم في رعاية دار الأيتام. وما أشد سعادتنا أن رأينا رجالاً منهم في مكان مشرف لهم ولنا ولوطنهم.. منهم من أصبح مدير لاسلكي.. منهم من أصبح موظفاً في إدارة الزراعة.
ودعوني أرفه قليلاً عنكم ببعض الطرف.. جادت بها قريحة الأيتام من هؤلاء البدو، لقد كان الزائرون للأيتام من علية القادمين إلى المدينة فقد زارت الدار سيدتان كل منهما من أسرة كريمة وفي مكانة مرموقة، أقبلت الأولى لا تستر وجهها سرت خلفها حتى إذا وصلت إلى الفصل سرت أمامها فلا أعرف كيف أصف سعادة الأيتام برؤية الأم الحنون، سألت عن بعض ما يعرف الأطفال.. تسابقوا للإِجابة.. أدارت وجهها لكي لا أرى دمعة في عينيها وكانت راحمة ما لي لا أذكر اسمها من حقها أن يعرف أهلنا تلك السيدة إنها السيدة مظفرة خالة أبناء فيصل بن عبد العزيز والثانية كانت مثلها حذت حذوها.. رأيت الدمع في عينها مالي لا أذكر اسمها إنها - ولعلّي لم أنس اسمها - السيدة فاطمة بنت عبد الله علي رضا زينل أخت محمد وعلي عبد الله علي رضا زينل، كانت زيارة السيدتين وتبرعهما أمراً جديداً اعتزت به دار الأيتام. وبينما كنت في المكتب ولم يكن عليّ درس دخل علينا رجل من مصر قال أنا صلاح الشواربي أحببت أن أزور أبناء عمي البدو، رحبت به ولم ألتفت إلى هذه العمومة.. مسلم وعربي ابن عم لكل مسلم وعربي وأستأذنته أعد الفصول لزيارته فقد عرفت منه أنه من بيت الشواربي شيوخ القليوبية في شمال مصر وعضو في مجلس الشيوخ، دخلت الفصل الأول أخبر الأيتام باسم الزائر، فإذا رئيس الفصل محمد أحمد الأحمدي يقول ولد عمي الشواربي منا يا أستاذ، وجاء الضيف فأخبرته بمعرفة الطفل له فانشرح صدره، فقال: لعلّي أستأذن الأمير أزور الفقرة. وأردت التثبت تناولت الجبرتي تاريخ مصر فإذا الشواربي في الفصول الأولى ذكره الجبرتي باسم أبو الشوارب شيخ قليوب، وفي الفصول التالية يطلق عليه الشواربي، ولعلّه سكن مصر في عهد محمد علي.
وزار المدينة الشيخ عباس قطان وأقبل يزور دار الأيتام وكان معه أحد أعيان المدينة الذين شبعنا من تعيرهم فهو أحد القائلين. إيش دار الأيتام ما فيها إلا بدو، وكنا نجيب، احمدوا الله ألا يكون من بينكم أيتام، ودخلت مع الشيخ عباس ورفيقه إلى أحد الفصول لم أكن قد بيت في نفسي غرضاً أكيد به بل كان سؤالي عفوياً، أنهضت عبد الله سهلي الرحلي قلت: سمعنا ما تحفظ عن نسب خاتم الرسل سيدنا محمد لأني أعرف عباس قطان وكل المكيين كيف يحترمون وجودهم في المدينة، وأجاب الطفل يحفظ نسب رسول الله، وهنا احترفت الغرض قلت له: من عدنان؟ قال هو جد رسول الله هو جدي فمسح رأسه عباس قطان فقلت عدنان جدك يا ولد. يعني أنت ابن هذه الأرض. قال الحمد لله، ورأيت الهزيمة في نفس المنكر، لم أضحك ويعلم الله أني أستحييت من نفسي كيف أفعل مع الرجل العين طرفة العين.
وأقامت بعثة الجامعة برئاسة الدكتور أحمد أمين حفل عشاء في مسكنهم بالمدرسة الأميرية، كان الأيتام 136 يتيماً.. الدكتور عبد الوهاب عزام يباشر تقديم الطعام للأيتام الدكتور عبد الحميد العبادي يفعل ذلك الدكتور عبد السلام العبادي مثلهما، وأعظم من ذلك ما فعلته بنتان من بعثة الجامعة هما كريمتا أمين لطفي لبسنا السواد على طريقة المصريين حزناً على أبيهما لأنه مات بالاكتئاب حين لم ينصفه بل سلط القهر عليه أحمد نجيب الهلالي الذي حاربه من أجل ذلك صديق أمين لطفي محمود فهمي النقراشي، كانت هاتان الكريمتان تقدمان الأكل للأيتام، أما أحمد أمين فقد وقف لأقف معه قلت له وأنا أرى الأيتام كيف حال الأستاذ الزيات بعد وفاة ابنه رجاء فقال أحمد أمين: لقد أصبح الزيات يتيماً بدون ابنه ودمعت عينه فتعلمت لحظته. لأحفظ الآيات من القرآن الكريم تلاه وهو ينظر للأيتام وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً (النساء: 9) حفظت وامتثلت، لا أجفو ابناً أساء إلي أبوه فكل الأبناء من آباء أساءوا إلي أصبحوا الأحباب والأصدقاء.
أكرمني الله بالقرآن الكريم وكان ذلك مما تعلمته من الدكتور أحمد أمين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :951  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 706 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج