طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (8) |
في العهد العثماني: لا يسعل الموظف إلا بإذن السلطان. |
ـ أستاذ الرياضيات يدرس التاريخ.. والمعمم يفك اللوغاريتمات.
|
ـ مذهب إمام دار الهجرة.. عاش الغربة في دار الهجرة.
|
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها
((
الأنا
))
وإنما كلها الـ
((
نحن
))
.
|
ومن المآخذ التي حسبت على أواخر العثمانيين أنهم، قادوا الشعوب العربية برجال لهم زعامة نصبوا كل واحد منهم حاكماً على إقليم فإذا السلطان يقر هذا بل ويحميه من غضب الشعب، في سوريا (اليوسف) صاحب سلطان في دمشق، وفي لبنان (بشير الشهابي) وفي عكاظ نصب على أغلب فلسطين (الجزار) وفي مصر (الخديوي) وفي تونس (الباي) وفي الحجاز (شريف مكة)، ولم يكن ذلك إلا امتيازاً تقليدياً لهذا الزعيم، ولا يعني الحكم الذاتي للإقليم ولا حتى قبول الشكوى من الشعب، يكفي أن هذه الأقاليم عثمانية في المظهر.. |
وعجيب أن نتهم الاستعمار الإنجليزي والفرنسي بأنه هو الذي قسم أرض الشام ((سوريا.. فلسطين.. لبنان)) إن هذا التقسيم تم في عهد الدولة العثمانية، وظاهرة أشد غرابة أن حاكم الإقليم لا يستطيع أن يعين موظفاً أو يفعل شيئاً من ذلك إلا بعد أن يستأذن السلطان في مركزية صارمة ولا مركزية ظالمة يتمتع بها الحكام، ويفعل بها ما يريد من مطالبه.. ومن قوة هذه المركزية ما حدث بالنسبة لتعيين أستاذ الرياضة في مدرسة المدينة التي أسسها السلطان عبد الحميد، وكان يضيف عليها، كل سنة فصلاً أعلى فاحتاجت المدرسة إلى أستاذ رياضة عالية.. فكتبوا الطلب إلى الديوان السلطاني (المابين) فوصلهم الأستاذ الذي طلبوه معلماً للرياضة العالية، فإذا هو شيخ معمم بكاتاشي، لا يعرف من الحساب إلا عدد المجيدات يقبضها راتباً له، وفي الوقت نفسه طلبوا أستاذاً للتاريخ والأدب فوقعت القرعة أو المصادفة على الأستاذ الرياضي بشير فؤاد، المعمم يقبض راتب الرياضي، والرياضي يقبض راتب المعمم، ووضعوا الحل أعطوا المعمم دروس التاريخ ونهض بشير فؤاد العالم الرياضي بحق يعلم الجبر والمقابلة واللوغاريتمات وكان من أنبغ تلاميذه صديقنا (كامل هاشم) وهو ليس من بيت هاشم الموسويين أهل البيت الكبير في الساحة، وإنما هو اسم أبيه هاشم.. أدى الامتحان صواباً بكل معنى الكلمة، وكان بشير فؤاد يعجب بكامل لأنه رياضي أيضاً، وظهرت النتيجة، كل التلامذة خمس من عشر.. ست من عشر، ولا أكثر، إلا إجابة كامل عليها شرح (برافو.. برافو.. برافو.. أفرين.. أفرين) ووضع العلامة على الجواب الصحيح تسعة من عشرة، فراجعه تلميذه كامل، يراطنه بالتركية.. كيف يا أستاذ تعطيني تسعاً من عشر، لازم أنا عشر من عشر.. فضحك بشير فؤاد، وأجاب تلميذه.. لا.. لا عشر من عشر بشير فؤاد، أنا لما أعطيت تسعاً من عشر يعني أنت بشير فؤاد رقم اثنين).. |
هذه القصة حدثني بها كامل نفسه، وكلمة (أفرين) حرفتها العامية العربية حيث نقول (عفارم عليك) ومادام الشيء بالشيء يذكر فقد كنا نحن الأربعة المحمدين، ندرس الرياضة العالية على أستاذنا حسين طه في سطح المدرسة، نستعين على الفانوس بنور القمر، نصلي المغرب في المسجد.. خطوات قليلة إلى المدرسة.. نركض على الدرج نجد الأستاذ قد جلس، كنا نحيا ذلك والمدينة محاصرة، الدويش في قباء والفرم في العوالي والنشمي في العيون والمدينة محكومة بحكام أربعة كل على حاله.. |
وفي إحدى الليالي ونحن نقرأ، مرت على سماء المدرسة قنابل ثلاث، واحدة بعد الأخرى أطلقتها قلعة (سلع) على جنوب المدينة فقلنا، ليس ببعيد أن تسقط وشهدنا أيضاً - ولله الحمد - الخلاص من التتريك ومن بعثرة الحكام إلى ما نحن فيه الآن.. |
وعن حكام الأقاليم يذكر ساطع الحصري - أبو خلدون يرحمه الله - أنه، ويعني ((اليوسف)) حاكم دمشق والشهابي حاكم لبنان أو هو الأمير والجزار حاكم عكا، قد اجتمعوا في عكا يخططون لثورة ضد السلطان يفصلون فيها الشام عن الأناضول ثم يفصلون الشام قطعة.. قطعة يلبسها الواحد منهم. يقول ساطع الحصري: لقد اجتمع هؤلاء ولكنهم تفرقوا سريعاً لأن قبائل عربية زحفت من نجد على الشام عن طريق بادية الشام، فإذا بهؤلاء الزعماء يرجعون إلى عواصمهم وهم يقولون (الوهابية.. الوهابية)، إن ساطع الحصري يورد هذا الأمر بأن آل سعود وبعقيدة السلف هم كانوا قوميين عرباً، وأنقذوا الدولة العثمانية من الثورة الشامية وعاش ساطع الحصري حتى كانت الشام المعول الأول الذي هدم الدولة العثمانية، كان ساطع الحصري فرحاً بذلك لأنه قومي ولو عاش إلى الآن لترح من ذلك لأنه ليس إقليمياً.. |
الرجال |
والرجال الذين نتحدث عنهم في الذكريات، ينبغي أن يكون الحديث شاملاً عن المكان الذي هم فيه والمكان الذي لهم والإِمكان الذي تسلطوا به، فلهم إحسانهم وعليهم أخطاؤهم.. |
إن المدينة المنورة ظل قضاؤها - أي محاكمها الشرعية وعن طريق الوارثة القديمة للإِمارة ذوي حسين الجمازيين التي عاشت دهراً طويلاً - ظلت هذه المحاكم وقضاؤها على فقه الإِمامية، يعني فقه جعفر بن محمد الملقب (بالصادق) مؤسس المذهب الإِمامي، وعندما اضمحل سلطان الأشراف ذوي حسين، بسبب النزاع فيما بينهم حتى هاجر بعضهم إلى مصر فأقطعهم السلطان - وأحسبه ((الصالح أيوب)) - أرضاً في أقصى الصعيد هي قنا فانتشروا فيها إلى الآن، وبعضهم نزحوا إلى الوارقية والحفنة وبعضهم مكث في العوالي، فحانت الفرصة بهذا العجز وبسلطان القوة التي ملكها (ابن فرحون) فألغى القضاء الشيعي وأصبحت المحاكم على فقه المذاهب الأربعة، حنفياً في الأكثر تبعاً للسلطان وأحياناً شافعياً أكثر ومالكياً أقل وحنبلياً نادراً.. |
وعجيب أن يكون مذهب إمام دار الهجرة قد عاش الغربة في دار الهجرة، قلتها وكنت جالساً في بعض الكليات وفي مكة زائراً وجاء أستاذ طويل عريض قد أرخى لحيته وما صغرت عمامته يقول لمأمور المكتبة الباكستاني: خط مسند أبي حنيفة ومسند أحمد، فقلت بحرقة وأين موطأ مالك؟! فقال الشيخ (بعدين.. بعدين) قلت: لقد أنصفت مالك حين سجلت لنا أنه يعيش الغربة في وطنه.. أحسبك ما ذكرت أحمد بن حنبل إلا تزجية ولا تزكية من هيبة مشايخنا، فازور واكفهر وقال للمضيف.. من هذا.. من هذا؟! ((يعنيني))، قلت له: طالب علم من دار الهجرة وعلى مذهب مالك، فانصرف غاضباً، ولكني أدعو له يرحمه الله.. |
إن ابن فرحون أرخ عن هذه الحقبة وكتابه موجود ومخطوط، فأرجو الجامعة الإِسلامية أن حال ما في أواخره عن طبعه فلينهض رجال يلخصونه تحت عنوان (خلاصة تاريخ ابن فرحون أو ما إليه) خروجاً من الحرج وخروجاً من أن يطبع جزء من الكتاب ولا يطبع الباقي، فالتلخيص جائز، فمن أعاظم الكتب ما لخص.. |
وصنيع ابن فرحون واللفيف الذي التف حوله في داخل المدينة، أشاع نوعاً من الضغط على بعض أهل المدينة القدامى سواء كانوا من الأشراف أو من غيرهم.. |
وسمعنا عن السيد جمال الليل لعلّه من بقايا عصر عبد المجيد وأكثر عصر عبد الحميد أو الجد الأعلى قبل ذلك. جمال الليل ننطقها في المدينة (جمل الليل) هو من أعيان السادة (آل باعلوي) عظم نسلهم في حضرموت كثرة ومكانة وإمكانة.. |
فالسيد في حضرموت له المقام الأول، وانتشر أعيان منهم في ماليزيا وأندونيسيا (كالكاف والسقاف وجمل الليل) وانتشر في المدينة وفي مكة، ولهم احترام كبير، فالحبشي والعطاس والسقاف والبيتي والمحضار والبار وباروم وباجنيد والجفري، كل هؤلاء يحفظون نسبهم وهم أشد الأشراف صوناً لشجرة النسب، وهم من ذرية الحسين بن علي، فالحسينيون أشراف المدينة الأولون وآل باعلوي والبطاطخة والمخادمة في قنا وآل بدر الدين في بخارى والكتانيون في المغرب كل هؤلاء حسينيون. وكان لآل باعلوي امتياز، فشيخ السادة في مكة وفي المدينة هو منهم، وعرفت في المدينة أول شيخ لهم السيد علوي سقاف جد السيد عمر السقاف الوزير ثم السيد عبد الله جمل الليل ثم السيد بافقيه، ولا أدري بعد أن خرجت من المدينة من هو الشيخ.. |
وما ذكرت جمل الليل إلا لأنه حمل عصاه كأنما هو ورث ابن فرحون اشتد ضغطه على الشيعة، لماذا كان ذلك، لو كان الأمر متعلقاً بغيره لما سألت، إن هذا السيد له البيت الكبير قصراً فخماً في مقعد بني حسين على حافة السور الغربي للمدينة بمحاذاة باب المصري، هو من القصور التي تعد، ولا يكاد يشبهه في المدينة إلا بيت البري على حافة العنبرية وأمام مسجد الغمام وبيت الرفاعي في شرق المدينة على حافة السور كأنما بيت جمل الليل وبيت الرفاعي قلعتان، إني أسأل كيف استطاع جمل الليل الجد الأعلى لهذا البيت أن يملك هذا في مقعد بني حسين، وقد كان هذا المقعد سكناً للذين سمي باسمهم، هل اشتراه من مالكه الأول الحسيني؟ ولعلّه كان قصر الأمير، هل ملكه بالوراثة؟ لأنه نمى إلى علمي أن جدته (من بيت سبتي) الذين هم كبيت النحاس والمشيخ من أقدم بيوت الشيعة.. إن هذا البيت يغري كل من رآه أن يقول (يا ليت لي بيت زيه) هو أشبه ما يكون ببيت موسى بغدادي في جدة الذي أصبح مكاتب جفالي ومن إليه، وليس هو شبيه بقصر شبرا أو القصر المشنشن في مكة يعني القصر المحروق (أيضاً ((جفالي أخوان))). |
السيد الصافي |
ومن رجال عبد المجيد ولم يلحقه أذى في عصر عبد الحميد هو السيد الصافي الجفري، عاش كثيراً في اسطنبول وارتبط بصداقة قوية مع جمال الدين الأفغاني وفي عصر عبد الحميد صار شيخاً في المدينة، أنا شهدته عام 34 هجرية ولما أكمل العاشرة كان يركب عربة يدفعها خادمه لأنه لا يستطيع المشي، بنى بيوته في الساحة، واقتنى أغلى المجوهرات يقولون (ثلاث عرايس في المدينة يمكن أن يتحلوا بمصاغ جارية من بيت الصافي) أدوات المائدة ما أحسب أنها موجودة عند أحد الآن، لأن الترف ضاع بشيء من السرف لبسه الاستعجال لا الذوق، ابنه زين صافي الأكبر وابنه أحمد كان أحد الطلائع في المدينة.. |
جعفر حبشي ابن السيد علي، أحمد الصافي، عمر كردي قبلهما، عبد الله مدني، يحيى محروس، حمزة غوث، دياب ناصر، علي ناصر أحمد كماخي، حسن داغستاني، كانوا فبانوا يرحمهم الله. |
وللسيد الصافي طرفة فيها كبرياء، كانت مع السيد أحمد أسعد وللسيد الصافي شهادة عن علاقته بجمال الدين الأفغاني، وجمال الدين الأفغاني يرحمه الله أدى فريضة الحج مسلماً ناصر عقيدة السلف ناضل عن الإِسلام ولكن الطرقيين والمتحذلفين والصبية المغفلين يتسافهون عليه، حتى أصبح الموت لا حرمة له.. |
الطرفة مع السيد أحمد أسعد أنه عندما تولى رشاد واستغول الاتحاديون رجع السيد أحمد أسعد إلى المدينة فزاره السيد الصافي وإذا هو يرى على السيد أحمد (صاقو) أي الجاكيت الذي يرتديه من السليمي أغلى الصوف وأغلى الحرير فلما انتهى السيد الصافي من كرامة التزاور دعا السيد أحمد إلى الغداء في بيته الكبير في الساحة واسمعوا ماذا صنع أو اقرأوا.. (أهي التلفزة والإذاعة حملتني أن أقول اسمعوا بدلاً من اقرأوا؟!). |
أعد المائدة في المجلس الأعلى ليكثر عدد الدرج، لماذا؟ لأنه فرش الجر السليمي من باب البيت عتبة عتبة إلى المجلس الفوقي بهذا القماش الحرير السليمي الذي كان الحزام فيه - في ذلك الزمان بأكثر من مائة جنيه ذهب أفكم قيمة هذا الجر السليمي الذي فرشه السيد الصافي حليته على الدرج تحية للسيد أحمد أسعد أو هو يقول له هكذا صنع لي عبد المجيد فماذا صنع لك عبد الحميد. |
شغل أكابر: |
أما عن جمال الدين فقد كنا عصر يوم عند الشيخ عبد القادر طرابلسي وكان المجتمعون ماجد عشقي حسين طه أحمد صقر محمد زيدان عثمان حافظ، وجرى الحديث فإذا الشيخ يسب جمال الدين لأنه كان صديقاً ليوسف النبهاني، فالشلبي والنبهاني لهما رأيهما في جمال الدين، فقال الشيخ عبد القادر: وهابي جمال الدين ما يحب النبي، فنهض السيد أحمد صقر يقول: لا يا مولانا رأيت بعيني كتاباً من جمال الدين إلى السيد الصافي جاء فيه (لقد أديت فريضة الحج وحبسني حابس الفيل عن المسجد النبوي فأرجوك أن تقف أمام قبر رسول الله تقرئه سلامي تقول ((تابعك خادمك جمال الدين يقرئك السلام)) وأشرقت وجوه واكفهرت وجوه. |
اللَّهم امنعني عن سب الأموات وارحمني بالكف عن أذى الأبناء بسبب الآباء.. |
|