طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (1) |
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس القصد منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية، العهد الحميدي، والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية. فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام، ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها
((
الأنا
))
وإنما كلها الـ
((
نحن
))
.
|
بسم اللَّه الرحمن الرحيم |
والحمد لله فاطر السماوات والأرض. أنعم على المدينة المنورة بنعم شتى، فالهجرة إليها والنصر منها والإيمان يأرز إليها، ضمت جسد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، إذ توفي فيها، كما ضمت الصحابة الأجلاء أنصاراً أو مهاجرين. |
والحمد لله أن كانت المدينة المنورة الدار والإِيمان، لا ينشق عليها إلا ظالم لنفسه، ولا يتجنى عليها إلا من حرم نعمة الحب لتربة الحب، فالمدينة الحب أحبت من هاجر إليها، وأهلها أحبوا من هاجر إليها. والذين هاجروا كانوا هم الحب لها، وكانت المأوى والنصر. |
فمن حق المدينة عليّ أن أكتب ذكرياتي عما شاهدت، وما عرفت، وكيف رأيت من أحوال وأحداث وما عرفت من رجال. ولن أقتصر في ذلك على الثناء والإطراء، بل من حق المدينة أن لا يدفن تاريخ الذين أساءوا إليها، والذين أجحفوا بها، حتى إنهم قد نزعوا من أنفسهم الحرمة لأرض الاحترام. فهل هناك مسلم ليست عليه بصمة المدينة المنورة، هداية ونصراً وعلماً وأدباً؟.. فكيف تسنى لإِنسان أن يلطخ هذه البصمة، يحيل الغرة البيضاء إلى لطخة سوداء؟! |
كل هذا أرجو أن أوفق لكتابته في فصول متعددة عن المدينة ومن إليها وما إليها، وفاء بحقها، وحياة لبعض التاريخ، وتاريخاً لحياة من عاشوا للمدينة، ومن لم يعيشوا إلا على هامشها، فاخرين بأنهم الأبناء وما دروا أنهم لم يفعلوا وفاء الأبناء. |
وهذه الذكريات تباطأت أن أكتبها، فحق علي اللوم والعتاب من الصحاب والأصدقاء، إذا ما سمعوا حديثاً تحدثت به إليهم قالوا.. أكتب. لماذا لا تكتب؟ بعضهم خطأني وبعضهم جرمني ولئن اعتذرت عن الخطأ في وقت ما فإني شاكر هذا التأخر، لأني لو كتبت من قبل لذهب الكثير مما أنا قد أحطت به علماً وفقهاً وفهماً. |
فالبركة أن تأخرت، وما أحسن أن أرفع الخطأ وأرفع الجريمة، أبدأ أكتب هذه الذكريات. |
جغرفة المدينة |
المدينة المنورة روضة، غدير كبير، مجمع أبقعة. فالروضة والغدير وبقيع الغرقد وبقيع الخيل، كل هذا لأنها قد حصرت من الجنوب بالحرة المستعرضة، ومن الشرق بذراع الحرة ((حرة قريظة))، ومن الغرب الذراع اليسرى ((حرة واقم)). أما الشمال فالانسياح حتى أجد وحتى الغابة. |
إن هذا الحصر للروضة، أعني الغدير. أما المدينة المتسعة فهي أعرض وأكبر من ذلك، فبعد الحرة شرقاً تمتد، وبعد الحرة غرباً لا تحد، وشمالاً لها المدد. أما الجنوب فهو متسع لها وإن هذه الجغرفة كانت هي الحافظ للمدينة المنورة، فهي لا تغري من الجنوب، لأن الخيل والجمال ليس لها مجال على الحرة ميداناً يصلح لحرب. وكذلك من الشرق مثل الجنوب. ومن الغرب أيضاً، وبرهان ذلك أن غزوة أُحد كانت في الشمال، أي في المتسع حيث لا حاجز. وغزوة الأحزاب حدد النبي صلَّى الله عليه وسلم مكانها، هو وجيشه بين الخندق و ((سلع)) في شمال المدينة الأقرب إلى غرب المدينة الأبعد، فاضطر المشركون أن يكونوا في مواجهة الخندق، فإذا هم في ملتقى العقيق ببطحان وقناة. أي كما قال المؤرخون ((ونزل المشركون في زغاب مجمع الأسيال برومة))، في مواجهة الجيش المسلم. ونزلت غطفان بقيادة عيينة بن حصن الفزاري في أعلى العيون بين أُحد ومجمع الأسيال. |
إِن المدينة المنورة تحاط بوديان ثلاثة، بطحان ((رانوناء)) يمر وسطها، يسيل من أعلى الحرة، مسياله الآن بين قبا وقربان. ووادي العقيق غرب المدينة، يعانق الحرة الجنوبية، يمر بينها وبين جبل ((عَيْر)) ينساب إلى وجهته بين الجماء وحرة واقم. ووادي قناة يسيل من شرق المدينة يملأ ((العاقول)) الغدير البحيرة، يمر بين أحد والحزوم التي تشرف عليه. |
فهذه الوديان الثلاثة تجتمع في ((زغابة)) تسيل وادياً متحداً، عندها يصبح اسمه وادي الحوش، يسيل إلى الغابة، يأخذ روافده من شعاب أحد، ثور ونقمى، حتى يجانب رضوى، يمر بين خيفين من خيوف ينبع النخل ((المبارك)) و ((البركة))، حتى يصب في البحر. فقد ذكروا أنه حول ((الوجه)). |
فهل هذه الجغرفة، بالنسبة للوديان، لها فائدة علمية، أم إنها لا تزال ناقصة؟ لا أعرف مسيلها الأول، ولا الشعاب التي تمدها، لو سئلت عن مسيل قناة الأول لما عرفت، وعن مسيل العقيق لما أجبت، كما هو الوضع في كل الوديان. |
ولقد بح صوتي وأنا أطالب الجامعات ووزارة الزراعة والمياه أن تجغرف لنا الوديان والجبال والواحات وما إليها في أطالس ننتفع بها. ولعلّ عند وزارة البترول والثروة المعدنية ووزارة المواصلات المادة العلمية من خلال الكشوف التي قاموا بها حين صوروا الأرض بالطائرات. |
مدينة.. أم مدائن؟! |
اسمها مدينة واحدة، ولكن وضعها جعلها عدة مدن. اختلاف السكان، الفصام بين السكان، كل ذلك جعل الساحة وذاروان وحارة الأغوات ومقعد بني حسين وسويقة، والمسجد داخل السور، كأنها مدينة وحدها. |
وكأنما السور حجز الذين عاشوا داخله في هذه الحارات على طراز معيشي ولهجة خاصة ونوازع ملتزمة وعنعنات فاخرة، بل وحتى أنواع الآكال جعلتها مدينة مستقلة. |
واتسعت المدينة خارج السور، فقد كان هناك التزام ألا يقام في المناخة بناء، حتى إن سوق الحبابة والتمارة والطباخة والبقالة وبعض المقاهي وعشة المحتسب (البلدية)، كلها لم تقم على بناء من المدر يفرض له الثبات، بل أقيمت كلها على عشش وصناديق يمكن إزالتها. وجمعت كلها في مناخ واحد خارج السور أمام الباب المصري لا تمتد إلى الشمال، وكل امتدادها إلى الجنوب، بل ولا تمتد إلا قريباً من مسجد المصلى ((مسجد الغمامة))، فبقيت المناخة سوحاً، مقراً لجمال الحجيج والشقادف وما إلى ذلك. وكان ذلك احتراماً للمناخة، لأنهم قالوا لنا إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جعلها وقفاً، منع البناء فيها. |
واتسعت المدينة فإذا البناء يتسع لأحوشة، في الجنوب المحمودية، حوش منصور، المراكشية، التاجوري، التاجورية، كلها في الجنوب لا تصل إلى المناخة، وخارج السور في الجنوب على السمت المنظم نشأت البربورية وأحوشة النخاولة. وكان لوقاية هذه الأحوشة في الجنوب أن تقام حواجز لسيل بطحان ((أبو جيدة))، فهذا السيل أو هذا الوادي كثيراً ما يأتي عرماً، وكان تسيله يطأ هذه الأحوشة التي في الجنوب الغربي ابتداء من حوش منصور إلى التاجور والتاجورية، وأول ما يطأ المحمودية والمراكشية والطيبية. |
وأقيمت تلال من الجص تصد السيل لئلا يطأ هذه الأحوشة، والذي أقام هذه التلال من الجص كان جيدة جد آل برادة، ولعلّي أضيف معلومة أن بيت برادة أسرة قديمة في المدينة هاجروا إليها من القيروان؛ وكان منهم علماء، ومنهم أصحاب قيم في المدينة المنورة، من أشهرهم عبد الجليل برادة العالم وعباس برادة أحد أشياخ المدينة وكان رأساً على ((الوجاق)) الرابع وسيأتي فصل خاص عن هذه الوجاقات. |
وحين أقيمت هذه التلال تصد السيل انساح في مجراه الجديد بين المشرفية وهذه التلال وبين صمد العنبرية ((النقا)) وبين مسجد الغمامة، يسبل حتى يصل إلى المساجد مجراه الطبيعي الأول. |
ومعنى ذلك أن الأحوشة في جنوب المدينة المنورة قد حفظت من وطأة السيل، كما حفظت المناخة والأحوشة التي في الشمال الغربي لأن مجراه الأول يطأ بقيع الخيل، كأنما المناخة أولها بقيع الخيل. |
وهناك خطأ عن بقيع الخيل، ففي بعض النصوص أن مسجد الغمامة ((المصلى)) هو بجانب البقيع، فحسب بعضهم أن مسجد الغمامة في شرق المدينة أي بجانب بقيع الغرقد. وهذا خطأ، فهو على الشرق من بقيع الخيل. |
وحين تحاشوا البناء وسط المناخة بنى أعيان من المدينة المنورة خارج السور وعلى غرب المناخة بيوتاً لهم، كبيت البري على حافة النقا ((العنبرية)) وبيت الياس وبيت الكردي الكوراني والداغستاني وإبراهيم المفتي، بنوا بيوتهم على حافة المناخة، وكان هذا أول ما بنى خارج السور لأن هؤلاء الأعيان من سكان المدينة الأقدمين. |
واتسع البناء مرة أخرى، فنحو الغرب كانت أحوشة العنبرية، حوش سنان (شنان) وقصر مراد باشا الذي تهدم وحوش مناع وأبو ذراع والسلطانية، سواء ما كان على النقا أو ما بني غرب سيل أبو جيدة. |
وابتنوا بيوتاً أيضاً على حافة السيل فيما يسمى النورية، امتداداً لبيوت السيح، ثم بنى زقاق الطيار، حوش قره باش (الرأس الأسود)، حوش وردة، حوش خير الله، حوش قمر، حوش شلبية، حوش هتيم، حوش السمان، أم الورد، المجزرة. |
واتسعت المدينة من الشمال الغربي فكان حوش خميس، القشاشي، الصديقي (علي خضر)، حوش السيد. |
وكانت هذه الحوشة امتداداً لزقاق جعفر والبيوت التي حولها. |
وبعد وصول السكة الحديد وكثرة المهاجرين اضطر بصري باشا إلى فتح الباب المسمى باسمه يهدم السور ويفتح الباب ليتصل سكان باب المجيدي والسحيمي عن طريق يمرون من الساحة أو من زقاق الحبس ليخرجوا من هذا الباب وليدخلوا منه، لأن البناء ابتدأ في باب المجيدي، فبنيت بيوت كثيرة. |
وقبل باب بصري، وحين ابتدأ السلطان عبد المجيد العثماني بعمارة المسجد النبوي الذي تمثل عمارته ما هو باعد الآن ابتداءً من باب الرحمة وباب جبريل إلى المحراب والروضة وباب السلام، فالبناء الجديد في العهد السعودي هو من شمال باب الرحمة شيل الحصوة وما بعدها إلى الشمال. |
ولكي تصل مواد العمارة في العهد الثاني - إلى المسجد فتح باب المجيدي من داخل السور قبل باب بصري. |
من هنا بنى عثمان باشا بيوتاً باسمه، قام على بنائها وكيل عنه محمد حكيم واتسع البناء حول بئر ((حاء)) أول وقف خيري في الإسلام أوقفها صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أبو طلحة. |
هذا الاتساع جاء من كثرة المهاجرين الذين بنوا هذه البيوت، مغاربة وتركستانيين وأناضوليين ومصريين ونجديين. ويعني ذلك أنهم جاءوا بمال، هاجروا من أرضهم بأموالهم فأفتنوا وبنوا. أما الأفارقة السمر ونسميهم في المدينة ((التكارنة))، وهذه اللفظة محرفة عن لفظة ((دُكرور))، فالعرب الأوائل يطلقون على إفريقيا ((أرض دكرور))، وانحرفوا عن هذه اللفظة في مصر فكانوا يسمونهم أخذاً من لغة الفرنجة ((نيقرو))، فقد هاجر من هؤلاء الأفارقة إلى المدينة كثيرون جاءوا للحج فسكنوا المدينة وكان لهم صولة تحت زعامة الشيخ الألفا هاشم، لأنه حفظ بقاءهم في المدينة لا يخرجهم فخري باشا منها، فتم للألفاهاشم الفوز حين رضي فخري باشا أن جعل هؤلاء ((التكارنة)) جنوداً دربوا فكان منهم ضباط كبار. كما أنهم بقوا جنوداً في حكم الأشراف حتى أصبحوا هم الحراس لأمير المدينة الشريف علي بن الحسين. |
إن هذا التنوع في سكان المدينة له ما بعده فيما يتم شرحه في الفصول التالية. |
الأحواش |
ولعلّ من الجغرفة للمدينة المنورة أن نحيط القارئ بما تم من سعة لها وذلك حينما أضع أمامه اسم الحوش ولماذا بني.. وما أكثر عددها.. حين كانت المخافة مسلطة من البادية على الحاضرة وأحيطت المدينة الأولى بالسور بنوا بيوتهم داخل أحواش، خلف البيوت سور وواجهة البيوت على الحوش، فالمدينة داخل السور لم تخل من الأحوشة حذراً واحتياطاً وصوناً.. فبداخل السور وعلى أول الساحة حوش الباشا، ولعلّ نسبته كما سمعت إلى عبد الرحمن إلياس.. وأكثر سكانه من أهل القصيم.. ثم حوش فواز وسقيفة الأمير وزقاق الطوال وزقاق الحبس وحوش الجمال.. وبعد الخروج من الساحة جنوباً بشهان العينية، وقد كان مغلقاً داخل السور ولكن فتحه فخري باشا ينصب في وسطه قضبان السكة الحديد.. يدخل منها القطار إلى المسجد.. يحمل السلاح والذخيرة، أي إن فخري باشا جعل المسجد النبوي مستودعاً للذخيرة لأنه يخاف من طائرات الإنجليز حلفاء العرب حينذاك أن تلقي قنابلها على القلعة، فكان من حماقة الرأي أن جعل المسجد النبوي أي في شماله مستودعاً للذخيرة.. وهو لم يحسب حساباً أن قائد الطائرة الإنجليزي إذا ما أراد أن يدمر الذخيرة لا يسأل عن المسجد. وبعد العينية سقيفة الرصاص، زقاق الزرندي، زقاق الخياطين، ثم إلى الجنوب ((بروان)) أي ((زاروان)) لأن البيوت بنيت وبقي هذا الاسم لأنه كان يطلق على بئر زاروان جنوب البيوت وعلى طريق باب العوالي.. وكانت خلف البيوت بئر زاروان التي تحدثوا أن الساحرة اليهودية دفنت السحر فيها.. غابت عنها عصمة الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلم وتأتي بعد ذلك حارة الأغوات كأنها مدينة وحدها وهي شرق المسجد وفيها بيت أبو أيوب الأنصاري وغازي باشا والشعاب أبو الجود والغالي ثم باب المسجد المجيدي وباب السور المجيدي وعلى زقاق البدور بنيت المدرسة الإِعدادية وبيت الشيخ العزيز ابن الوزير وبيت الرفاعي. وفي داخل ((جوا)) المدينة.. السوق، الشونة مقعد بني حسين، كلها أزقة وأحوشة كفلت الحماية، وفي حلقة ثانية الأحواش خارج السور. |
|