شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الغربال.. وغربلة حارات مكة (1)
بقلم: عبد الله محمد أبكر
كرمت جامعة أم القرى بمكة المكرمة ضمن سلسلة تكريمها لرجال العلم والأدب في المملكة أديباً عزم على البحث في مختلف جوانب الأدب والاجتماع، هو الأديب الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324-1360هـ).
لقد انبرى الخوجه في عصره صحافياً وكاتباً وأديباً ومعالجاً لكثير من القضايا والعادات والتقاليد، وعلى وجه الخصوص (المسائل الحاروية)، فطرق برأيه وقلمه ما لم يطرقه روّاد الكلمة في عصره، وسجل حقائق أدت إلى رفع بعض المفاهيم في الجوانب الاجتماعية المكية في حين ظن البعض نصبها.
لقد عرف (الغربال) دور الصحافة حين تهتم بمعالجة مشكلات الناس في البيئة الاجتماعية يطرحها للنقاش، واستقطاب الأذهان المفكرة لتداول الآراء حولها، كان يرحمه الله يملك رؤية ثاقبة تستكشف زوايا الحاضر فيعرض ما يجد فيه من شوائب يحس بخطورتها على مجتمعه ثم يبدي الرأي حولها، ويناقش بسعة صدر الرأي الآخر الذي قد يعارضه.
وقد كشفت الأيام صدق حسه، وبعد نظره في استشراف آفاق المستقبل البعيد.
والغربال: اسم اختاره أديبنا الراحل ليخاطب به مجتمعه، ولما لهذا الاسم (المستعار) من دلالة توحي بمصداقية طرح صاحبه، ومعالجة القضايا الحياتية اليومية بمنظار النقد الاجتماعي الموضوعي لتنقية عادات المجتمع من الشوائب تماماً كما ينقي (الغربال الحَبّ) (2) .
وأثناء قراءتي مجموعة أعمال الغربال الكاملة لم أر من بين الذين عاصروه وقرؤوا له تلك المسائل من عقب عليها منقباً ومؤيداً بخلاف سائر أعماله الأخرى التي لاقت أقلاماً مؤيدة وأخرى معاتبة ومنتقدة، وقد دون تلك المسائل الحاروية بصدق ورحابة صدر.
وبهذا قد أقول دون مبالغة إن (المسائل الحاروية) (3) يتيمة دهر (الغربال).. وفريدة عصر فتوة الرجال، والحقيقة التي وجدتها من بين ثقوب هذا الغربال المكي والتي لم يكن في تصوري أن أقرأها في الكتابات المكية. بل مما يؤكد تصوري هذا ما قاله -الغربال: (إن مدوّني التاريخ الحجازي أهملوا المسائل الحاروية إهمالاً ضاع عليه بسببه كثير من الحوادث التي نعتقد أنها لو دونت لاستطعنا أن نعرف منها كثيراً عن حالة الحجاز الاجتماعية.. إلاّ أن بعض مؤرخي الحجاز تطرق لذكر نتف يسيرة من هذه الأخبار، فقد ذكر الفاسي في تاريخه شفاء الغرام، وابن فهد في إتحاف الورى، والسنجاري في منائح الكرم، والغازي في إفادة الأنام، وغير هؤلاء ممن لا يحضرني ذكرهم بعض الحوادث الحاروية التي كانت تقوم فتن عظيمة بسببها والتي كان لها اتصال بالسلطة الحاكمة. أما المنازعات التي كانت تنشب بين الحارويين أنفسهم فقلما تعرضوا إليها بخبر اللَّهم إلاّ النزر الحجازي اليسير.. أما العوائد -العادات- والقوانين الحاروية فقد بقي أمرها مجهولاً في التاريخ، أقول هذا لأني لم أطلع على شيء من ذلك (4) .
وفي موضع آخر من تلك المسائل يرى الغربال أنه من الواجب التعرض للتاريخ الحجازي واتصاله بهذه الحوادث، لأن هذا النوع الحاروي كانت له أعمال عظيمة أريقت بسببها دماء وسلبت من أجلها أموال، وأزهقت على أثر حدوثها نفوس.
وإننا نأسف أن مؤرخي الحجاز قد أغفلوا تدوينها فبقيت في طي الخفاء فذهبت الأيام بأكثرها.. وستذهب الأيام المقبلة بالبقية الباقية.
وأصبح الذين هم في سن الشيخوخة يحدثوننا ببعض الحوادث التي شاهدوها بأنفسهم أو سمعوها من المسنين الذين عاصروهم في شرخ شبابهم ولكن إذا ما أتى كاتب ليدوّن خبر حادثة نجده يقف حائراً أمام أخبار متناقضة والنتيجة التي يخرج بها من وراء هذا التناقض هو فقدان الثقة بمن يروي له أخبار حادثة من الحوادث، وقد تكون حافظة الراوي هو نفسه المحدث ذلك التضارب، والمؤرخ مهما أدق في نقل الحوادث كما سمعها ويشاهدها فيجب أن يكون محققاً وممحصاً قبل كل شيء، لما يقرؤه وما يحدث به لأن التاريخ أشرف وأعظم أن يسجل الأخبار المدوّنة لغرض شخصي والمبثوثة لنزعة خاصة.
وعلى الرغم من أن هذه المسائل الحاروية (مغربلة) إلاّ أنني تريثت وجمعت بعض ما تساقط وتناثر من الغربال إلى أن خرجت بجديد، مما رفع عن قلمي الحرج في تسجيل ما لم يسجل ويغربل بالتدوين.
وقد تناولت في كتابي (صدى الأيام ماذا في حارات مكة؟) بعض الجوانب والمسائل عن أحوال وأوضاع أهل الحارة، مثبتاً مكانة أهل الحارة وشهامتهم وأخلاقهم، ونافياً بعض ما يرمون به من سخرية ونقص وجرح. وكان سبب تناولي تلك الأخلاق والقيم الاجتماعية لا للتعصب، بل لكون بنية المجتمعات تولد على الفطرة فأهلها إما أن يصلحوا أو يفسدوا، ثم ما انحرف وشذ من بعد وخلف سلبيات أخلاقية أو غيرها فتلك أمور ثانوية ولاحقة ولا يحمل صفة العموم المستمر. وهذا ما سيتضح لنا من خلال ما وقع في يدي وهو: المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه (5) .
وقد شعرت من مصداقية طرح (الغربال) لهذه المسائل وكأنني الشخص الوحيد الذي وقف على كنز حاراتي لم يقف عليه أحد قبلي.
وما طرحه (الغربال) من المسائل الحاروية المهمة كان لا بد لكتاب (صدى الأيام) أن يقف عندها متناولاً ومستشهداً، لتكتمل بعض هيكلة بعض جوانبه التي يتحمل ألواناً من الأشجان والذكريات الجميلة.
وفي هذا إشارة وإشادة بطرح الغربال المنفرد بجرأته على أسماع وأنظار من قد يمتعض منها.
أما ما غربله الغربال من المسائل الحاروية لاستقصاء الحقائق فذلك ما كان ينضح به إناؤه المكي، فتناوله للمسائل الحاروية دليل على عمق معرفته بما يدور في الحياة الاجتماعية المكية في عصره، من أدب وعادات وتقاليد وغير ذلك وكان لا بد أن يشير إلى بعضها بالإشادة، وينفي بعض ما كان يدور بين أفراد المجتمع من سلبيات، إما لاستنادهم إلى عادات وتقاليد لها صلة بعادات مرفوضة دينياً واجتماعياً وغيرها، أو لخروجهم عن مألوفات كان لها أثر الإيجاب وسائدة في ذلك المجتمع.
نعم هناك سلبيات لا تخفى أو بالأصح لا يمكن إخفاؤها ولكننا لا نخفيها ليتسنى لنا وصف أهلها بالعصمة أو بالصفة الملائكية، هذا بعيد جداً ولا يعقل، ولكن أيضاً لا يمكن أن نفسح المجال ونفتح الباب أمام كل من يأتي ليتهم أبناء الزمان بطمس الحقائق، أو يرميهم بالجهل العام بإيجابيات اجتماعية أصيلة، وينال من حقوقهم الاجتماعية أو غيرها.
إذن لا يخلو زمان ومكان من صالح وطالح، وهذه حقيقة باهرة لا تفتقر إلى أدلة وبراهين، ولكن أن يؤخذ قوم بجرائر أقوام آخرين فذلك ما لا يقره العقلاء والمنصفون. ولهذا سوف نورد هنا أهم ما سجله الغربال في مسائله الحاروية من التنازعات والزعامة والعصبيات الحزبية في حارات مكة، وقبل أن نورد حرفاً واحداً من كلامه، لا بد أن نبحث سبل الوصول إلى مراده الأصلي من طرحه هذه المسائل، مع أنه يقول (مرادنا من هذا البحث أن نلم ولو بطرف من المسائل الحاروية، وفروعها للحقيقة والتاريخ، لا أكثر ولا أقل وعسى أن نوفق فتبرز صفحة صادقة لهذه المسائل).
فإذا وصف الغربال -وهو شاهد عيان- بأن بعض ما يحصل من السلبيات في الحارات إنما كان ذلك عن طريق فئات شاذة ومعينة، ووجود هذه العصبيات الحاروية إنما كان لداع أمني في ذلك الوقت ولما فيه من خلافات وصراعات قائمة بين الحكومات والسلطات في الحجاز، أما بعد ذلك فلم تكن هناك حاجة لبقائها في زمن ساد فيه الأمن، خاصة بسلطة الحكومة السعودية القائمة، فقد استقامت الحياة والأمور الاجتماعية وتلاشت تلك العصبيات بكل ما تخلفه من سلبيات اجتماعية واقتصادية وغيرها، ولذا هو يؤكد ذلك بقوله: (يؤلمنا أن نقول أن هذا التيار الحاروي لم يقتصر على حارة دون أخرى ولا على مدينة دون ثانية بل سرى في أكثر المدن الحجازية فانقسمت كل مدينة على نفسها وأخذ كل قسم منها يشايع القسم الآخر ويشاركه البأساء والضراء، وهذا التشايع لا يزال معروفاً حتى اليوم ويدور حديثه في المجامع الحاروية في أكثر الأحايين، ولا تزال بعض حارات جدة تشايع بعض حارات مكة، وكذلك الأمر في المدينة والطائف.
وهذا التشايع قد نال من قدرات البلاد الاقتصادية فذهبت أموال عديدة ضحية التفاخر. كما أنه قد ولد حزازات في النفوس، ولولا القوة الحاكمة في الوقت الحاضر -أي الحكومة السعودية- لاحترق هذا الوطن بشررها المستطير ونارها الحامية) (6) .
ويقول أحمد السباعي: وأعتقد أن هذه الظاهرة (التنازع الحاروي) كانت شائعة في هذا العهد في أكثر بلاد الشرق الأوسط نتيجة تساهل حكامهم العثمانيين في ذلك الوقت (7) وبعد توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز آل سعود، أي في عام 1351هـ، عاد الأمن إلى الحجاز بعد فقدانه. أما أسباب نشوء تلك النزاعات والعصبيات الحاروية فيذكرها الغربال بقوله (والذي نذهب إليه أن النزاع الحاروي نشأ في أول مرة بسبب شجار داخلي بين أسرة واحدة، قامت على إثره أحزاب متعددة فكان لكل حزب مشايعون في حارات مختلفة، تميل -في الأكثر- إلى أن هذه الأسرة كانت ذات سلطة إدارية في البلاد).
أما تاريخ النزاع الحاروي فهو قديم جداً، وأن بعض ما ذكره الفاسي من الحوادث في تاريخه شفاء الغرام يدلنا على أن النزاع الحاروي كان موجوداً في زمنه، والفاسي كان في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجري، إلاّ أننا نؤكد أن النزاع الحاروي كان في زمنه ضعيفاً جداً.
كما أننا نميل إلى أن الذين كانوا يديرون رحاه هم موالي الأشراف (8) . والحقيقة أن كل ما نقوله -عن الأسباب الحقيقية للنزاع الحاروي وابتداء تاريخه ليس استنباطاً أو استنتاجاً، وربما يكشف لنا المستقبل شيئاً جديداً نعدل بسببه عما ذهبنا إليه الآن، إذ القصد الوحيد من هذا هو تقصي الحقيقة وإظهارها ونرجو من كل باحث ومحقق أن يتفضل بنشر ما لديه من وثائق صحيحة ونظريات معقولة خدمة للحقيقة والتاريخ (9) .
وإنني أقدم لك التبجيل أيها الغربال الأصيل، مكرراً أسفي على عدم وجود من بحث وغربل هذه المسائل بمثل هذا الطرح. وإذا كان الأمر كذلك فمن لي بالحقيقة التي سوف أعدل بسببها عما ذهبت إليه آنفاً.
هذا مع إثباتك بقولك (لقد ذهب الكثير من الناس مذاهب شتى فيما كتبناه عن هذا الموضوع وحملوه محامل سيئة لم نقصدها، ولم نرم إليها. والحقيقة إن الذي دفعنا إلى ذلك هو الرغبة في تدوين عادات وحقائق واقعية للتاريخ من جهة، ولأن المسائل الحاروية في الوقت الحاضر خف أمرها من جهة ثانية، وطول المدة والتطوير النفساني سيذهب بما كانت تحمله من عادات وتقاليد، وقوانين وغير ذلك، من جهة ثالثة لأجل ذلك أحببنا أن نأتي عليها كمدونين لا أكثر ولا أقل والله من وراء القصد) (10) .
فإذا كانت تلك المسائل قد خف أمرها آنذاك، فالآن قد زالت وخفي أمرها تماماً. لقد محيت بكل ما كانت تحمله من عادات وتقاليد منبوذة خلفت سلبيات كثيرة، ولكن كان بعد ذلك بروز إيجابيات كثيرة نتيجة الأمن الذي مهدت له الحكومة، ولهذا نجد (الغربال) يذكر في موضع آخر بعضاً من عادات وتقاليد الحارة الاجتماعية التي غمرت وسادت أهلها بإيجابيات كثيرة نفعت المجتمع منذ ذلك الوقت، كما نوّه أيضاً إلى أن ذلك التنافس الحاراتي هو السبب في تكوين التضحية والنخوة والشهامة الحاراتية إذ يقول: (الحارة وأعمالها ملكت على كثير من الناس مشاعرهم وقلوبهم فضحوا بكل عزيز وغالٍ في سبيل ذلك، فهم ينفقون أموالهم عن طيب خاطر وسماحة نفس من أجل الحارة وفي سبيلها، وإنما نميل إلى التنافس الحاروي لأنه هو السبب الأساسي في ذلك، والرجل الحاروي نجد فيه النخوة ما لا نجده في غيره، فهو في الحريق يقذف بنفسه في وسط النيران غير هياب ولا وجل وإذا استنجدته أنجدك، وإذا طلبت منه قضاء أمر قام به وإذا دخلت عليه في أمر دافع عنك بماله ونفسه، والحقيقة أن فيهم كثيراً من العادات والصفات الجميلة المحمودة الموروثة عن العرب وكما أن لهم حسنات فإن لبعضهم شيئاً من السيئات، والعارف لا يعرف) (11) .
وبهذا يتأكد لنا عدم تعميم تلك السلبيات في ذلك الوقت على الجميع فضلاً عن نقلها إلى الحاضرين في يومنا هذا أو وجودها بينهم.
وهذا أيضاً مستشف من إشارته التي اكتفى فيها بإثبات بعضها، وذلك بقوله (العارف لا يعرف) ولأن ذلك الشاذ لا يتخذ ذريعة إلى تعميم حتى بعض الشذوذ -أخلاقياً أو اجتماعياً وسياسياً- على عامة الناس.
وتعطي أيضاً هذه الجملة (العارف لا يعرف) معنى من معاني (عفا الله عما سلف) فهو يقدمها بصورة بريئة وبعيدة عن أي اتهام، كما يجد العارف الذي لا يعرف من خلالها شعوراً جديداً ربما أمسك عن إخبار بعض ما يعرفه من سلبيات طارئة، وربما كان ذلك حداً وسداً من زيادة انتشار سلبيات قد تكدر على السامع صفو الحياة، وهو في غنى عنها وقد ذكر الغربال هذه العبارة (العارف لا يعرف) في بضعة مواضع من غربلته الكتابية.
يقول قائل ما فائدة كتابة وإثبات تلك المسائل الحاروية المليئة بكثير من السلبيات؟ فنقول إن ذلك يأتي من وجه لضرورة الأمانة التاريخية، ومن وجه آخر للأخذ بالاعتبار، فالعبرة هي المادة المستنبطة والمستخلصة من إيجابيات وسلبيات الأحداث والوقائع الماضية، ولو لم يسجل التاريخ لنا تلك السلبيات لما اهتدت الأجيال الحاضرة ولا اللاحقة إلى إيجابيات مختلفة حميدة. وكما للسرور والأفراح والنعم وما يتبعها من فوائد جمة، كذلك للشدائد الأضرار أو المكاره والأشرار فوائد جمة.
وقد يقول قائل وكل متبصر منصف: لماذا الوقوف على مثل هذه السلبيات فقط دون النظر إلى سلبيات أخرى هي أعظم من هذه وألحقت أضراراً بالإسلام والمسلمين، من حروب واعتداءات ومقاتلات في بلاد الحرمين سفكت دماء كثيرة، منذ صدر الإسلام إلى القرون الأولى إلى وقتنا الراهن؟ إذا استقرأنا التاريخ المكي على مر العصور، رأينا بعض بيات بأحجام تلك الجرائم والمعارك التي أزهقت الأرواح، وذهبت بكثير من مشاريع مصالح الدول والحكومات السياسية والاجتماعية وغيرها في تعاقب الأزمان إلاّ أن هذه السلبيات أو بعضها كانت سياسية ودينية بحتة، ولم تكن اجتماعية بحتة كما أشار الغربال إلى ذلك سابقاً.
ولنرجع إلى الغربال ليعرج بنا إلى لون آخر -تفرد بذكره أيضاً- من النزاع الحاروي المحمود لأنه نزاع حدودي جغرافي، ولأنه يدل على اعتزاز أهل الحارة وحبهم لما ينتمون إليه، فالجميع يريد إحراز شرف الانتساب إلى البقاع خاصة المجاورة لبيت الله العتيق، يقول أديبنا الغربال (لا تزال الحدود في نظر الدول حجر عثرة في طريق السلم ولا يزال أمرها من الأسباب الأساسية الوحيدة للمنازعات التي لا تنتهي في كثير من الأحيان إلاّ بعد أن يحكم فيها السيف والمدفع، والمطامع الاستعمارية وحب التوسع يتخذ له منازعات الحدود طريقاً، ولنا في التاريخ عدة شواهد. فكما أن للحدود في نظر الدول هذا التأثير، وتلك منزلتها فهي كذلك في نظر الرجل الحاروي، والفارق بين الاثنين -الدول، والرجل الحاروي- هو أن الدول تعتمد في أكثر الأحيان على المفاهمات السياسية علّها تتوصل بذلك إلى حل مرض بغض النظر عن الصيغات السياسية التي تضيع بها تلك المفاهمات -أما الرجل الحاروي فالحل عنده ضرب العصى في الحال، وتحديد الحدود في الحارات أمر قضت به أوضاع البلاد الإدارية فيه، وقد قسمت البلدة الواحدة إلى أقسام متعددة وأوكلت كل قسم منها إلى شخص معين (كان يطلق عليه في الأزمنة السابقة شيخ الحارة، وفي عام 1346هـ أطلق عليه عمدة الحارة ولا يزال ذلك حتى اليوم.. ونزاع الشبيكة والمسفلة على السوق الصغير المتنازع عليه اليوم قديم ويرجع إلى القرن الثالث عشر. وقد وصل الأمر إلى أن عقدت عدة اجتماعات على يد أشراف مكة وكبرائها، وهذا يجب أن أقف -الكلام لأديبنا بالقلم كأنما في قلبي كل ما لدي من معلومات ما تحصلت عليه من روايات، وما وجدته من مدونات ما دام أمر النزاع الحالي لم ينته بعد، ولم يبت فيه وموعدنا بذكر ذلك مفصلاً عندما ينتهي الأمر وما ذلك ببعيد) (12) . ولم أدر ما إذا كان أديبنا الغربال لم يمهله الأجل ليقف على ما وصل إليه النزاع على هذا السوق، أم أنه وقف على ذلك ولكن لم يدونه في الفترة المتبقية من حياته؟
وقد بت الأمر أن جعل السوق الصغير من حارة الشبيكة، فالسوق لو نظرنا اليوم في جغرافية الشبيكة لوجدناه منها أو جزءاً منها. فقد أكد لي عمدة الشبيكة الشيخ حمزة عالم أن السوق يعد جزءاً منها، أما المكان الذي ضم إلى المسفلة الآن هو محلة الهجلة وقد كانت الهجلة شارعاً تتفرع عنه أزقة ومطالع، وهي جزء من حارة الشبيكة في الستينيات من القرن الرابع عشر الهجري، إلى أن فصلت أخيراً فأصبحت حارة مستقلة.
والشبيكة اليوم في التقسيم الجديد لإحياء مكة تشمل ما يلي: جبل عمر، جبل الشراشف، وجزء من جبل الناقة، والحفاير ودحلة الرشد.
أعود وأنا على مقربة من الختام أن تسجيل تلك المسائل بما فيها قد لا يمت بعضها إلى العادات والتقاليد الاجتماعية الحميدة بصلة ليس في إثباته ضرر بل قد يعطينا كما أسلفت ويفتح لنا أفقاً وبحبوحة في العزم على نهج إيجابي جديد.
وإنما يكمن الضرر في أن نظل محزونين ومنددين بأخلاق سيئة نعطيها جل اهتمامنا وهي ليست موجودة البتة في ثنايا حياتنا في أيامنا هذه، وكان الواجب علينا الاعتبار والسير بالهمم والجدية الذاتية الحديثة في سبيل تحقيق الإيجابيات المفروضة علينا ضمن مسؤولياتنا الفردية والاجتماعية.
ولو كانت تلك السلبيات موجودة بيننا الآن هل يعني ذلك أو يلزمنا التنقيب والركض خلفها، لننبشها ثم الإساءة إلى أصحابها دون قمع ورد تلك السلبيات ودون العبرة والاعتبار بأصحابها، وإذا فعلنا فقد أسأنا إلى أنفسنا. وآخر القول تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ (البقرة: 134) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (فاطر: 18) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى (النجم: 39-41).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :361  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 146 من 153
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.