شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
على هامش المسيرة
الدكتور طه حسين
أرادني بعض الأصدقاء على أن أكتب شيئاً عن الدكتور طه حسين في ذكراه العاشرة التي أثارت من جديد عاصفة عاتية تشبه إلى حد كبير تلك العواصف التي تعرض لها في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن العشرين.. وإن كانت هذه العاصفة تختلف عن تلك العواصف التي سبقتها في حياة طه حسين، فإن طه حسين كان فيما سبق هو الذي يثير بقلمه تلك العواصف، وسرعان ما تتصدى لها الأقلام لتدرأ ما يراه أصحابها من الأخطار التي كانت تثيرها تلك العواصف..
أما العاصفة الجديدة فإن الذي كان يثيرها قد طواه الردى، وأصبح بين يدي الله الذي يعلم السر والنجوى، وأصبح مثيروها جماعة من أنصاره وحوارييه، يريدون أن تحيا ذكراه، وأن تظل رايته عالية خفاقة، وأن يبقى اسم طه حسين لامعاً براقاً، قبل أن يعلوه صدأ الزمان، ويغشى عليه غبار النسيان..
وذلك ضرب من ضروب الولاء أو الوفاء، لا تنكره الأعراف، ولا تأباه مبادئ الأخلاق.
وجماعة أخرى من خصوم طه حسين ومناوئيه الذين أبوا أن تطوى تلك الصفحات المثيرة التي كتبها طه حسين من كتاب التاريخ، فعادوا ينبهون نابتة هذا الزمان وجمهور المتأدبين فيه إلى ما رأوا في تلك الصفحات من الشطط أو الإسراف، حتى لا يخدعهم تمويه الأنصار، ولا تمجيد الحواريين…
وصنيع هؤلاء مقدور مشكور، إذا كان هدفه خدمة الحقيقة وتبيينها للناس، في بعد عن التجريح أو التشهير.
وأحمد الله أنني لم أكن واحداً من هؤلاء أو هؤلاء، فلم أكن تلميذاً لطه حسين أو حوارياً من حوارييه، ولم أكن واحداً من خصومه أو مناوئيه، فقد كنت في عهد الطلب مشغولاً بتحصيل ما هو مطلوب مني تحصيله في مجال الدراسة التي أريد أن أصل إلى غايتها، أو غايتي منها، وبقراءة ما يصل إليّ من آثار الكاتبين، قرأت لطه وللعقاد وللمازني وللمنفلوطي وللرافعي ولزكي مبارك وغيرهم من أعلام الأدب إذ ذاك.
وأحسست بما يدفعني نحو العقاد، فدنوت منه، وظلت صلتنا تنمو حتى أدركه الموت…وكانت بين العقاد وطه أشياء، وبين العقاد والرافعي أشياء وبين العقاد وجماعة أبولو أشياء..
ومع صداقتي للعقاد التي كانت تنمو يوماً بعد يوم لم أرد أن أشارك في معركة من المعارك الكثيرة التي نشبت بين أولئك الكبار، منتصراً للعقاد ومخاصماً لخصومه، فقد كنت أرى أن قلم العقاد ليس في حاجة إلى عونٍ من قلم آخر، وأن صداقتي للعقاد ليس معناها بالضرورة أن أكون خصماً لغيره، لأني لا أومن بالمبدأ الذي يقول "من ليس معنا فهو علينا" !
وكذلك كنت أكره التردد بين المختلفين أو المتخاصمين، لأنني لا أعرف الصداقة كما كان يعرفها بعض زملائنا في تلك الأيام ضرباً من ضروب "الشطارة" أو "الفهلوة" تراهم يوماً عند العقاد، ويوماً عند طه، ويوماً عند الرافعي، ويوماً عند أبي شادي !
ويخيل إليّ أن صلتي بالعقاد وقفت سداً منيعاً حال بيني وبين الاتصال بطه حسين الذي كنت أرجو أن أراه، وأن أعرفه عن كثب.
ومع هذه الاعتبارات التي قدمتها لم أجد بداً من الاستجابة لأولئك الأصدقاء الذين أرادوني على كتابة شيء عن طه حسين، فكتبت هذه الكلمات التي لا أعدها سيرة ولا تاريخاً لطه حسين، وإنما هي وقفات عند بعض مواقفه، وتحليلات لشيء من معالم شخصيته كما استبانت لي من هذه المواقف.
* * *
وقد انقضت سنوات كثيرة منذ ودع طه حسين هذه الحياة الدنيا بعد عمر امتد أربعة وثمانين عاماً، فقد كانت ولادته في اليوم الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1889م، وكانت وفاته سنـة 1973م.
ومن عجائب الاتفاق أن ينجب العقد التاسع من القرن التاسع عشر الميلادي ذلك العدد الكبير من أعلام الفكر والأدب في عالمنا العربي من الذين شغلوا الدنيا وشغلوا الناس، بما بلغوا من درجات في هذه الحياة، وبما أثرت به حياة الفكر والأدب من نتاجهم الحافل، وبتلك المعارك التي خاضوها مع عدد من أندادهم، ومع من هم أقل منهم شأناً في ميدان الأصالة والإبداع.
وأذكر في طليعة الذين أطلوا على هذه الحياة في ذلك العقد من القرن الماضي: أحمد أمين، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وأحمد حسن الزيات، والشاعر الكبير عبد الرحمن شكري.
ومن عجائب الاتفاق أيضاً أن يكون مولد الفرسان الثلاثة العقاد وطه والمازني في عـام واحـد (1889م) وأن يولد اثنان منهم أحمد أمين وعبد الرحمن شكري في سنة واحدة (1886م) وأن يكون مولد الزيات سنة 1888م.
وكان أطول هؤلاء عمراً طه حسين الذي عاش أربعاً وثمانين سنة ثم الزيات (79سنة) ثم العقاد (75سنة) ثم عبد الرحمن شكري (72سنة) ثم أحمد أمين (68سنة). وكان أقصرهم عمراً المازني الذي لم يتجاوز الستين عاماً.
ولا شك أن لهذه الفروق الزمنية -التي تصل إلى أربع وعشرين سنة بين عمري علمين من هؤلاء الأعلام- أثرها الذي لا يجحد في القدرة على التمثل، وفي وفرة التجارب، وفهم الحياة، وبخاصة في هذه المرحلة المتأخرة التي تمثل مرحلة النضج والاكتمال والقدرة على العطاء، إذا سلم صاحبها من العلل والآفات.
ويتفق هؤلاء الأعلام في أن كل واحد منهم قد مارس مهنة التعليم في فترات زمانية متفاوتة، وفي مراحل تعليمية مختلفة، فقد قضى أحمد أمين أكثر حياته أستاذاً في مدرسة القضاء الشرعي وفي كلية الآداب، وقضى طه حسين أكثر حياته أستاذاً في كلية الآداب، واشتغل الزيات بتدريس اللغة العربية في المدارس الفرنسية بمصر، ثم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم في دار المعلمين ببغداد، وعمل العقاد والمازني مدرسين معاً في المدرسة الإعدادية الثانوية، ثم انقطع العقاد للصحافة، وأصبح المازني مدرساً للغة الإنجليزية في دار العلوم. أما شكري فقد قضى في خدمة التعليم ستاً وعشرين سنة (1912ـ1938).
* * *
وفي تقديري أن طه حسين لم يذق طعم الراحة في أية مرحلة من مراحل حياته التي امتدت أربعاً وثمانين سنة، فإنه قضاها في صراع مستمر مع نفسه، ومع مرضه، ومع الناس.
أما صراعه مع نفسه ومع مرضه فقد انتهى بنهايته.
وأما صراعه مع الناس فقد لزمه طوال حياته، وبقي صراع الناس مع اسمه بعد موته، وأظنه سيبقى زمناً غير قليل.
لقد بدأ صراع طه حسين مع الحياة منذ سلب في طفولته نعمة البصر، وسمع الناس من حوله يصفون ما يشاهدونه بأعينهم من الشخوص والأحداث التي تضطرب في حياتهم، ويعبرون عن آثارها في نفوسهم من مشاعر الرضا أو السخط، كما أحس بتهامسهم وهمهماتهم بما يحاولون إخفاءه عنه مما يظنون أنه يحزنه أو يثير مشاعره.
ولا شك أن هذا الإحساس بالحرمان قد أحدث في أعماق مشاعره جرحاً عميقاً لا يعرف له علاجاً، فإما أن يصبر على البلاء، ويستسلم لليأس، ليكون مصيره مصير أكثر الذين امتحنوا بمثل ما امتحن به، وإما أن يشق هذا الظلام الكثيف، ويكافح ذلك اليأس القاتل، ويبحث عن بصيص من الأمل يقربه إلى دنيا الناس.
ولقد استطاع طه حسين بالعزم والتصميم، والدأب والمثابرة أن يجاري طموحه الذي لا يعترف بالحدود، ولا يستسلم للقيود، فسار مسيرته المضنية غير عابئ بتلك العلة، ولا مكترث بتلك العقبـات التي اعترضت طريقه الوعر الطويل.
وما أكثر العقبات التي نصبت في طريقه في كل مرحلة من مراحل حياته، في طفولة القرية، وفي مراحل الطلب في الأزهر، وفي الجامعة المصرية، ثم في فرنسا، وبعد عودته منها ليبدأ حياته العملية مدرساً في جامعة مصر.
وليس من همنا في هذه الكلمات القصار أن نكتب تاريخاً لطه حسين كما قلنا. . ولكنا نكتفي بالقول بأن كل واحد من تلك المعوقات التي نصبت في طريقه كان كفيلا بالقول بأن يثبط عزيمته، ويثني عنانه، ويبدد أحلامه، ويرده على عقبه قبل أن يصل إلى غايته. . ولكنه أصر على بلوغ ما أراد، مع فقره وعجزه، ومع قلة الزاد وفداحة المئونة. وتلك منزلة لا يدركها إلا عدد قليل من الأفذاذ.
وكم رأينا في الناس من يتهيب وعورة الطريق فينكص على عقبيه وهو في أول خطواته، ومن يرتد يائساً وهو في منتصف الطريق، بل كثيراً ما رأينا أناساً يرجعون من حيث بدءوا وهم في الشوط الأخير، وعلى مشارف الغاية التي ساروا عليها. ولكن طه يمضي في طريقه يتخطى عقبة بعد عقبة، حتى يصل إلى أبعد مما كان يدفعه طموحه إليه.
ويتنقّل طه حسين في السلك الجامعي حتى يبلغ قمته، ويتسنم درجة الأستاذية، فرياسة قسم اللغة العربية، فعمادة كلية الآداب، ثم يتقلد وزارة التربية والتعليم التي كانت تسمى إذ ذاك "وزارة المعارف".
وفي مرحلة طويلة من حياة الجامعة المصرية كانت هذه الجامعة تعني كلية الآداب وحدها. . أما سائر الكليات أو المدارس العليا فظلت كل واحدة منها تتبع الوزارة التي تنتسب إليها أو يعمل فيها خريجوها، فمدرستا المعلمين العليا ودار العلوم تتبعان وزارة المعارف إذ كان مستقبل المتخرجين فيهما في مهنة التدريس، وكانت مدرسة الحقوق تتبع وزارة العدل "الحقانية"، وكانت مدرسة الطب تتبع وزارة الصحة، كما كانت مدرسة الهندسة تتبع وزارة الأشغال…الخ.
وقد كان النسب في الجامعة شرفاً للمنتسبين إليها، سواء أكانوا أساتذة أم طلاباً، فكانوا جميعا يعتدون بهذا الانتساب، ويزهون به على أندادهم من أساتذة المدارس العليا وطلبتها، فقد كانت "الجامعة" معلما جديداً من معالم نهضة العلم في مصر، ومورداً جديداً لثقافة أبنائها، بعد أن طال عهدها بثقافة "الجامع" .
ومع أن صيغة النسب إلى "الجامعة" هي بحروفها صيغة النسب إلى "الجامع" كما تعرفها لغة العرب لم يقل أحد المنتسبين إلى "الجامع" إنه "جامعي". وإنما يقنعون بأن يصفوا أنفسهم أو يصفهم الناس بأنهم "أزهريون".
ولذلك كان الوصف المحبب إلى طه حسين وإلي زملائه وطلابه أنهم "جامعيون"، بعد أن نفر من الأزهر، وكره الانتساب إليه، لرسوبه أو سقوطه في آخر امتحاناته. ولا نستطيع الجزم بالسبب الحقيقي لرسوب طح حسين، وإخفاقه في الظفر بشهادة "العالمية"، وإن كان ذلك السبب في رأينا لا يعدو أمرين:
أولهما: عدم عنايته بدراسة المواد التي كان يعرف من غير شك أنه سيمتحن فيها، وان كان ذلك يدل على شيء فإنما يدل على استخفافه بها، ويرجع هذا الاستخفاف فيما أرى إلى نفوره منها، وسخطه على الشيوخ الذين كانوا يقومون بتدريسها، والطريقة التقليدية التي كانوا يسلكونها في التدريس.
وهو يصرح بأنه لم يعجبه من تلك الدروس سوى درس الأدب، ويرجع ذلك الإعجاب بدرس الأدب إلى رضاه عن مدرس الأدب الذي رآه يسلك طريقة جديدة يختلف فيها عن سائر المدرسين، ولا يكف عن نقدهم والإزراء بهم أمام طلبته ومنهم طه حسين.
ونحن لا نعرف كثيراً على وجه التحقيق عن هذا الشيخ الذي أشاد به طه حسين، واستأثر دون زملائه بهذه الإشادة. وجل ما نعرفه عنه أنه الشيخ سيد على المرصفي، وأنه كان يقرأ لتلاميذه من طلاب الأزهر كتاب "الكامل" لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، وأنه فسر غامضه في نشرة لهذا الكتاب سماها "بغية الأمل". كما كان يقرأ لهم كتاب ديوان الحماسة لأبي تمام، وأنه كتب مقدمة لكتاب "الطراز" ليحيى بن حمزة العلوي الذي نشرته دار الكتب المصرية، وطبعته في مطبعة المقتطف بالقاهرة سنة 1914م. ومن المرجح أنه هو الذي قام بتصحيح تلك الطبعة أو تحقيقها.
وإذا قرأنا ما كتب طه نفسه عن شيخه سيد بن علي المرصفي لا نجد في تلك الكتابة ما يدل على نبوغ ذلك الشيخ أو عبقريته، أو تفوقه على أنداده من شيوخ الأزهر وعلمائه، فقد وصف مذهبه في دراسة الأدب بأنه "مذهب القدماء، إذ كان يفسر لتلاميذه في الأزهر ديوان الحماسة لأبي تمـام، أو كتاب الكامل للمبرد، أو كتاب الأمالي لأبي علي القالي، ينحو في هذا التفسـير مذهب اللغويين والنقاد من قدماء المسلمين في البصرة والكوفة وبغداد، مع ميل شديد إلى النقد والغريب، وانصراف شديد عن النحو والصرف، وما ألف الأزهريون من علوم البلاغة".
ومعنى ذلك أن الشيخ كان على حظ كبير من الثقافة اللغوية، وهي ثقافة حصلها من تلك الآثار التي كان يدرسها لتلاميذه، وفيها كثير من غرائب اللغة ونوادرها، ثم من معاجم اللغة التي كان يضطر للرجوع إليها لفهم ما يشكل عليه من ألفاظها أو تراكيبها، وأن حظه من النحو والصرف ومن علوم البلاغة كان دون ذلك بكثير.
وإذا كانت عنايته باللغة وغريبها هي التي فتنت طه وقربت شيخه إلى قلبه فإن هذه العناية لم تنعكس آثارها على لسان طه أو قلمه، ولم يظهر لها أي أثر في كلام طه أو كتابته، فإن أسلوبه في الكتابة والكلام كان يمتاز في كل ما كتب بالسهولة والسلاسة، ولا تجد فيه أي دليل على طلبه للغريب أو تكلفه أو العناية به.
ولا ندري بعد ذلك ما الذي أفاده طه حسين من أستاذه الذي أشاد به، وأثنى عليه، وقدمه به على سائر شيوخ الأزهر ومدرسيه!
ويبدو أن السر في هذا الإعجاب يكمن في أن الشيخ وتلميذه التقيا على عدم الرضا عن سائر الشيوخ أو عن طرائقهم في التدريس، وعلى النفور من علم النحو وعلم الصرف وعلم البلاغة، أو من طريقة تدريس هذه العلوم.
ولكنا نجد في كلام الدكتور طه أن هذا الشيخ المرصفي كان لا يرضى عن زملائه من شيوخ الأزهر ومدرسيه، وأنه كان لا يذكرهم بما كان ينبغي أن يذكرهم به، وبما يوجبه حق الزمالة، وأخوة العلم والعمل، وبخاصة تلك البيئة التي تنتسب قبل كل شيء إلى الدين!
وهي ظاهرة قديمة ذكرها الجاحظ في رسالته التي كتبها في "الحسد" ووصف فيها الحسد بأنه خلق لئيم، ومن لؤمه أنه يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقرباء والخلطاء، وبأنه يكثر بين العلماء، ويقل بين الجهلاء! !
وقد كثرت في زماننا أمثال هذه النماذج التي يذهب بأصحابها الطموح، إلى الجموح، ويرون أن الناس لا يستطيعون أن يروهم وهم في الظلام إلا إذا رفعوا عقائرهم بالصراخ الذي يملأ الأجواء، ولا يستطيعون هم أن يشقوا طريقهم في الزحام إلا إذا أفزعوا السابلة بالصخب والضجيج الذي يصم الآذان.
ويطمح أصحاب هذه النماذج إلى أن يُعرفوُا بين الناس، وأن تتردد على الأسنة أسماؤهم، وأن يتسلى بذكرهم السّمار والركبان، وأن يبنوا لأنفسهم أمجاداً يعجزون أن يصنعوا أو أن يضعوا بأيديهم لبنة من لبناتها.
ولا سبيل لهم إلى بلوغ ما يشتهون إلا بأن يعمدوا إلى الحط من أقدار الناس، والتهوين من أخطارهم فيما نبغوا فيه، أو فيما ميزهم الله به على أندادهم الذين سبقوهم إلى تكريم الناس وتقديرهم. وكثيراً ما يكون أولئك الذين انتقصوهم من يفوقونهم معرفة وفضلاً، وأدباً وعقلا.
ولست أشك في أنه كان للشيخ سيد المرصفي أثر كبير في نفس طه، وفي توجيه سلوكه، فقد وجد فيه ما شجعه على الاستهانة بالأزهر وعلومه، والنيل من أساتذته وشيوخه.
على أنه لم يظهر في تلك الفترة التي قضاها طه حسين في طلب العلم في الأزهر شيء من الملامح التي تدل على نبوغ طه حسين أو تفوقه في مجال من تلك المجالات العلمية التي كانت تتسع لها الدراسة في الأزهر، ويُعَدُ أساتذتها من العلماء، وتتعدد تبعاً لذلك حلقات الدرس في كل مجال منها.
وتتسع تلك الحلقات وتضيق عل حسب مكانة الشيخ ومنزلته في العلم الذي يدرسه، وبحسب قدرته على اجتذاب الطالبين.
حتى درس الأدب الذي سجل طه حسين إعجابه بأستاذه فيه الشيخ سيد المرصفي لم يعرف عن طه شيء من التبريز فيه، لأنه كما يقول لم يجد ما يشجعه على مواصلة الدراسة فيه.
ولعل ذلك يرجع إلى عدم تفرغه للدرس والتحصيل والتردد على حلقات التدريس كما كان يفعل كل طالب من بلده البعيد ليطلب العلم. فقد كان يمضي أكثر وقته في التردد على دور الصحف، ومحاولة الاتصال بمحرريها، أو الموجهين لسياستها. . ولعله كان يطمح في تلك المرحلة إلى أن يكون كاتباً صحفياً ينقد الرجال والأعمال، ويقرأ الناس اسمه في كل صباح في صحف ذلك الوقت، وتشن من أجله المعارك وتنشب الخصومات. وفي دماء بعض أهل الصعيد بخاصة ولوع بتلك المعارك والخصومات.
ويبدو أن روح النقد قد تمكنت من نفس طه حسين منذ نعومة أظفاره وحياته في القرية، ثم زادتها أساليب الجدل والمعارضة في العلوم التي كان يتلقاها في الأزهر تمكناً ورسوخاً، وظلت تلازمه طوال حياته.
ونستطيع أن نصل بما قدمناه إلى الاقتناع بأن رسوب طه حسين أو سقوطه في امتحان الأزهر كانت نتيجة طبيعية لتلك الظروف والملابسات، ولحياة القلق التي كان يحياها. .
والسبب الآخر فيما يمكن أن يتصور من الأسباب في إخفاق طه حسين في تلك المرحلة هو ما عرف عنه من التمرد على الأزهر والأزهريين، والسخرية الشديدة بشيوخه منهم.
ويصرح الدكتور طه حسين نفسه بأن رسوبه في امتحان شهادة "العالمية" إنما كان انتقاماً رد به أعضاء لجنة الامتحان على هذا التمرد عليهم، والسخرية منهم، ومن معهدهم العتيق وحصنهم الحصين.
ولا يستبعد أن يكون ذلك سبباً من جملة الأسباب، فإني أرى أنه كان من العسير على أولئك العلماء أن يجيزوا هذا الطالب العاق لمعهده ولأساتذته، وأن يمنحوه كبرى الدرجات العلمية عندهم.
وقد يسأل سائل: كيف استطاع طه حسين أن يصل إلى المستوى المطلوب الذي يجيز له التقدم إلى امتحان هذه الشهادة مع قصر المدة التي قضاها في الأزهر بعد رحيله من قريته إلى القاهرة؟
والحقيقة أن ذلك لم يكن لنبوغ مبكر برزت معالمه في طه حسين، أو تفوق ملحوظ لفت إليه أنظار علماء الأزهر، وأحس هو بقدرته الذاتية على التقدم لذلك الامتحان بهذه العبقرية، أو بذلك النبوغ المبكر!
وليس معنى هذا تجريد طه من الفطنة أو الوعي، فقد عوضه الله عن بصره الذي فقده في مطلع حياته كثيراً من المواهب التي شق بها طريقه إلى الحياة. ومنها قوة ذاكرته، وقدرته على الحفظ والاستظهار.. ويذكرون أنه لما أسندت إليه وزارة المعارف أسرعت إلى مكتبه وفود المهنئين فساروا أمامه في صف طويل وهو واقف يصافحهم واحداً واحداً. . وأراد واحد منهم أن يعيد الكرة، فانضم إلى وفد جديد، فلما صافح طه حسين أمسك بيده، وقال له: أما تكفيك تهنئة واحدة؟ لقد صافحتني هذه اليد منذ قليل!
وقوة الإدراك باللمس وبغيره مما بقي من الحواس ظاهرة معروفة عند أكثر الذين حرموا نعمة البصر.
ولكن هذه المواهب لم تكن هي التي أسرعت بطه إلى امتحان الشهادة العالمية، وإنما كان العامل في هذه السرعة هو أن نظام هذه الشهادة لم يكن يوحد بين المتقدمين إليها، ولا من المواد التي يدرسونها، ولا عدد السنين التي يجب أن يقضوها في الأزهر.
فقد كانت هنالك ثلاثة من الأنظمة، تختلف شهادة كل نظام عن غيرها من حيث المقررات الدراسية، ومن حيث عدد السنين التي ينبغي أن يقضيها طلبة كل نظام في التلقي والتحصيل. فهناك "العالمية النظامية" ومدتها اثنا عشر عاماً على الأقل. وإلي جانبها "عالمية العميان" ومدتها أربع سنوات. ومثلها في المدة "عالمية الغرباء".
وتلك هي الحدود الدنيا لما ينبغي أن يقضيه طلبة كل نظام، ولا حد لأكثره كما يقول الفقهاء، فقد يقضي الطالب عمره كله من غير أن يظفر بأي شهادة. ولعل هذا هو السبب في أن طلاب الأزهر جميعا كانوا يلقبون "المجاورين" والمقصود بالجيرة فيما أتصور هي جيرة العلم والعلماء، فكأن هؤلاء نذروا حياتهم لطلب العلم، ناظرين إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". . وفعلاً كانت هنالك مقابر قريبة من الأزهر يدفن فيها من قضى نحبه من هؤلاء "المجاورين". وما تزال تحتفظ بهذا الاسم "قرافة المجاورين" حتى اليوم.
* * *
وقد اقتيد طه حسين ليمثل أمام لجنة الامتحان، ويبالغ الناقمين عليه فيقررون أنه ألجم أو أفحم أمام هذه اللجنة إفحاماً شديداً، وأنه لم يستطع أن يجيب على أي سؤال من الأسئلة التي وجهها إليه أعضاء اللجنة جواباً صحيحاً.. وكان أشد العلماء الذين امتحنوه إصراراً على رسوبه، وحرمانه من هذه الشهادة الشيخ الدسوقي العربي، جد زميلنا المرحوم الأستاذ عمر الدسوقي الذي ورث عن جده المذكور ما عرف عنه من الحدة والعنف والصرامة.
وسواء عندي أن يكون رسوب طه بدافع الانتقام، أو بإخفاقه الشديد في الإجابة على ما وجه إليه من الأسئلة، فإنه كان من المتوقع أن يرسب، وكان من المتوقع أن يحرم من الظفر بالشهادة "العالمية" وهي كما قدمت كبرى الشهادات أو الإجازات التي كان يمنحها الأزهر إذ ذاك لعدد قليل جداً من تلك الألوف الكثيرة من طلابه من أبناء مصر وأبناء العالم الإسلامي المترامي الأطراف.
ومن هؤلاء الطلاب من كان يقضي في رحاب الأزهر عشرين سنة أو ثلاثين أو أربعين أو عمره كله يتنقل بين حلقات الشيوخ، ثم ينتهي به المطاف إلى أن يعود من حيث جاء، وهو خالي الوفاض، لا يحمل شهادة ولا إجازة.
وكان جل الذين حصلوا على هذه الشهادة من ذلك العدد القليل من فضلاء الرجال علماً وخلقاً، يكبرهم الناس، وينزلونهم أكرم المنازل من الاحترام والتقدير، بانتسابهم إلى الأزهر، وانتمائهم إلى الدين. ومنهم الذين حملوا بأيديهم لواء النهضة في البلاد في مختلف مناحيها السياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية، أو حمله عنهم تلاميذهم الذين تعلموا، وتأدبوا بأدبهم.
وقد يوفر علينا طه حسين مئونة البحث عن السبب الحقيقي لرسوبه في امتحان العالمية فيما قرره في قوله إن شيخ الأزهر سليم البشري هو الذي أمر لجنة الامتحان بإسقاطه. ويعلل ذلك بأنه كان قد نشر في بعض الصحف قصيدة يهجو فيها شيخ الشيوخ.
وهذا الاتهام مبني على الظن، وقد يكون طه صادقاً فيما ادعاه، ولكن ذلك لا يبعد عما قررناه من نفوره من الأزهر وعلومه، ومن طرقة التعليم فيه، وتمرده على أشياخه.
وإن كنا نتوقف عند قوله إن قصيدته في هجاء الشيخ سليم البشري قد نشرت في بعض الصحف، ونستبعد أن تكون إحدى الصحف قد سمح محرروها بنشر هذا الهجاء، وبخاصة إذا كان ذلك الهجاء صريحاً ذكر فيه الشيخ باسمه أو باسم المنصب الذي يتولاه، وهو مشيخة الأزهر، وهو منصب من أرفع المناصب في مصر وفي العالم الإسلامي كله، إذ كان شيخ الأزهر يلقب بشيخ الإسلام، وهو لقب يخلع على صاحبه مهابة ووقاراً، ويحله أرفع المنازل في قلوب المسلمين قاطبة، لأنه الإمام الحافظ لشريعة الله، المأخوذ بقوله، والمقتدي بعمله، والمهتدي بهديه.
ولم نقف على هذا الهجاء، ونرى أن نشره على الملأ في صحيفة من الصحف أمر مستبعد، إلا إذا كان طه قد اصطنع في هجائه أسلوب الرمز أو التعريض الذي يخفي المراد به على أكثر الناس .
ومهما يكن من أمر فلم يكن من السهل على أساتذة الأزهر أو على شيخهم البشري أن يجيزوا هذا الطالب العاق لمعهده وشيوخه. ليزداد بعد إجازته هجوماً عليهم، ونيلاً منهم، وهو محسوب عليهم!
وما كان لطه أن يعاود التجربة في تلك البيئة مرة أخرى، فقد استولت عليه مشاعر النقمة والسخط على هذه البيئة بما فيها وبمن فيها.. وإن كان كثير من الطلاب قد يخونهم الحظ فيرسبون في عام، ثم يشمرون عن ساعد الجد ليفوزوا بالنجاح في عام لاحق، إذا تذرعوا بالصبر، واتخذوا العبرة من تجربتهم السابقة.. ولكن يبدو أن اليأس قد ملك زمام طه فحال ذلك اليأس بينه وبين معاودة الكرة في بيئة لا تحبه ولا يحبها، أو لعله رأى أمامه طريقاً أيسر من هذا الطريق الوعر، لبلوغ ما يتطلع إليه في الحياة.
وليس في استطاعتنا أن نحمل الأزهر أو علومه أو شيوخه شيئاً من المسئولية في إخفاق طه الذي كان في وسعه أن يتلافي أسبابه لو أنه عمل، أو أراد أن يعمل.
* * *
على أن القدر كان قد هيأ لطه حسين سبيلاً آخر ليخوض رحلة جديدة بعد هذه الرحلة الخاسرة التي انتهت بتلك المأساة، مأساة سقوطه في الامتحان وانصرافه عن الأزهر.
وقد أفضى به هذا الطريق الجديد إلى غاية رآها، وقد يراها أكثر الناس أفضل كثيراً من الغاية التي كان يصبو إلى بلوغها لو أنه نجح في الأزهر، وظفر بشهادته "العالمية"!
ولكني أعتقد أن إخفاق طه في الأزهر ـ وهو يستقبل الحياة ـ قد أحدث في قلبه جرحاً عميقاً، ما أظنه برئ منه أو نسيه طوال حياته، حتى بعد أن تسنم أعلى مناصب الدولة، وهو منصب الوزارة.
وفي رأيي أن هذا الجرح العميق كان في مقدمة العوامل التي دفعت طه إلى الثورة أو التمرد على تراث العربية وتراث الإسلام فيما بعد، إذ كان تراث العربية المتمثل في لغتها وأدبها، وتراث الإسلام المتمثل في عقيدته وقرآنه في طليعة ما يعني الأزهر أو الأزهريون بتحصيله والتفرغ في حفظه وفقهه، ثم في تلقينه أو تدريسه.
ولم يضق طه بالحياة بالرغم من هذه التجربة القاسية المريرة، ولم تضق به الحياة، فقد أنشئت الجامعة المصرية، أو الجامعة الأهلية، وفتحت أبوابها لاستقبال طلاب العلم من المصريين سنة 1908م.
وليس يفوتنا في هذه المناسبة أن نشير إشارة عابرة إلى أن إنشاء هذه الجامعة الأهلية في مصر في مطلع هذا القرن العشرين كان حدثا من الأحداث الخطيرة في مصر الحديثة، كتب به المصريون صفحة مشرقة من أمجادهم في كتاب التاريخ، لدلالة هذا الحدث على نمو الوعي العلمي أولا، والوعي الوطني والحضاري آخراً في نفوس المصريين.
فقد أنشئت هذه الجامعة بعزيمة الرجال، وهمة الوطنيين الأحرار الذين أرادوا أن يساير بلدهم ركب التقدم والحضارة في العالم المتمدن الحديث، وأن يعيدوا له سابق مجده في خدمة العلم والتفكير.
ومما يزيد في عظمة هذا العمل الجليل أن تلك الجامعة أنشئت بأموال المصريين التي جمعوها من كل قادر على وضع حصاة أو لبنة في هذا الصرح العظيم، وانضم إلى العاملين في بناء هذا الصرح جماعة من أمراء البيت المالك، جادوا بأموالهم، وأعانوا بجاههم. . وقد كان أمين هذه اللجنة التي أقامت ذلك الصرح الأمير أحمد فؤاد -الملك فؤاد بعدئذ- وكانت أخته الأميرة "فاطمة إسماعيل" من أكثر الناس حماسة وعطاء لهذه الجامعة الوليدة، فقد تبرعت بأموالها وضياعها، وبأخص ما تحرص عليه المرأة من حيلها وجواهرها، للمشاركة في هذا العمل الوطني العظيم.
ويزيد هذا العمل العظيم عظمة أن يتم إنجازه والبلاد ترزح تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي، وطغيان المعتمد البريطاني، والصحف البريطانية تسخر من المصريين سخرية مُرّة في هذه المغامرة التي تنبئوا لها بالإخفاق، ووصفوها بعبث الصبيان، في بلاد متخلفة سياسيا واقتصاديا وفكريا.. ولكنها كما قلت عزيمة الرجال، وهمة الأبطال، الذين أحالوا الوهم حقيقة، والحلم واقعاً شاخصاً، برغم هذه الحملات المعوقة، والدعوات المثبطة.
وقد قام بالتدريس في هذه الجامعة الوليدة لفيف من كبار العلماء المصريين وعدد من المستشرقين الأوروبيين الذين تردد طه حسين وغيره على محاضراتهم، وأحس بحاجته إلى تعلم اللغة الفرنسية، فتعلمها في وقت وجيز. . وكان ذلك سبباً من الأسباب في تقربه إلى هؤلاء المستشرقين، وتقريبهم إياه، وتوثيق علاقته بهم.
وقد أخذت أبواب الحياة تتفتح أمام طه حسين، ووجد في الجامعة ما لم يجد في الأزهر، ورأى في هؤلاء من الحفاوة والتقريب ما لم يجد في علماء الأزهر وشيوخه، ورأى دروسهم ومحاضراتهم وأحاديثهم شيئاً جديداً شدّه إليهم، أو لعلها "عقدة الخواجة" التي انحلت على أيديهم!
وقد حصل طه حسين في سنة 1914م على أول "دكتوراه" تمنحها الجامعة المصرية، من غير أن يحصل على درجة "الماجستير".
وكان موضوع الرسالة التي نال بها طه درجة الدكتوراه هو "ذكرى أبي العلاء".
ويبدو أن طه حسين في هذه المرحلة من شبابه وجد نفسه في أبي العلاء المعري، ولعله كان يطمح إذ ذاك إلى أن يكون له من المنزلة في تاريخ الفكر والأدب ما بلغ فيلسوف المعرة الذي كان يشاركه في كثير مما ابتلي به كل منهما من فقد بصره في مطلع حياته، وفي تبرمه بالحياة، وفي سخطه على الناس، وفي ثورته على المجتمع الذي كان يعيش فيه، وفي روح الشك التي أثارها في نفس كل منهما الشعور بالقلق والإشفاق من مستقبل الأيام، وفي محاولة التصدي لمجموعة الحقائق التي رضي عنها الناس وآمنوا بها.
ومع ذلك يبدو البون شاسعاً والفرق بين الرجلين كبيراً جداً. فإن أبا العلاء قد لزمه البؤس والحرمان طول حياته، واختار لنفسه أن يعيش قانعاً بالكفاف، صابراً على البلاء، مشغولاً بما يعي مما يُقرأ له، وبما يمليه على من يأخذ منه، وبما يجيب به على أسئلة السائلين والمعرضين، وفي التدبر فيما يقرأ ويسمع، وفي التأمل في أحوال الناس وأخلاقهم، وفي فلسفة الحياة والموت، بروح التشاؤم التي غلبت عليه، ومن خلال منظاره الأسود الذي كان يطل منه على الكون، وعلى الحياة والأحياء.
وكأن أبا العلاء لم يكن يحاول التخلص من هذا الإسار الذي ألقته فيه الأقدار، فحبس نفسه في ظلماته، ووصف نفسه بأنه رهين المحبسين العمي والمنزل، وربما ضم إليهما ثالثا، وهو حبس روحه النزّاعة إلى التحليق في عالم الصفاء والضياء في جسده الذي يهوي بها إلى عالمه الأرضي الذي نشأ منه، فيقول:
أسيرٌ في الثلاثة من شجوني
فلا تسأل عن الخبر النَّبيتِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكوْن الروح في الجسم الخبيثِ
ولم يطلب أبو العلاء من أحد عونا على بأساء الحياة وضرائها، ولم يتقرب إلى قريب من ذوي النعمة واليسار، أو من أصحاب المنزلة والجاه، ولم يتملق حاكما من حكام الزمان، ولم يحاول أن يرهب أحداً من الناس بما يملي أو يقول.
عاش أبو العلاء حياة الزاهد الذي يكفيه من هذه الحياة الدنيا ما يقيم الأود، وما يستر الجسد. ولم يتطلع إلى شيء من شهوات النفس أو زينة الحياة. وربما ضاق بهذه الحياة وآثر عليها الموت:
فيا موتُ زرْ إن الحياة ذميمة
ويا نفسُ جدَّي إن دهرَكِ هازلُ
لقد عاش عيشة الغريب، لا يحس برحم تدنيه، أو قرابة تسليه. وقد تحمّل من الارزاء ما يعيا به الأشداء الأقوياء، فأصبح لا يغريه ثناء، ولا يخدعه إطراء؛ لأنه لا يرى نفسه آهلاً لهذا الثناء، أو لأنه رآه ثناء يصدر عن الأفواه، ولا ينبعث من القلوب.
استمع إليه في هذه الأبيات الباكية الحزينة:
بِنْتُ عن الدنيـا ولا بنتَ لي
فيهـا ولا عـرْسٌ ولا أُختُ
وقد تحمّلـتُ مـن الوِزرُ ما
تعجـزُ عن حَمـلـه البُخْتُ
إنْ مدحوني ساءني مدحـُهم
وخِلْتُ أني في الثـرى سُخْتُ
وليس موضوعنا الحديث عن أبي العلاء في هذا المقام، ولكن الحديث ذو شجون، ولأن طه حسين وجد ما يشده إلى أبي العلاء، وإلي أن يجعله موضوع رسالته التي تقدم بها إلي الجامعة، وحصل بها على أول درجة دكتوراه تمنحها هذه الجامعة، كما قدمنا.
ولا يخفي الدكتور طه إعجابه بأبي العلاء، بل قد يغلو في الإشادة به غلواً شديداً يتجاوز فيه أحيانا حدود الإعجاب، كما تجد في حديثه عن "رسالة الغفران" الذي يقول فيه: إنها "آية الأدب العربي، لا أستثني منه شيئاً، لا أستثني منه شعراً ولا نثرا، ولا أستثني منه قديماً ولا حديثاً. . هي آية الأدب العربي، كما أن صاحبها آية كتّاب العرب، هي آية التفكير العربي، وهي آية الخيال العربي، وهي آية السخرية العربية، هي آية العرب في هذا كله، لا أغلو في ذلك ولا أسرف، بل أعترف أني دون ما أريد"!
ويلتمس طه شبيهاً لأبي العلاء في أدباء الغرب وكتابهم فلا يجد هذا الشبيه إلا الكاتب الفرنسي المعروف "أناتول فرانس" ويرى أنه يشبهه شبهاً لا يحتمل الشك وهو الذي يفسر شخصية أبي العلاء الأدبية في رسالة الغفران، لأن الشك والرحمة هما العنصران اللذان يكونان شخصية أبي العلاء في رسالة الغفران، وهما اللذان يكونان شخصية أناتول فرانس في مؤلفاته.
وبرغم هذا التعاطف الملحوظ بين طه حسين وأبي العلاء المعري يبدو الفرق بينهما من حيث السلوك والأخلاق، ومن حيث الطموح والإقبال على الحياة الدنيا فرقا كبيراً، بحيث لا نكاد نرى من عوامل هذا التقارب أو التعاطف التي تصل بين الرجلين سوى تلك العلة التي مني بها كل منهما في مطلع حياته، وهي علة فقد البصر.
وفيما عدا ذلك تتباين طبيعتهما، فإن طه لم يستكن لعلته، ولم يلزم داره، ولم يعرف الزهد في الحياة، أو الصدوف عن المجتمعات، ولكنه عاش هذه الحياة بطولها وعرضها، في مصر وفي أوروبا التي كان حريصاً على قضاء عطلة الصيف في ربوعها حتى في شيخوخته وفي السنة التي توفي فيها، وتزوج في عهد الطلب امرأة مسيحية فرنسية، وأنجب منها ولداً وبنتاً، وتمتع بحياة أسرية سعيدة ولم يكن كصاحبه الذي أوصي أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي عليّ
وما جنيت على أحد
وإذا كان تشاؤم أبي العلاء قد أدى به إلى أن يقف من الحياة الموقف الذي يصفونه بالسلبية، فإن طه حسين قد تفاعل مع هذه الحياة إلى أبعد حدود التفاعل، فاضطرب فيما يضطرب فيه الناس، ولم يكفه أن يكون أديباً أو عالماً بالأدب، أو أستاذاً في الجامعة، فاشتغل بالسياسة، وتنقل بين الأحزاب السياسية، وعمل على بلوغ أقصى ما يتطلع إليه إنسان في دنيا الناس، حتى تسنم منصب الوزارة، ودخل طه حلبة الحياة مصارعاً، ولم يقف على أطرافها متفرجاً، فصاحب وخاصم، وأطرى من أراد إطراءه، وانتقص من رأى انتقاصه من رجال السياسة، ورجال العلم والأدب، وعمل على هدم القمم الشامخة التي حسب أنها تطاوله أو تنافسه، فإذا أعياه هدمها لجأ إلى مهادنتها.
* * *
وإذا كان ضيق أبي العلاء بالحياة قد أدى إلى تشاؤمه، ونظرته إلى الدنيا من خلال منظاره الأسود، ويظل ذلك الشعور ملازماً له حتى ينتقل إلى الدار الآخرة فإن الظروف قد أتاحت لطه حسين جواً من التفاؤل وحبّ الحياة والإقبال عليها، فانطلق في شعابها، وسعى في مناكبها التي اتسعت له، حتى ابتسمت له الدنيا، وأصبح يتمتع بجاه عريض، فعظمت منزلته، وذاع صيته حتى تجاوز حدود الوطن فشرق وغرَّب، وامتد إلى ما وراء البحار. وكان للمعارك التي أثارها في شبابه بكتاباته التي اصطدمت بمشاعر الناس وأعرافهم أكبر الأثر في هذا الصيت، إذ تصدى له كثيرون من المفكرين الذين هاجموه، فخطبوا الخطب، وألفوا الكتب، ودبجوا المقالات في تنفيذ ما ذهب إليه من نقد تلك الأعراف التي تتصل بعقائدهم ومقدساتهم في كتابه الذي سماه "الشعر الجاهلي" ثم هذّبه وسماه "في الأدب الجاهليّ" ليزيل أثر الصورة التي رسمها "الشعر الجاهلي" في الأذهان.
والحقيقة أن روح النقد، والرغبة في الإثارة عن طريق التشكيك في القيم والمسلمات السائدة استولت على طه حسين، وبدت معالمها فيما خطَّ قلمه، وبخاصة ما كتبه في مرحلة شبابه.
وقد يغلب على الظن أن ذلك كان طبيعة فيه. وقد يقال إنه جنح إلى ذلك طلبا للشهرة وذيوع الصيت جرياً على المبدأ المعروف "خالِفْ تُعْرَفْ" !
ولكننا نظلم طه حسين إذا حسبناه وحده الذي اعتنق هذا المبدأ وعمل به، فإن نفراً من أعلام المعاصرين فيهم الساسة والأطباء وأساتذة الجامعات، بل إن فيهم علماء أزهريين سلكوا هذا المسلك الشائك بدعوى حرية الفكر ثم عادوا إلى الصراط السوي بعد أن بلغوا ما يشتهون من الشهرة وذيوع الصيت!
* * *
ومهما يكن من أمر فإن من جدّ القول الذي لا يستطيع أن يماري فيه أحد، أو ينازع فيه منازع أن طه حسين صار علماً من أعلام العصر، وقمة من قممه الشامخة في عالم المعرفة، وفـي عالـم الأدب، بل وفي دنيا السياسة أيضاً، وأنه وصل إلى ما لم يصل إليه أحد من أنداده في العلم أو في الأدب، فقد عين أستاذاً في كلية الآداب، واختير عميداً لها، ثم ينتدب مراقباً للثقافة في وزارة المعارف، فمستشاراً فنياً لهذه الوزارة ثم مديراً لجامعة الإسكندرية. ويحال إلى التقاعد سنة 1944م، ثم يختاره النحاس باشا وزيراً للمعارف، ويقضي في منصب الوزير سنتين.
ويذكر التاريخ للدكتور طه حسين تقريره مجانية التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية وكلمته المأثورة في ضرورة التعليم لأبناء الأمة كضرورة الماء والهواء لكل إنسان.
ولا ينسى له مدرسو اللغة العربية خطوته الإنسانية الجريئة برد اعتبارهم، وإزالة الفوارق المشينة بينهم وبين زملائهم مدرسي المواد الأخرى ومساواتهم بهم في الوظائف والدرجات والمرتبات، بعد أن كان من التقاليد المرعية التي اصطنعها الاستعمار وأذنابه أن يتخلف مدرسو العربية خمس سنوات عن أندادهم عند ترقيتهم إلى درجة أعلى من الدرجات التي كانوا يشغلونها . أما المناصب القيادية فقد كتب عليهم الحرمان منها، حتى جاء طه حسين إلى وزارة المعارف فأزال هذا الكابوس الذي جثم على صدورهم زمانا. ورَدَّ عليهم اعتبارهم، وأعاد إليهم كرامتهم.
ومما يدل على نبوغ طه حسين وما بلغ من منزلة رفيعة في عالم الفكر وعالم الأدب على المستوى العالمي ترجمة بعض آثاره إلى عدد من اللغات الأجنبية السائدة في أوروبا وآسيا، وعناية أصحاب تلك اللغات بأدب طه حسين وفكر طه حسين، وكذلك اختياره عضواً أجنبياً في المجمع العلمي الفرنسي، والمجمع العلمي الإيطالي، كما منحته بعض جامعات أوروبا درجة الدكتوراه الفخرية.
وقد عين عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1940م، ثم اختير نائباً لرئيسه فرئيساً له سنة 1963م، خلفاً للأستاذ أحمد لطفي السيد، وظل يشغل هذا المنصب حتى قضى نحبه، ولقي ربه سنة 1973م.
وهكذا حظى الرجل بحظ كبير من عناية الله، فنال في حياته الدنيا المنزلة والجاه، وظفر بما كان يتمنى بل بأكثر مما كان يتمنى.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1977  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج