طريق المستقبل |
ودع ((سالم)) والده على رصيف ميناء جدة وهو في طريقه إلى ألمانيا لدراسة الطب فيها، وأبحرت الباخرة ولسان أبيه يردد ((بسم الله مجراها ومرساها إن ربي على كل شيء قدير))، وظل ((سالم)) يلوح لمودعيه بيده ومنديله حتى تعذرت الرؤية فمسح عبرة سالت على خده ثم اتخذ طريقه إلى غرفته في الباخرة واضطجع على سريره وسرح بفكره يستطلع غيب عالمه الجديد وحياته المستقبلية. |
وأعياه التفكير وأضناه الجهد فترك غرفته وصعد إلى سطح الباخرة فبهرته أنوارها ولا سيما وهو يركب البحر لأول مرة. فاستراح من عنائه في زحمة الركاب يحملق في هذا ويتطلع إلى تلك ويصدمه طفل يلعب ويعيقه حاجز السلالم وسار على غير هدى فغيّر اتجاهه إلى طرف آخر من المركبة إلى جماعة أخرى من المسافرين انتظمت في حلقة مفترشة أديم الباخرة ولاعب على الأكارديون يسحرهم بأعذب الأنغام وانساب اللحن فدبت النشوة في عروق المنتشين فاهتزوا طرباً ورقصوا بشراً وحبوراً، وغمرت البهجة والفرحة وجوههم فعبرت عنها ألسنتهم بما رق من ألفاظ وغلا من مديح وإطراء؛ وما إن انتهى اللاعب من عزفه وصفق له الجميع تحية وإعجاباً حتى انطلق من أقصى السفينة عازف على الكمان يشنف الآذان، فهرع ((سالم)) وكثير غيره يستمتعون بأرق الألحان والعازف يشد على أوتاره يتطلع للبحر مرة وللسماء مرة أخرى كأنما يشكو لها بعده وفرقته. واسترقت الريح أنغامه فاسترخت وصفت السماء وشفت، وهدأت أمواج البحر وسكنت وفسحت الطبيعة له صدرها الرحب ليرى حبيبته الغالية وقد جسدها وحيه الخصيب على تلفزيون خياله وأشواقه فحلق عازفنا في سمائه فزاد إبداعه واستثار كوامن السامعين فيبكي بعضهم وأنَّ غيرهم واسترخى وتنهد الباقون وسبح ((سالم)) مع السابحين في خضم الذكريات فاستذكر مجالس الأهل والأخوان واسترجع مغاني الصبا والخلان، ثم سرى اللحن وطرب فانفرجت أسارير الشاكين وانطلقت حناجرهم والتهبت أكفهم استحساناً وطرباً وشاعت الفرحة فيهم وفي العازف فحيا مستمعيه وتطلع إلى كمانه وهو يدخلها في قرابها كأنما يودعها شكره وحنانه. |
وتفرق المجتمعون، فشلة أوت إلى فراشها، وأخرى شرعت تذرع ظهر السفينة جيئة وذهاباً تجتر ذكرياتها، وشلة ثالثة فيها ((سالم)) لم ترتوِ بعد فعرجت على صالة الرقص فانتظم بعض أفرادها في حلبتها مع الراقصين وقعد البعض الآخر، ومنهم ((سالم)) يرشفون من عيون الراقصات وأجسادهنّ ما يطفىءالغليل. |
وتسمر ((سالم)) وقد انتشى بما لم يشاهد من قبل، يتابع في عجب واستغراب أمواج الراقصين والراقصات، وتلفت يمنة ويسرة يمتع ناظريه بمفاتن الجمال العاري ويستعرض بلهفة وحسرة الصدور العارية العامرة، وعليها النهود النافرة تتحدى عيون الناظرين ويصرخ جوعه وظمؤه فيداريه ويهدهده ويشتد الصراخ ويخشى سالم أن يفلت الزمام من يديه فيغادر مكانه على عجل إلى غرفته فيدفن نفسه في سريره، وآذانه يكاد يصمها دوي الشهوة، الصارخة ثم يقوى على عواطفه المكبوتة فيخزنها كما اعتاد، في قمقم من يأسه وحرمانه. |
وأفاق على الصداع يكاد يفجر رأسه لعلّه دوار البحر أو لعلّه صدى الليلة الرهيبة، وحاول بما لديه من مسكنات فلم تجد نفعاً فاستدعى طبيب الباخرة فعاده واشتبه في حالته خاصة بعد الإغماء الذي أصابه فأمر بنقله إلى مستشفى الباخرة. |
وصحا ((سالم)) من إغمائه فبصر بيده في يد ممرضة شقراء فاتنة، فسرى مس من الكهرباء في جسمه وارتعش فسألته وكان اسمها ((لوسي)) عما به؟ فأجاب: لا شيء، وأسلم يده لها فابتسمت وابتسم. وكانت ((لوسي)) الشقراء كما يدعونها في العشرين من عمرها، رياضية الجسم والقوام، تكسو خدّيها حمرة الصحة والعافية، وابتسامة لا تفارق ثناياها ومحياها، وعينان زرقاوان يشعان ذكاء وإغراء؛ وكان ((سالم)) في الثاني والعشرين من عمره، فارع الطول، نحيل الجسم، في غير هزال، له عينان جمليتان وشعر كستنائي لولبي، وفم دقيق على شفتين رقيقتين. |
وليس بعجيب أن ينجذب كل منهما للآخر، ففي ((لوسي)) كل ما يغري الرجل، وفي ((سالم)) كل ما يغري الأنثى؛ وهكذا خط القدر في صفحاته بداية حب تكاتفت الظروف والأسباب على خلقه وتكوينه. |
وأبلى ((سالم)) من مرضه ليقع في مرض حبيب إلى كل عاشق ولهان، ومن القسوة بمكان أن نسميه مرضاً إنه الحب... إنه نهاية المطاف السعيد... إنه منتهى كل شيء. في هذا الوجود. |
وتجد ((لوسي)) في سالم ما تبتغي، ويجد هو فيها ما يبتغي، فقد أشبعته من بعد جوع وأروته من بعد ظمأ ليس بغريب أن تصبح ((لوسي)) شغله الشاغل وهمه الأوحد، فقد أنساه حبها أهله ووطنه وقومه وعشيرته، وصحبه وخلانه، لقد أصبحوا جميعاً ذكريات عفا عليها الزمن ودرسها وذراها، فلا أهل ولا وطن ولا.. ولا.. إلا ((لوسي)).. إنها حبه الأول، وكأسه الأولى، وخطوته الأولى. |
وكأنما أرادت الطبيعة أن تبارك هذا الحب وتنميه، فمرت أيام البحر رخاء ولا شيء يكدر صفوها سوى ما كان يشاهده ((سالم)) من التمييز العنصري بين بحارة السفينة. |
كانت الباخرة ملكاً لشركة بريطانية وكان بحارتها من اليونان والقبارصة والمالطيين هم الكثرة، ومن العدنيين والصومال العرب وهم الأقلية، وكان قبطان الباخرة ومساعداه بريطانيين يحسنون معاملة القسم الأول من البحارة، بينما يسيئون معاملة القسم الثاني حتى تبلغ درجة الاحتقار، وكان ذلك يحز في نفس ((سالم)) ويدفعه إلى تبصير ((لوسي)) به وبالنتائج الوخيمة التي سيلقاها قومها إذا ما استمروا في ذلك، وكانت تعده بنقل ذلك للمسؤولين، لكن جهودها ذهبت عبثاً. |
وفي ليلة وصول الباخرة ميناء ((هامبروغ)) قضى ((سالم)) و ((لوسي)) الليل ساهرين يتناجيان، ويتوادعان، وكل يفرغ ما في جعبته من وعود وعهود وإيمان ومثل وآمال حتى آذن الفجر ودخلت الباخرة الميناء فافترقا وقد بللت عيونهما ما كان يحملان من مناديل. |
واستطاع ((سالم)) بجده واجتهاده وتشجيع ((لوسي)) له برسائلها والزيارات العابرة منها له كلما سنحت له الفرص أن يجتاز سني التحضير فينتسب إلى كلية الطب. وانتهزت ((لوسي)) فرصة العطلة الصيفية عند ((سالم)) فجاءت إليه. |
|