شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في المدرسة
وفي ساعة من ساعات الحنان الأبوي النادر أحس والد ((سالم)) بشقاوة ولده فخشي عليه من رفقاء الحارة السوء فأدخله في المدرسة الابتدائية المسماة ((الراقية))، لأنها كانت أرقى مدرسة حكومية ابتدائية آنئذ، وكانت تقع في ثكنة من الثكنات التي ابتناها الحكام الأتراك سكناً لجنودهم في أحد الجبال المشرفة على الحرم المكي ثم هجروها إلى ثكنة كبيرة بنوها خارج مكة وفي إحدى حواريها المسماة جرول.
وانتظم ((سالم)) في دراسته في المدرسة على أيدي مدرسين سوريين أفاضل هربوا إلى الحجاز من ظلم الانتداب الفرنسي على سوريا بعد هزيمتهم للملك فيصل بن الحسين في معركة ((ميسلون)) من قبل الجنرال الفرنسي الأعور (غورو). وبرز ((سالم)) في دراسته وكان محبوباً من مدرسيه لجده واجتهاده وسرعة بديهته. وبقيت أخته في البيت أسوة ببنات عصرها. وكان ((سالم)) بارعاً في الخطابة عندما تكون شعراً أو نثراً، وكان يتمنى أن يلبس كما يلبس زملاؤه في المدرسة، فكان على ((الدادة)) الحنون أن تسرق كسوة العيد وتعطيها إلى أحد الصبيان ملفوفة بشكل لا يسترعي الانتباه ليلبسها وهو في طريقه إلى المدرسة. إنه ليذكر فيما يذكر أنه أكل علقة حامية في سبيل هذه الكسوة، فقد كانت لدى والده (مداس) نعل أشبه بمداس أبي القاسم الطنبوري المشهورة. وقد تورمت رأس ((سالم)) من فداحة ضربه بها إذ شاهده مرتدياً حلة العيد في غير أيامها، حتى إنه لم يستطع حضور صلاة (المشهد) عيد الفطر في تلك السنة.
وظل ((سالم)) يتحين الفرص لسرقة تلك ((المداس)) النعل حتى أفلح نهائياً في سرقتها ورميها أمام إحدى عتبات المسجد الحرام. وقد أدرك والده أنه هو السارق، فحاول بالوعد والوعيد والضرب الشديد أن يحمله على الاعتراف. وكاد ((سالم)) من قسوة الضرب ورهبة الوعيد أن يعترف، ولكنه كان كلما تحسس رأسه ازداد إمعاناً وإصراراً على الإنكار.
وفجع ((سالم)) في أخته، فقد أصيبت بمرض عضال كانت تذوب بسببه تباعاً كما تذوب الشمعة، ولعلً المسكينة التقطت هذا المرض من بين أصابع الخدم التي كانت تغوص مع أصابعها في صحاف ((الملوخية)) و ((البامية)) والمختوم و ((الدبيازة)). وقد أعيى مرضها نطس أطباء بلده في ذلك الوقت، وأخيراً أسلمت روحها إلى بارئها، فبكاها ((سالم)) حتى أشفق الناس عليه من الموت حزناً على شقيقته.
وأيقظت وفاة البنت ضمير الأب الهمام، فبدأ يولي ((سالم)) عطفه واهتمامه ويسأل عنه من رآه في ذلك اليوم وصار يأخذه أيام العطل المدرسية معه إلى مجالسه ونزهاته. ومن الإنصاف أن نقول، إن تلك المجالس كانت مجالس بريئة لا كاس ولا طاس ولا مغنى ولا طرب، وإنما كانت للعبة ((الدومينو)) والأسكامبيل والنوادر والقصص الدور البارز في تلك المجالس والأسمار إذا صح التعبير.
وأثار عطف الوالد على ولده غيرة ((مرت الأب)) وبدأ صراع بعضه خفي وبعضه ظاهر تجلى حين غضبت زوج أبيه وذهبت إلى دار والدها، وقد تأثر والد ((سالم)) من عملها هذا وكاد يطلقها لولا كانت معزة لأبيها ودالة خاصة في قلبه فأحجم على مضض ولم يسأل عنها وانقطع عن زيارة والدها بالرغم من أنهما كانا فيما مضى يلتقيان يومياً.
ولئن انقطع والد ((سالم)) عن زيارة صديقه والد زوجه، ولئن كان العطف الجديد على ((سالم)) هو سبب كل ما حدث، فإنه لم ينقطع عن زيارة زوج أبيه، فكان بعد خروجه من المدرسة عصراً يذهب لزيارتها خلسة ويظهر لها من العطف ما جعلها تغير سياستها نحوه بعد عودتها إلى بيت الزوجية. ولم تدر زوج أبيه أن زيارة ((سالم)) لها كان ستاراً يرى من وراء سجفه شقيقتها ((سلمى))، فقد وقع في حبها ووقعت هي الأخرى في حبه. حب المراهقة كما يقولون...
وكانت زيارات ((سالم)) هذه ضربة معلم، فقد استفاد منها فيما بعد وأصبحت له الكلمة الأولى والدالة الكبرى عند زوج أبيه، خاصة أن أخاه منها كان عاقاً سيىء المعاملة لأمه.
وزادت محبة ((سالم)) في قلب زوج أبيه بعد وفاة أمها في حادث أليم، فقد تعثرت وهي نازلة على السلالم (الدرجات) فوقعت وظلت تتدحرج حتى إذا ما وصلت آخرها تكسرت سلسلتها الفقرية فشلّت في الحال وهرع الخدم وابنتها على صوت السقوط فحملوها وجيء بالدكتور فقام بالإسعافات الضرورية ثم اختلى بوالد ((سالم)) وأسرّ إليه بأن حالة المريضة ميؤوس منها، وهكذا كان فقد لبت نداء ربها بعد ساعات من الحادث.
وحزنت زوج أبي ((سالم)) على أمها كثيراً وتقاطر المعزون والمعزيات وحضرت ((سلمى)) طوال مدة أيام العزاء الثلاثة. وقد تقبل ((سالم)) العزاء مع أهل المتوفاة بعد الدفن وجلس معهم أيضاً أيام العزاء.
كانت ((سلمى)) بيضاء البشرة كستنائية الشعر، ضيقة الجبهة، لها فم دقيق يضم شفتين مكتنزتين يغريان على التقبيل. وكان أجمل ما فيها عيناها النجلاوان، وكانت ريانة العود والقدمين، ومع أنها في سن النمو، والحكم في هذا السن صعب إلا أننا نستطيع أن نقول إنها ستكون فارهة الطول. حتى من يراها يعطيها من العمر أكثر مما هي عليه في الحقيقة.
ومضت أيام العزاء وكانت ((لسالم)) أفراحاً لا أتراحاً، وعادت ((سلمى)) إلى دار والدها بعد أن أهدته منديلاً من مناديل زمان المكتوب عليها بعض الأشعار. ولا تسل عن فرح ((سالم)) بهذه الهدية الغالية، فهي عنده تساوي الدنيا وما فيها. وأراد هو أن يهديها تذكاراً رمزاً لحبه وإخلاصه، ولكنها رفضت لأنها تعيش بين زوجات أبيها الثلاث وتخاف أن تسأل من أين لها؟؟ أما هو كرجل فالرقابة عليه أقل. وقد قبل ((سالم)) هذا المنطق على مضض.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1661  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.