شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الرابع
(1)
* ما أوحش الليالي الوحيدة!
ليالي ((عادل)): وحيدة، مشروخة الموال.. يتيمة الكلمة.. والنغم: أنين يخرج من حنجرة الحزن.
ها هو يدخل الزمن الغريب.
يرى الناس من حوله: يزرعون الأشجار، ثم يقتلعونها، ويقيمون مكانها: كتلاً إسمنتية... يلدون الأطفال، ويقتلونهم بحروبهم.. يُثرثرون عن المنطق، ثم لم يلبثوا أن يضعوه في كثافة التجريح حتى يسود الكذب والتزوير!
ها هو يدخل الزمن الماكر.
ارتفعت في هذا الزمن: جراح الإنسان فوق دائرة الخوف، إلى أبعاد تبسيط القتل والموت!
إن كلها ما عانى منه ((عادل)) يضطر أن يسرق له الرؤية من تيه النتيجة.. لأنه أراد أن يخفي المعاناة عن الناس ويصبح الفرق بين رؤيته وتوقعاته: الحيرة، واستسلام للتوقعات مهدراً كل رؤاه!
تعتاده أصداء من حوارات لم تجف دماؤها في عقله بعد.، كانت بينه وبين من توجهم في أعلى القلب والعقل.
يبتسم ((عادل)) في استذكاره لتلك الحوارات، وتغم عيناه بصورة مخلوق: عاش عمره سرابيا متموهاً.. أمضى العمر وهو يحتفل بالأكاذيب، حتى صدق أكاذيبه واعتبرها حقائق!
ذلك المخلوق: حاول أن يشير إلى نفسه، ولكن... عن طريق مساوئه!
إلى أين يذهب الآن؟!
هذا العاشق الرومانسي، الموجوع من الحبيبة، ومن الصديق... حتى غطاه الحزن، وتبعثر فى طيبة القلب؟!
تعتريه موجات حزن، حتى تستبد بصبره.. هو الذي أراد أن يجعل طيبة القلب: شمساً تصلى الرطوبة والعفونة بوهجها.. وقمراً يشكل أرض الصحراء - ضوءاً، وظلالاً، وهمساً شجياً فوق الشجن!
فهل يشعر الآن: أن ((الإنسان)) فيه قد تكامل، حين توحد مع حزنه، ومع تجربته، ومع انصهاره، ومع صهيله؟ !
ها هو في هذا التكامل/ التوحد. المشرع، المنطلق.
لم تكسره هذه الخفقة التي ارتدت إلى ضلوعه: مرفوضة من تلقي من أحبهم...
وكيف تكسره وهي تعود إلى ضلوعه: خفقة مجربة، ما زالت أقوى من الانكسار الذى يصنعه بعض البشر ليكون جثة للآخرين!
تساءل ((عادل)): هل يهمني الآن أن يتسع الوقت، أو ينحسر؟!
وما هو الشيء، أو المعنى الذي يستحق أن يتسع وقت عاطفته وصدقه له؟!
كم هي الأشياء التي انحسرت فى حياتنا بمعانيها.. بعد أن بلغت بإنسانها إلى شفرة الموت!؟
جنون، بروق، رعود، قوس قزح قمر في منتصف الشهر، قيظ لاهب، موج بركانى، شوارع مفتوحة للذين يمارسون الجرى على امتدادها، ولكنهم لا يعرفون طريق العودة منها ولا إليها!
رصاص... هو الذى صار يحسم ((اللقاح)) الإنسانى في هذا العالم. والإنسان: سقط من صهوات الجياد.
والخيول: بلغت مرحلة اطلاق الرصاص. حتى عليها!
* * *
* تعبث أصابع ((عادل، بمجلة التقطها دون أن يقصد قراءتها.. المطالعة اليوم: وقت مستقطع في حياة الكثير من اللاهين!
هو: غير لاه.. إنه - فقط - مسفوح في أودية الصمت، وشمعة عمره تُسقط قطراتها اللاهبة،. قطرة قطرة، كل قطرة تتصيد: ضحكة منه، أو خفقة - من بين ضلوعه!
توقف عند عنوان عريض يفتتح خبراً:
((في دراسة فرنسية: المرأة أصبحت شرسة))!
* قال ضاحكاً أو ساخراً: معقول... هذا الكلام يا ((عبلهّ))؟!
دخل الخبر به في إحصائية غريبة:
عدد النساء الشرسات في تزايد، عدد المسجونين من الرجال 5 ر22%، في حين أنا عدد المسجونات من النساء 4،24% ليست نسبة كبيرة!!
علماء النفس يحللون: المرأة تشبه في عواطفها: الإنسان البدائي الثائر دائماً، وإذا لم يظهر رد فعلها سرشاً، فتأكد أنها تضمر شيئاً من الانتقام في وقت مناسب،!
* قال ((عادل)) في أصداء كلمات الخبر: وَلْ... يأهل فرنسا: رفقاً بالقوارير!
ـ كان صوتاً من داخله يرد عليه: ((أنت ما تتوب))؟ !
* رد على صوته الداخلي: من أي شيء أتوب... من المرأة؟!... أتوب من العطر، والوردة، والنغم، والهمسة الأحلى، و..... الجلاد الذي يحول الرجل إلى ((ماشوسي))؟!
قال صوته من الداخل: ((أنت مسكين، منقوع في بقايا شموعها))!
* رد على صوته: أنا أقوى بحنانها، وبحبها الذي لا يخون... وأنا أضعف بأنانيتها، وعقدتها ضد الرجل أو نحوه!
وكان صديقه ((ابراهيم)) قد جعل حضوره إلى ((عادل)) متزامناً مع صوته الداخلى.
قال له ((إبراهيم)) بعد أن أصغى إلى الخبر: الذي كتب هذا الخبر من((مافيا)) الرجال!
ـ قال ((عادل)): ولماذا لا يكون دافع الرجل الذى كتب هذا الخبر من أفعال ((مافيا)) النساء؟ ا!
* قال ((إبراهيم)): غريب قولك.. معروف عنك رفقك بالقوارير، ومناصرتك لهن!
ـ قاطعه ((عادل)): هذه إحصائية مثبتة يا سيدي... فلم الاحتجاج والغضب!!
قال ((إبراهيم)): فليكن... لدى النساء عشرات الإحصائيات المثبتة أيضاً عن شراسة الرجل أيضاً.
ما زلنا - يا صديقي - نعاني في مجتمعاتنا من مشكلة ما أسميه (الطلاق الفوري).. أن يتزوج شاب من فتاة متعلمة، ولا يعيشان تحت سقف الزوجية أكثر من شهر، فيطلقها!
ـ قال ((عادل)): أو... تطلب هل الطلاق، لأن الشاب أقل مستوى من تفكيرها!
* قال ((إبراهيم)): هذه حالات لا تعمِّمها على القضية!
قال ((عادل)): ليس للشاب ولا للشابة يد أو حيلة في هذه ((النتيجة))..
أعتبر المجتمع هو المسؤول: الأسرة، الأب، والأم، التأثير المادي بمستوياته، شعور الشباب أحياناً أنهم شريحة موضع هجوم دائم ومستمر من المجتمع، ومن الإعلام، وحتى من المرور!!
* قال ((إبراهيم)): المشكلة تكمن يا صديقي.. في أن مثقفينا - كما يبدون يعيشون في واد بعيد عن هذه المتغيرات التي تحدث في المجتمع! وكأنَّ ((إبراهيم)) أراد أن يغير ((نكهة)) الحديث.. فبادر بسؤال لصديقه عادل)):
ـ من وقت طويل، لم تعد تأتي على ذكر ((نوارك)).. فهل انقطعت أخبارها عنك؟!
* نعم... لم أعد أعرف شيئا عنها!
ـ معقول يا رجل.. لم تتصل بك طوال هذه المدة، منذ عدت من القاهرة بخفي حنين المهدَى إليك من ((نوار))؟!
* تصور؟!... (حتى خُفا المحترم حنين) رفضت نوار أن تتنازل لي عنهما!)
ـ خلاص يا سيدي.. أمست وأصبحت ((فتاة إعلان)).. مين قدها، والبركة في سعادتك!
* ليوفقها اللّه.. في كل الأحوال
* * *
يرتد ((عادل)) إلى صمته..
يجد في القراءة سلوته، و((إقلاعه)) السريع من أصداء هذا العالم المادي، ومن زحام هؤلاء البشر.. الذين يتلذذون بخطواته الزاعقة، واقتلاعهم لأشجارهم،، وخرم أجمل لوحات عمرهم قبل أن يعرضوها للمزاد!
أصبح الناس يحبون الصيد... وضاع الموال!!
أمضى سهرته في ليله: يقرأ...
صورة ((نوار)) تعلو وتهبط في أمواج نفسه... تسبح وتغرق، كالإنسان في الرمق الأخير!
جثث الذين كانوا أصدقاء، تنغمر في صدره... ويعود إلى عبارة كان يقرؤها قبل قليل:
ـ ((كلما انتصب جحود من أحببت.. أضفت ضريحاً جديداً في صدري))!
كأنَّ الزمان قد صار فارغاً من التعبير.
وعلى مساحة الليل... أشعل حزنه، وبعثره على تضاريس نفوس الناس... كأن الشىء الآخر قد اختلط بالظل، ورمال هذه الصحراء التي تسفيها الرياح.
* (يسترجع صوت ((سارة)) الصديقة التي آزرته فى معاناته:- أفتقد هذه الأيام: ضحكتك، وقفشاتك، ولذعاتك... كأنك فجأة قد أضعت خفة دمك، وانتعاش روحك.
* قال لها: ربما... ملاحظتك صحيحة، حتى أنا نفسي أتساءل: ما السبب؟!
ولكن... أظننى، وأظنك نعرف الأسباب!
ـ قالت: بل اعتقدت أنك قد شفيت، أم أنك حين تُشفى من العشق يثقل دمك)؟!
حقاً.... لقد تغير ((عادل))، واشتاق إلى مرحه المعتاد!
* * *
(2)
الأيام تتداول ((عادل)).. وهو لم يعد يستطيع أن يحرك الأيام.
كأن تطلعاته قد تعطلت، وأفكاره تقلصت بتأثير ما عانى منه طوال الشهور الفارطة.
يشعر - في تأمله المتوحد مع آهته - أن لمحاته الذهنية قد تضاءلت، حتى كادت الرؤية لديه أن تكون ذات سياج... رؤية محدودة، لا تتخطى ذلك السياج، لا تقفز فوقه، لا تتمرد عليه.
إنه يدلج في دروب العجز، مبتعداً كثيراً.. وهو يرى ((لحلم)) أمامه: مطعوناً بنصل الخديعة، والخيانة، والجحود.. مضرجاً بدماء كأنها دمائه هو.
ينسى متعة التفكير، ليعود إلى صرخات داخله... يقظة الإحساس عنده، لا تنجيه من أصداء الغرية، وهو - بعد - في مكانه لا يتحرك. يحاور هذه ((التجربة)) العنيفة التي طعنت ((الحلم)) فيه، ورمته في الغربة حتى مع نفسه.. تلح عليه التجربة صارخة من أعماقه:
ـ لكي نلحق بالآخرين.. لابد أن نتغرب،حتى نتوحد معهم!
لكي نتساوى بالآخرين... لا بد أن نعانى من التجربة، وطول الخطوة.
ـ الفكرة.. لم تكن سوى حقيقة والحقيقة اليوم هي: الغربة)!!
* بعفوية، وبدون قصد من ((عادل))... تعلقت نظرته بعقربى الساعة /بداية المساء... كان هذا الوقت هو موعده مع ((نوار)) الذي يطلبها فيه بالهاتف، ويطمئن عليها.
لم تعد ((نوار)) تذكره... أصبحت ((نجمة)) إعلانات!
ـ هكذا الدنيا... لا، لا. بل هكذا الإنسان!!
إبتسم ((عادل)) وأصابعه تنقر على سطع مكتبه، وهو يتمتم بيت شعر مما حفظه للأخطل الصغير:
ـ يا للشفاه الكسالى.. لا تودنا
فقد حملنا على أفواهنا القربا!!
ولحظة شروده المتسكع هذا ما بين عقربى الساعة، ووجه ((نوار)) وأبعاد المعنى في بيت الشعر.. رن جرس الهاتف، وبتثاقل رفع السماعة:
ـ آلو... آلو، مين؟!
آلو... إنت ما عرفت صوتى؟ ... أنا ((نوار))
ربما أصابته رجفة، ربما ارتسم الذهول على محياه، ربما فقد النطق لثانية واحدة، وهو غير مصدق سمعه، ولا حتى صوتها... لكنه تمالك نفسه وأجابها:
ـ أهلا............. ن ((نوار)) كيفك إنت؟ !
* معليش، معك حق تسخر مني، وممكن تضع السماعة في وجهي.
ـ أسخر.. ممكن، لكن أضع السماعة في وجهك.. لا يمكن، أبي لم يربينى على هذا السلوك، ولا حتى الناس الذين يفقدون ذاكرتهم لم يضطروني لهذا التصرف.. ها، ما هي أخبارك؟!
قبل كل شيء.. أنا أعتذر بحرارة، خجلانة منك، أنت رجل طيب وصادق، ولكني أنا لا أستحقك.
ـ يا شيخة... لا يوجد إنسان طيب كل الوقت، بالذات في هذا العصر، لا تلومي نفسك، أستطيع أن أجد لك العذر عندي أو التبرير مني لك... فقط لأنك لم تكوني أنثى عادية في حاضري هذا منذ عرفتك، ولأنني اشتقت إليك.
* صوته يتصاعد من أعماق نفسه يهمس له: يا ملقوف.. يا مدلوق، إثبت، أنفخ في وجهها، أعمل نفسك غير مهتم ولا فرحان بعودة صوتها... حتى لا تتضخم أكثر مما ضخمتها أنت!!
ـ يرد على صوته الداخلي: أنا أتعامل بالعفوية، والصدق.. حتى لو حصدت من ورائهما تعب القلب، ومذلة الحب.. ألم يقل الشاعر:
إما بُذل.. وهو أليق بالهوى إخرس يا صوت نفسي الداخلي..
دعنا نسمع ما لدى ((نوار))!
* إنت رحت فين... آلو... آلو.
ـ أنا معك يا مليحة... مبروك النجاح ((اللي كسر الدنيا)) حتى أصبحت نجمة إعلانات!!
* الله يبارك فيك.. تعرف؟!... بدأت أتلقى عروضاً بالتمثيل في المسلسلات. وفي السينما.
ـ والله؟!... بخ، بخ، أقصد مبروك مرة أخرى، إن شاء اللّه أشوفك ((نجمة الجماهير)) على غيظ المذكورة، وبعدين ما تتذكريني أبدا!
* واللّه العظيم... إنت نقطة مهمة في حياتي، صدقني.
ـ ضاحكاً: أرجو أن لا تجعليني نقطة سوداء.
* إنت أخبارك إيه؟!... أنا في حاجة لك.
ـ عارف إنك في حاجة إليّ.
"عجيب... كيف عرفت؟!
ـ من اتصالك!
* لا والله... أنا اشتقت إليك، ونفسى أقول لك أخباري.
ـ غير أخبار النجاح العظيم في الإعلانات، و أدرلك مستقبلاً فى التمثيل؟!
أنا استقلت من عملى في الفندق، وجالسة فى البيت!.
ـ قصدك جالسة في الأستديو أمام الكاميرا؟!
مش دايماً... صحيح النجاح جاني من هنا، و.......
أجهش صوتها بالبكاء الحار جداً.
فوجئ ((عادل))... كأنها كانت تختزن هذا الصوت المجهش، وهذه الدموع منذ ودعها آخر مرة... لكنها لا تبكي عليه كما هو واضح، لا بد أنها تعاني من مشكلة.. من شيء صعب!
ـ ماذا بك؟!... أرجوك تكلمي، فأنا لا أحتمل رؤية ولا حتى سماع امرأة تبكي!
بصوت دموعها، لا شىء يا ((عادل)).. أنا كويسة!
ـ لا.. مش كويسة، وإنما منيلة فيه إيه أرجوك، كده أنا بديت أرتعش.
عندي مشكلة صحية.. ما تخافش إن شاء الله بسيطة، ويمكن أدخل المستشفى لإجراء عملية لا تستغرق أكثر من أسبوع، إنما مش دلوقت، ولكن بعد عشرين يوم، المهم إنى حا أكلمك كل يوم جمعة زى دلوقت بالضبط.
ـ وليه ما أكون أنا اللي أكلمك فى البيت!!
لا.. لأ، أرجوك.. ماما مش عاوزه، لكن أنا أعرف كيف أتصل بك في مثل هذا الموعد. باي.
ـ اسمعي بس... ألو... ألو.
* * *
* بعد أن وضع سماعة الهاتف.. سرقته الأفكار، والافتراضات، والتوقعات.. وكلها تدور في المساحة ما بين: دوافع اتصال ((نوار)) الهاتفي، والخبر الذى فجرته عن مرضها... وكأنها تعلن له خبراً سيئاً!
ـ هل..... اكتشفوا فيها.... مرضاً......
قاطع هواجسه: لأ.. لأ، بعد الشر، إنها وردة ما زالت تتفتح على الحياة. في عنفوان شبابها، وفي قمة أحلامها.
ـ إذن... مم تشكو، ما هو مرضها؟!
أو... بلغ بها الإتقان في التمثيل عليه إلى هذه الدرجة من البراعة: تبكي، بل وتجهش؟!
لأ... إنها لا تمثل، شعر ((عادل)) في صوتها بالصدق.
دخل عليه في مكتبه صديقه ((إبراهيم)).. وقد شاهده بهذه الحالة النفسية والتأملية، المصطبغة بالحيرة.. وبدا وجهه ممتقعاً بالإصفرار: - ماذا بك... ماذا حدث؟!
مفاجأة يابرهام لنكولن... والله مفاجأة، وَلْ... معقول؟!
ـ إيه.. فيه ايه، جننتني، ترى ما عندي أعصاب تتحمل، قول يا مخلوق..
تصور يا براهام... مين كان يكلمنى قبل (برْهة)؟!
ـ مين يعني؟!... ها هو انت جالس تكلم نفسك، ونفسك تكلمك من فترة كالمجانين، أو كالفلاسفة على شفا الجنون.. ارحم نفسك يا مخلوق.
لأ بجد... كانت ((نوار)) تكلمني!!
ـ رجعنا للهدرشة، وكلام المراهقين.
يا بني اسمع، ولا تفسد فرحتي، وجع بطنك يامنفش!
ـ نسمع... بس بدون شتائم.
((نوار)) اتصلت، اعتذرت، توددت، أسهبت في الأخبار، شهقت، بكت!
ـ وحْده.. وحده، اعتذرت، توددت... حتى شهقت، معروف ومتوقع، إنما الغريب وموضع السؤال لماذا شهقت، وبكت!
ألمحت إلى معاناتها من مرض، وستدخل المستشفى لإجراء عملية!
ـ وبطيبتك الشديدة طبعاً.. صدقت.
* يا مخلوق اسمع... البنت بكاؤها كان حاراً، ودمعتها لسعت أذني!
ـ حاضر... تريث وانتظر المكالمة الأخرى في الأسبوع القادم، وكما يقولون: شمس تطلع، خبر يبان!
* * *
(3)
كل شئ يبدو الآن ممكناً في ذهن ((عادل)) وربما في قدراته، ولكن... لا تأثير له عليه!
قد ينفجر باكياً، وعلى شفتيه بقايا ابتسامة صفراء، أو بيضاء.
قد يقهقه ودموعه تغسل وجههه، وتملأحلقه.
قد يفهم ما في داخله، ولكنه لا يفهم: لماذا هو فهم ذلك، وكيف فهمه؟! إنه مثال من شرائح عديدة في المجتمع العربي.. تعاني (بفهم)!
ورغم عجزه.. كان يلوح في استشعار قدراته وإرادته: أنه أكبر من تحقيق أقل شىء، وعن إمكان شيء واحد في داخله!
يضحك ((عادل)) وهو يغذ في تأملاته، ويسأل نفسه:
هل تراها ((لذة الخيبة)).. هذه التي يمارسها العالم المريض اليوم، بكل ما لا يؤثر الانسان به، وإنما يتأثر هو به؟!
إن ((الخيبة)) - وحدها - كشعور حثالي في قاع النفس، تبدو شيئاً ممكناً.. يمكن للإنسان أن يفعله ليكسر به طوق الآخرين من حوله... فهذا الإنسان المعاصر لم يعد يستمر: شكلاً واحداً، ولا شعوراً واحداً، ولا سلوكاً سرمدياً.. بل صار يتشكل على أكثر من صورة، وشعور، وسلوك. إن ((عادل)) - بعد هاتف ((نوار)) له - صار يراها هذا الإنسان المعاصر الذي لا يستمر شكلاً، ولا شعوراً، ولا سلوكاً... إنها تتشكل على أكثر من صورة حسب احتياجها ودوافعها.
إنها الآن تضحك على الحياة، في لحظة غفلة منها ومن الحياة ذاتها عنها!
لعل ((نوار)) تطمح إلى زخرفة واجهة حياتها.. وهى تعرف: بماذا تزخزفها والطرق المؤدية إلى ذلك!
و((عادل)): يرى في هذه الشريحة من البشر قدرة فائقة على زخرفتهم لحياتهم.. بالتزوير للعواطف، بالنفاق، بالخداع، بالبسمة الخادعة... وهو عاجز عن مسايرة هؤلاء!
* * *
أوجعته أفكاره، وتصوراته وتحليلاته... وكأنه كان - لحظتها - في حاجة شديدة جداً إلى امرأة، أوسَمْع يصغى اليه.
فكر في صديقته ((سارة)) في اللحظة التي رن فيها الهاتف:
ـ أهلاً ((سارة)).. غريبة، لعلها المرة الأولى التي تتفضلين فيها، وتتعطفين وتتنازلين، وتتواضعين.. فتكوني البادئة بالاتصال!
طبيعة المرأة يا صديقي: أن يركض وراءها الرجل، لا أن تركض هي وراءه!
- ولكني أنا ((صديقك)).. أقصد لست ((رجلك)) الذي تتمنين أن يستمر العمر كله يطرد وراءك.. وأنت - في إطار الصداقة الرائعة هذه - لا تركضين ورائي باتصالك، بقدر ما تتفقدين أحوال صديقك المكلوم في عواطفه بكل حيرة الدنيا.
أخبرني.. هل لديك جديد؟!
قص على صديقته ((سارة)) مفاجأة ((الهاتف النوّاري)) بالتفصيل الممل، وهى تصغي باهتمام، حتى فرغ من الحكاية و... زفر.
تكلمت ((سارة)) في عمق إصغائه لها.. فقالت:
ـ ((نوار)) ومثيلاتها: سلّعت نفسها قبل أن يسلعها الرجل.. ربما باضطرار دوافع حياتها، وأحلامها، وأحسب أن مرض ((نوارك)) الحقيقى يكمن في علاقتها بنفسها، ولدينا ذلك النهم على ((المقتنيات)) لها.. في الوقت الذي تفقد فيه جوهر الأشياء!
ولكن يا ((سارة))... ربما كنا نظلم الفتاة، أو نقسو عليها؟!
ـ المشكلة ليست في ((نوارك)) بل فيك أنت.
كيف... نوّري المحكمة؟!
ـ بدون مزاح، أو مزاح لا بأس... المهم: أنك لابد أن تكون قادراً لأخذ حقك من هؤلاء الذين برزوا كأمثلة في حياتك ((نوار))،الشاطر حسن،... الخ، لا بد أن تحجمهم!
وأين المشكلة ياسيدتي؟!
المشكلة في تكوينك... في رومانسيتك.. في رقة عاطفتك ورهافه شعورك.
الحقوق - ياصديقى تحتاج إلى قسوة المواجهة، وأنت تفقد هذه القسوة، أو لا تطيق أن تصدر منك ضد الذين انكشف خداعهم لك... قلبك لا يتحمل قسوة أخذ الحقوق، حتى حقوقك التي أنت مظلوم فيها مائة في المائة... أنت من هذا الطراز النادر اليوم: غير القادر على القسوة!!
إنني مثلك أيضاً.. نحن نرحم الآخرين، حين هم لا يرحمون أنفسهم.. التكوين العاطفي الذي فطرنا عليه، يجعل من كامل عقلنا: رحمة بالآخرين، وترفُّعاً بأنفسنا.. ربما لأننا لا نطيق أن نشعر أن الطرف الآخر يتعذب.
نعم يا صديقتى.. أنا لن أواجه هؤلاء، بل أواجه وجعي وأوراقي.. وكل ما أتذكُّرهم، أو حتى أتخيلهم وقد صاروا صغاراً متقزمين.. صدقيني أنني أتألم لحالهم، أو لمضمون نفسياتهم.
هؤلاء.. كان بينى وبينهم: عيش وملح، وكلمة حلوة... ولو وقف أحد منهم وسألني: لماذا هذا الموقف معي الذي أسقطتني فيه من حياتك، فأتوقع أنني أنهار أمامه وأبكي من أجله!
لا بد يا ((سارة)) أنني سأبقى لوقت طويل: حزين جداً لسقوط هؤلاء فى نفسي، وقد كانوا: قدوة ((كالشاطر حسن))، أو كانوا شمعة كـ ((نوار))، أو كانوا عمراً جديدا ((كغالية)).
أحزن.. لأنهم انكشفوا، وقد ينظرون هم إلى الأمور، وكأن الشئ لم يكن، ولم يصدر منهم.. ولو رأيت الندم في عيون هؤلاء، فلا بد أن تدمع عيناي!
ـ طبيعتنا عاطفية.. يذبحنا بها من نحبهم، ونتحدث عن الرحمة.. ولا نقدر أن نتعامل مع أناس قساة، قلوبهم صلبة، مغرقين في التعامل المادي!
* نحن نذبل - ياصديقتي - لكن بشموخ.. ونحن نتجرح، لكن بترفع.. ونحن نُطعن في الظهر، لكننا نصفح!
* * *
* أخذ ((عادل)) يتطلع إلى البعيد... في عينيه جثث العديد من الأسئلة التي ماتت بجوعها إلى الأجوبة.
وفوق شفتيه: ابتمسامة تتشكل حسب ما تتلقاه بهدوء، وبلا مبالاة.. كأن شفتيه تحولتا إلى قطعتي صلصال لها عشرات الاشكال!
أراد أن يخبئ كل الخفق الذي ثلمه غياب ((نوار)) في الأسرار، أو في الخديعة... حتى لا يجرحها بحزنه!
خاف على ((نوار)) من حزنه عليها... وهو حزن، كان في اختفائها كأنه يقرع بوابتها الحديدية لتفتح له!
* (في موقف كهذا.. لا بد أن يتذكر ((غالية)) التي طالما ناداها هي الأخرى، قبل ((نوار)) وربما بعدها سيستمر في مناداتها: أن تخرج من الصلف العاطفي إلى ضحكة الحلم.. أن تمشط شعرها بكلماته، وأن تلبس عشقه لها: ثوباً من الحرير الأبيض، وأن تتعطر بحنانه وبدفئه.. في ليلة مقرورة بالوحدة النفسية)!!
ترنم ((عادل)) بكلمات أغنية تلح عليه في وحدته النفسية.
ـ ((حسْب أيامى: جراحاً، ونواحاً، ووعوداً وليالي: ضياعاً، وجحوداً ولقاء ووداعاً.. يترك القلب: وحيداً))!
في هذه اللحظة التي لم يتوقعها - أن تتصل به (نوار) ثانية - حاول أن ينفيها من عينيه، حتى لا يغرق في أكاذيبها وخدعها.. كان ربيعها القديس يتراكم ثلجياً وخرافياً في صدره، وتمنى حين اللحظة تلك التي اقتحمه فيها صوتها، لو سألها:
ـ إلى أين سيحملك الخيال.. في عبثك بعواطف الآخرين؟!
إلى متى سيحتملك خفقك في قتلك لحلمي عنك وفيك؟!
أقسى ما يسقط فيه الإنسان: لحظة أن يبيع عفويته للغبار وللتعب.
أصعب ما يعايشه الإنسان: لحظة أن تكبر عليه غربته، فتسجنه معها في شروخ الحزن.
((نوار)): صارت هى غربة ((عادل)) وفي الغربة... يتدفق كل هذا الحزن النبيل الذي يطهره، ولا بد أن ينقي صدره من ثلج ((نوار)) الخرافي!!
* * *
حسناً.. أيها الرجل العاشق الرومانسي!
لا بد أن تتحمل أن تكون قد أتيت في عصر آخر.
دعك من الجراح، والحزن، وخطا النمل التي ترتد متضادة!
هذا هو قوام عصر الصاروخ، والهبوط على سطح القمر، والإيدز، والسرطان القاتل، والضعيف يلتهم القوي.
بكل ارتقاء هذه الحضارة في العلم، والإنجازات التي اضطلع بها عقل الإنسان... فإن الإنسان يتقهقر إلى شريعة الغاب.. إلى منطق: كل شيء بثمن، وغالبا يكون: بثمن بخس إذا كنت من تبيع، وبثمن جشع إذا كنت من تشتري!
قيمة الإنسان لم تعد في عبق الوردة، ولكن... في سحيق الوهاد!
النظرة الإنسانية: انفكت من الحصار التشاؤمي.. العصر بمتطلباته، وبظلم القوة فيه، جعلا التشاؤم: حياة يعيشها المعاصرون!
يريد ((عادل)) أن ينسى ((نوار)) ويسقط ما يمر به من محطات تتعاقب على دربه.
انه الآن: يتطلب الهدوء، والتأمل.
الحب في حياته: حقيقة... ليس ترفاً، وستبقى هذه الحقيقة.
* * *
(4)
كان شاطىء بحر ((جدة)) غافياً، وصدر ((عادل)) ساهراً، قلقاً - تشغل حرائقه: عينا ((نوار)) البعيدتان في لا مدى انتظاره.
كان يناديها، ويرتقب عودة صوتها من جديد، كما وعدته.
دعاها في الأصداء: أن تقترب منه بخفقها، قبل أن تمنحه دفء يديها. كانت يداها مهجورتين من قبلها.
وكان يرى في عينيها: قصيدة الفراق الذى توقعه، وحاول أن ينفيه.
في عمق سوادهما: فجر - يمتنع عن حقوله.
وفي شرودهما: مشوار نحو الريح، والمرايا.
وفي اتساعهما: أصداء الحلم المطعون - المنفي إلى جزر الخوف والزحام!
كان ضوء القمر ينعكس على صفحة البحر...
رأى وجهها داخل هالة القمر: عالياً، حليبياً - وجيدها متلع يشرئب نحو اللا مدى، مثل نجمة القمر!
(في زمن مسروق من الفرح القديم - من الطعنة الأولى السابقة التي أصابت حلمه بخنجر الغالية: ((غالية)) كان عبق الليل يضم ((عادل)) و ((غالية)) في رمل ناعم بجانب البحر - فسألها مازحاً:
ـ هل يحب القمر: وقفة التاريخ؟.
فى ذلك المساء الهامس بخفقاتهما.. امتزجت بسمة ((عادل)) ببسمة ((غالية)).. وكانت أضواء السيارات والمباني: تركع طيعة تحت ضوء القمر!!
كان المساء البكر - في ليلته هذه - يدخل ما بين حلم ((عادل)) وشروده..
لم يكن يدري أن الزمن الأجمل: لحظة مسروقة من الحلم.. مطعونة بالشرود!
صار حلمه المطعون: ممنوعاً من الحب.. ممنوعاً من الشوق.. هارباً من نداوة الذكرى.
وكان القهر يحرضه أن لا يتلفت خلفه حتى لا يرى الدماء التي تسيل من حلمه المطعون!
كل ما تراكم من حبه، ومن ثقته في الأصدقاء: ينفيه من أعماقه الأصيلة، النقية.. ليرميه بعيداً بدون حنين، أو حنان!
* * *
* عاد إليه صوت ((نوار)) في نهاية الاسبوع، بداية هذا المساء... يحفه الوهن وتغرق نبرته في التعب.
ـ سألها قلقاً: ماذا بك... هل أنت مريضة؟!
* قالت: لا تنزعج.. سأدخل المستشفى في بدء الأسبوع القادم لإجراء عملية بسيطة.. أرجوك لا تقلق.
ـ قال: حسناً... ما اسم المستشفى، وهل تسمحين لي بالقدوم لأكون بجانبك؟!
* قالت: لأ... أرجوك، أنا بالفعل أحتاجك بجانبي، ولا أدري ماذا أقول لك؟!
ـ قال: أي نوع من الاحتياج.. أنا بأمرك رغم أن ظروفي هذه الأيام صعبة جداً.
* قالت: تعلم أن تكلفة المستشفى - عملية، وعلاجاً، وتنويماً - باهظة جدا، بالذات لأنه مستشفى خاصاً.
ـ قال لها بعد صمت: متاكد أن صديقي معلمي ((الشاطر حسن)) له أفضال على كثيرين ومعهم، وأعتقد أن صلة الطيبة به تدفعه للوقوف بجانبك، خاصة وأنه الآن في القاهرة!
قالت: حاولت الاتصال به أكثر من مرة لكن.....
ـ قال: لكن..... ماذ ا؟!
قالت بصوت شبه منكسر وقلق: لم يرد علىّ.. ولم يحاول أن يعرف سبب احتياحى في الاتصال به - إننى لم أعد أسمع صوته ولا أسمع عنه، لقد كان عملياً معي!!
وقبل أن ينتهى الحوار الهاتفي مع ((نوار)): حزيناً - حرص أن لا يدعها تذل نفسها، فقال لها مقاطعاً:
ـ فهمت، فهمت. سأكون بجانبك، كما تعودت مني دائماً!
ولفّته دوامة من الحيرة، والذهول: صوت ((نوار)) بالغ الأسى، والتعب - ويدل على صدقها، فهل بلغت براعة البعض: أن يجيد تمثيل الصدق في قمة الكذب؟!
أيضاً - لا يريد أن يظلمها، وبادر إلى البنك، وحول لها المبلغ الذي كان في إمكانه أن يقتطعه من حسابه.
تلك هي علاقة ((الإنسان)) بنفسه: أن تكون ثروته الحقيقية: النور من داخله، وليس هذه الإضاءات الملونة الخارجية، ولا هذه الفلاشات التى تحترق في لحظة اشتعالها.
العلاقة الإنسانية التي كثيراً ما سخر منها صديقه ((الشاطر حسن)) أمامه من خلال حوارهما دائماً، خاصة وهو يتحدث عن ((المرأة))!
وحين يتذكر ((عادل)) الآن. كيف أن صديقه الشاطر حسن قد أنهى تلك العلاقة الإنسانية الرائعة فى مفهوم الصداقة معه، انحيازاً مبدئياً أو أولياً إلى ذلك ((المليونير الشاطر))... فإنه بقناعة شديدة مارس القطيعة، ليمنحه فرصة الانسحاب، أو الاختفاء بعد أن صار غير قادر على مواجهة ((عادل))!
ـ يهمس ((عادل)): إن الوردة التي تقطفها لأول مرة، تحتفظ بها.. لأنها علمت أنفك حاسة الشم، أو أيقظت هذه الحاسة فيك، وأعطت حواسك شذى العطر.. حتى يجن فيك الامتلاك، فتركض في الحقول تقطف الورود، وتشمها، وتضمها، ثم ترمى بها تحت قدميك ذابلة!
لكن هذا السلوك البشري لم يقدر عليه.. في حياته لم يطق مرة أن يفعل بأية وردة هذا السحق.
وفي همس بارد، لكي يتحرر من تعبه، ترك ديالوجاً في داخله يتسلل منه إليه:
ـ (هل أنت ميّت الآن؟!
ما هو الموت؟!
ـ ليس شرطاً أن يتوقف نبضك، ربما تشعر بتفاهة ما حولك.. بضياع كل ما حسبته لك... هذا موت!
لا أرغب في ممالأة شئ ما.. عندما يفقد المرء دواعي الحياة، فما قيمة هذه الحياة؟!
أشرب، وآكل، وأمشى، وأعمل.. لكني أنجذب إلى ما كان يعانيه بطل رواية ((مرتفعات ويذرنج)) الشهيرة.. والاختلاف الوحيد عنه: أن ذلك فقد الإحساس بالحب، والإنفعال والكراهية.. أما أنا فقد تخلصت من الانفعال حتى لا أكره، وحرصت على التشبث بمقدرة واحدة.. وهذا هو العذاب في عصر مادى)!!
* * *
* لم يعد يستطيع الإتصال بهاتف ((نوار)) في البيت، بعد أن حذرته.. وهو يراوح ما بين القلق عليها، وغياب صوتها، والخوف من أن تؤكد له مرة أخرى: كذبها وخديعتها.
وفى مساء رابع بعد أن بادر إلى تحويل المبلغ لها.. جاءه صوتها مكسوا بالفرح، بكلمات متعجلة سريعة، في حوار لم يدم أكثر من دقيقتين!
ـ تسلمت المبلغ، ولم يكن مفاجأة فأنا أعرف إنسانيتك - والشكر لك قليل أمام صنيعك!
ولكنك أخبرتني أن دخولك إلى المستشفى كان موعده في بدء هذا الأسبوع، ونحن الآن في نهايته!!
ـ لقد كنت أنتظر ما توقعت أنك ستبادر بإرساله - وغداً سأدخل إلى المستشفى.
وكيف سأطمئن عليك.. هل تعطيني رقم هاتف المستشفى؟!
ـ لأ - لأ، في المستشفى سيرافقني أحد من أهلى، ربما أمي، أو اخي، أو خالتي.
ولكنى سأكلف من يتصل بك - فلا تقلق، سيغيب صوتى عنك لمدة ثمانية أيام فقط!
ولا يدرى ((عادل)) لماذا شعر في هذه اللحظة: أنه يصغي إلى صوت ((نوار)) لآخر مرة.. وقد أزعجه هذا الهاجس كثيراً، وكثف من قلقه عليها - بل لعلّه تمنى في لحظته: ان يكتشف كذبة جديدة أو خديعة منها - بدلاً من أن يأتيه خبر عنها يسوءه، بصرف النظر عن العاطفة - فهو في هذا الموقف: مجرد إنسان!
ومرت الثمانية أيام، وقلقه يتضاعف.- حاول أن يتصل، لكنه لا يعرف المستشفى.
وفى حيرته وقلقه - كان يتساءل:
ـ هل ((الحب)) عبودية؟!
العبودية أنواع، والخوف أن تستعبد المادة الإنسان - وعبودية القلب أكثر معاناة وألماً - الأفكار وحدها هي التي لا تدع أحداً يستعبدها...
لكن القلب لابد لصاحبه في صد عبودية الحب له - فكأن الإنسان بالحب يستعبد نفسه بنفسه أولنفسه!
وأمضى ((عادل)) أسبوعاً آخر فى الانتظار - نصف شهر، ولم يتصل به أحد يطمئنه، ولم يعد إليه صوت ((نوار))!!
* * *
(5)
سقط رأس ((عادل)) في حجره، وما زالت نظراته حادة في سقوطها.
يُطوّح الأسئلة القلقة عن هذا التردّي في حالته النفسية، كأنه هذا المريض في حدة الإحساس:
ـ ماذا يحدث بعد أن ترحل أحاسيسك وتصد أمواجاً عاتية في بحر حب، ظننته سيكون كبيراً... ثم تفقده في بداية الطريق؟!
عبرته أيام عصيبة.. كان فيها ذلك المعتكف مع نفسه.
اعتكاف الإنسان مع نفسه: عملقة، قناعة.. يدل على أن هذه النفس:
ثرية بمعانيها، حتى ولو كان ثراؤها في إطار الحزن العميق!
اتصل بصديقه، حبيبه ((سيف)) هاتفياً:
ـ أنت صديق ((فشنك))!
وأنت مجنون في عواطفك!
ـ من أخبرك.. يابن ذى يزن؟!
حلمت بك تبكي في النوم، والذين يفسرون الأحلام يؤكدون: أن مثل هذا البكاء في النوم: فرج لصاحبه.
ـ فرج في الدرج يا ((سيف))... حكايه أخوك راكبه جمل.
ماذا حدث؟!... ولماذا أسألك، لابد أنك سقطت شهيد ((الحب النواري))؟! روى لصديقه ((سيف)) خيبته بالحذافير!
ـ قال له سيف: أنت لا تكره غيرك أبداً، ولكنك تكره نفسك فى الآخرين!
سأله عادل: كيف.. فسر لي طال عمرك؟!
ـ قال سيف. أنت تشاهد فيلما عرفت أبعاد مواقفه، وعقدته القصصية، والكثير من أحداثه المتوقعة لديك... لكنك بعد نهايته ما تلبث أن تفتش عن فيلم آخر لا يختلف عن الذى شاهدته وشدتك حكايته - أنت - يا ابنى - مغرم أفلام غم رومانسي!
قال ((عادل)): هذا تشبيه سخيف، فلا تربطني بما يستفزني!
ـ قال ((سيف)): حسناً - لعلّك تشعر الآن بالقرار، أن تكون حكاية ((نوار)) قرارك - ألا يكفيك ذلك؟!
قال ((عادل)) بلى - بالعامية! - إنه الفارق اللامرئي في أشيائنا، والخيط الرفيع في حياتنا!
ـ قال ((سيف)): علشان خاطرك -. حاجيب لك قرارها، وقرار اللي خلفوها))!
وأفرغ ((عادل)) وقته كله، بعد محادثته مع ((سيف)) في انتظار صوت صديقه يعود إليه ثانية ((بقرارها، وقرار اللي خلفوها))!
ولم يطل به الانتظار كثيراً.. لكن المعلومة التي عاد بها صوت ((سيف)) كانت مذهلة!
قال له ((سيف)) ساخراً كأنه يسدد إلى وجهه لكمة من يد أعنف مصارع: السندريللا بتاعتك، مش عيانه ولا دخلت مستشفى، وزى العفاريت!
ـ كيف - يستحيل - غير ممكن!
أمسك أعصابك لقد كلفت سكرتيرة المكتب بالاتصال ((بنوارك)) وعندما تتحدث امرأتان معاً - عليك أن تصغي للعجب العجاب، لكن طلبت من السكرتيرة في نهاية محادثتها مع ((نوار)) أن تخبرها بقلقك عليها، وبضرورة اتصالها بك.. فوعدتها خيراً، بعد أن فوجئت أن السكرتيرة: دسيسة من حضرتك لكشفها!!
ـ وعدتها خيراً؟ !.. على طريقة الموظف الميري ياسيد!
انت زعلان ليه؟!.. إفرح إنك كشفتها على حقيقتها، أو أقل لك: إبكِ علشان ترتاح!
اسمع يا صديقى هذه العبارة لكاتب فرنسا القديم ((اندريه جيد)) الذى قال: إنك إذا اكتشفت حزنك وعرفت ما تريد، أو ما صنعه بك الآخرون.. فلا بد أن تتعرف على أسباب اكتئابك أو خيبتك، ولابد بعد ذلك أن ترتاح "!
ـ أشكرك ((ياسيف)).. أرجوك، أريد أن أخلو مع نفسي قليلاً.
ولكني سأقلق عليك.. أرجوك طمئنني.
ـ لا تخف... فالمثل الشعبي يقول: ((الشقي.. عمره بقي))!!
على فكرة.. لكى تكمل المعلومة لديك: نوارك تركت عملها فى الفندق، صحيح مثل ما أخبرتك، واشترت سيارة جديدة، صحيح، ولكن... لن يدخل فيها سعادتك أبداً (!!) ونجحت في الإعلانات، ضارية بشكل ملفت، ولا فضل لك.. خلاص نسيتك ((نوارك))، و...
ـ كفاية ((يا سيف))... مع السلامة.
* * *
* شعر "عادل، بالاختناق، وبعفوية.. امتدت يده إلى سماعة الهاتف، ليتحدث مع صديقته ((سارة)) لكن الهاتف رن في هذه اللحظة.. وحين أجاب فوجىء بصوت ((نوار)) يأتيه:
ـ ألو... عادل، أنا أَسفة في تأخرى عن الاتصال بك.. أصلي كنت وما زلت أواجه مشكلة مالية في تسديد تكلفة المستشفى، ومطالبتها لي بالدفع الفوري، و......
أصغى ((عادل)) إلى تدفق صوت ((نوار))، واكتفى بسماع الخلاصة التي ركزتها هذه المرة في مباشرة الطلب... ثم بادر بوضع سماعة الهاتف، بعد أن مكنها من سماع صوته، لتعرف أنه هو الذي أجابها:
- لم أعد أعرف إمرأة بهذا الاسم!
وضع سماعة الهاتف، ويده ترتعش، وعيناه غائمتان بالدمع.
خاف أن يتضاعف اختناقه - فتناول سماعة الهاتف، وطلب صديقته ((سارة)):
ـ بادأته ((سارة)) بالكلام بمجرد سماعها لصوته: أهلاً عدولة. - أنت فين؟! -. أنا زعلانة منك.. إنت نسيت أن تشاركني في أحزاني كما عودتنى، واعتبرتك: الأخ، والصديق، والمرآة... لقد أغرقتني في أحزانك، وتركتني أعيش فى حزني، ولكن..صدقني إنني أعيش حزناً سعيداً، لا عليك... كلانا - أنت وأنا - قد أدمنا الحزن السعيد.
* إيه يا سارة.. إنت بالعة راديو، إبلعى ريقك.. هبْ على إرسالك؟!
جلجلت ضحكة ((سارة)) وهى تواصل كلامها في أذن ((عادل)):
ـ ((عدولتى)).. نصف الألف خمسمانة، الآن أوكازيون، أو خسارة: نصف الألف نصف الخمسمائة.
* لأ يا سارة.. نصفها لم يعد خمسمائة، بل:صفر - صفر!
ـ ماذا بك صوتك غريب؟!
أخبرها ((عادل)) بالاكتشاف ضمن المعلومات التي تقصى عنها صديقه ((سيف)) وقبل ذلك: كان سيف - كما أخبره اليوم - قد حاول معرفة خلفيات هذه الفتاة، خوفاً على صديقه ((عادل)) من الانزلاق في أمواجها العاتية.
* قالت ((سارة)): لا عليك.. الإنسان الذي عانى من الحرمان والصدمات مثلك وأدمنهما - تكون الحرب معه صعبة، لأنه: لن يفجع في مثل هذه الشرائح..(سُو واتات) يا صديقى؟!
الحلم المطعون: يحسب الذين قتلوك باسم الحب، قد طعنوه كله حتى النزف أو النزع الأخير: ((نوار)) ((الشاطر حسن))، المليونير الشاطر)) لكنني أري طعنة حلمك من قبل هؤلاء قد أحدثت ثقباً في الحلم، وأثق أن ما لديك من أمل، قادر أنت على تجديده، سيرتق هذا الثقب الذى تحرص أنت بإرادتك أنت وتجعله طعنة فى كبد حلمك.
للحلم المطعون - واضحة، وتنتصر الفضيلة -! دعه للأيام، فهو يتعرى، يتعرى!
* تعرفي.. نفسي الآن أضع رأسي على صدر حنون، كأم تحنو على طفلها الكبير وأغفو!
ـ بضحكة هادئة قالت له ((سارة)): يا صديقي الطيب ((فتعلم كيف تنسى، وتعلم كيف تمحو)) - أنت ((يا عادل)) أحببت امرأة خلقتها بخيالك أو من خيالك، وكل الذين عرفتهن، كنت تبحث في كل واحدة منهن عن: رمز، عن معنى، عن قيمة، عن عطاء عاطفي - والكثير منهن: قتلنك، والقليل: جعلنك تستمتع بالحياة معهن - وتظل أنت: صانعهن؟!
* * *
* فى عمق الجرح - ينزف حلم ((عادل)) المطعون.
والدنيا من حوله الان: لا تجيء، لا تذهب، لا تقف.
يصرخه الجواب: لغة في قاموس الفجيعة، والصدمة!!
تلك اللحظة - كان الموت يفاضله، ما بين رحيل الحب وبقاؤه مندلعاً في أوردته -. ما بين السر يداجيه ورْفُضه أن يكشفه حتى يرتاح!
بين التعب.. يفيض: ((عادل)) الآن من أعماقه: ظنوناً وجنوناً!!
ـ قال عادل: هذا أنا أسقط في ((لذة)) الخيبة... عندما صارت الأشياء: باهتة، وتقشرمن فوق جلدها الزيف، وظهرت حقيقة هذه الشريحة!
* قالت سارة: هؤلاء بشر مثل مناديل الورق.. التي تبدأ خدماتها من ((اكلينكس)) فوق طاولة صالونك ومكتبك، وتصل حتى المرحاض، أكرمك الله... وهى شريحة قد نبدو أمامها كالمتفرجين، ولكننا لا نقدر أن نواجهها، لأننا نفشل في إتقان أسلوبها.
إننى أسترجع في ((قرار)) ((نوارك)) في صدرك: قرار ((الشاطر حسن)) أيضا.. ولم أحدثك عنه من قبل، فقد كان يلذ له أن يتعدى على سعادة الآخرين.. لا، بل يحرض الآخرين على سعادة بعضهم... هو لا يتجرأ ولا يستبيح لنفسه فقط بل يفشى هذا الأسلوب!
ـ قال عادل: لا أظن أن الشاطر حسن، قد ضمن استمراريته في حياة ((نوار))... فقد كان مما يهمه في موقف كهذا أن يحرضها علي،وأن يأخذها إلى بعيد.. فإذا أخذ منها رماها... وأذكر أنه حرضني مرة أن أدخل في حياة الأنثى التي أحبها صديقنا معاً ((ياسر)) وأخطفها منه... وهو يحمسني بحكاية قديمة أكل عليها الدهر وشرب.. يوم سرق ((ياسر)) مني امرأة غالية جداً، كانت في حياتى يومذاك: شمعة، وحلماً نسجه الحب بيني وبينها أحلى سنوات العمر نضارة، وطموحاً!!
أطلقت ((سارة)) ضحكة مجنونة، وقالت:
ـ يا له من فاجر الأفكار، أو فاجر الفكر... أرجوك أعد ما قلت، أعد.. حقاً حرضك على الأنثى التي يحبها ((ياسر))؟!
* نعم... ألست مصدقة؟!
تعلو قهقهات ((سارة)) ثانية، وهى تردد:
ـ إنه فاجر الفكر بلا شك، وأنا متاكدة لو قدر له أن يعرف أنثى ((ياسر)) لكان حرّضها عليه، وقد يقول لها، الطيور لا تقوى أجنحتها إلا بالتنقل من غصن إلى غصن))!
لكن هيهات له.. ليست كل الطيور، وما أجمل أن تتكشف الحقائق.
جدة 31 - ربيع الآخر 1415هـ
26 ـ سبتمبر 1994 م
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1734  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 142 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .