شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بيت خاتون... والصُّلاّح...
ووضعت منكشة، ومعها بدرية، وأنا، أطباق التعتيمة على أرض المجلس، وقد حرصنا جميعنا على أن لا نترك في المطبخ، ما يستلزم أن تذهب منكشة، أو أي واحد منّا اليه منفردا... لأن المخاوف، مع المزحات المتوالية، عن الساكن الذي نوهم منكشة أنه يتسلل أمامنا، لم تعد مزاحاً... سيطر الوهم على بدرية نفسها، ولم ألبث، أنا أيضا أن وجدت نفسي أقفز وأصرخ متوهّما أن الثعبان الخطير يتجوّل في ساحة المطبخ، وتصرخ معي بدريّة ضاحكة تارة... وجادّة مرتعبة أخرى.
كانت نظرات اللوم والتأنيب تصوّب نحونا من الخالة فاطمة، بحيث لم تتردد في أن تقول لمنكشة:
:ـ. مادام بتخافي من المطبخ... وقبل كدة جاتِك القرينة من الحنية... طيّب يعني فين تبغي فاطمة وولدها يروحوا؟؟؟ يا منكشة انتي طول عمرك في هادا البيت... ايش اللي جَدْ فيه عشان اصبحتي (تجّعرِي) من الخوف... وتخوّفي معاكي بدرية وعزيز؟؟؟
وكانت مفاجأة لنا جميعا أن ينطلق لسان منكشة، بلكنتها العربية المكسّرة لتقول:
:ـ. انتو يا هانم افندي... كلّكم كنتو في الشام... انا بس هنا في المدينة... في هادا البيت.. في هادا الزقاق.... البيت كلُّه ما في أحد... الزقاق كمان ما في أحد... الساحة... كلّها الين حرم الشريف.. ما في أحد.... كمان أموات... ناس كتير ماتوا... في الصبح... عساكر فخري باشا... في الساحة... كمان في هادا الزقاق... كمان في زقاق الطُّوال..... في حوش الجمال... في زقاق الحبس... عساكر فخري باشا يشيلوا ناس ماتوا في الليل....... كيف ماتوا؟ انا ما يعرف؟.. دكتور في خستخانة قالوا يمكن كوليرا... قالوا يمكن تيفوس... كمان ناس قالوا يمكن (تاؤون)... هادا (تاؤون) يالطيف... لازم يموِّت ناس قوام قوام...
وأخذت أرى، في وجوه الخالة فاطمة، وأمي وبدرية سحابة الرعب والتفجّع... بل بلغ الخوف بأمي بالذات، ان أخذت تدير بصَرها في النوافذ، كأنها تتوهّم أن هذا الموت سيقتحم علينا مجلسنا، رغم ضوء القمرية... واللمبة (أم فتيلتين)، بل واللمبة التي علّقت الآن في الجدار بعد أن فرغنا من الحاجة اليها في المطبخ. ساد الغرفة صمت ثقيل بحيث ظل كل منّا ـ حتى الخالة فاطمة، وليّ الشيشة في يدها، قضت أكثر من بضع دقائق لا تتقدم نحو (صفرة) التعتيمة وأطباقها... كانت ملامحها تعبّر عن شرود وكأنّها تتذكّر سلسلة من الذكريات... أما أمي، فقد رأيتها تقرأ همسا آيات من القرآن، ولا تكف عن التلفّت حولها... ولم تكن بدرية أقل رعبا، اذ تسمّرت نظراتها على منكشة، التي استغرقتها ذكرياتها، بحيث أخذ بياض عينيها يحمّر، والدموع تنذرف، فتلتمس من صدرها ذلك المنديل بني اللون، الذي اعتادت ان ترقأ به دموعها..
وانتبهتْ أمي إلى أن التعتيمة على الأرض وإلى أن أحدا لم يقترب منها فنهضت من مجلسها بحانب الخالة فاطمة وهي تقول:ـ.
:ـ. طيّب يا خالة (بسم الله)... الشاهي لا يبرد.
و ((بسم الله)) هي الجملة، التي ترادف كلمة (اتفضّلوا بين الأهل)... ولم تخف الخالة فاطمة إلى المائدة قبل أن تسحب نفسها طويلا من الشيشة وهي تقول:
:ـ. اللي قالته منكشة، يا فاطمة فكرني بأحباب، مارضيو يسافروا الشام... سمعت انهم كمان ما كانوا يتحصّلوا على التعيين... على الأكل اللي كان الباشا يقسّموا على الناس اللي ما رضيوا يسافروا الشام... عشان الأكل اللي كان عنده كان لازم ما يعطوه الاّ للعسكر اللي بيدافعو عن المدينة، من النصارى، وعساكر الشريف... سمعت يا فاطمة يا بنتي، الناس، اكلوا الحمير الميّتة... والخيل اللي ماتت من الجوع... وبعدين... تدري ايش اكلوا كمان؟؟؟ يا بنتي، اكلوا الكلاب... والبِساس..... وبعدين... قولوا . يا لطيف... بعدين فيه ناس وصل بهم الحال، انهم كانوا يندّروا الأموات اللي اندفنوا جديد... يندرّوهم وياكلوهم... ايوه يا بنتي... اكلوا الأموات... ومين يدري يمكن صحيح اللي سمعناه في الشام، فيه ناس والعياذ بالله، اكلوا بزورتهم... يعني كان لازم يموتوا من الجوع... وكان لازم يلتقوهم مرميين في الأزقة، ويشيلوهم ويدفنوهم... وما هو في البقيع... لا... أنا سمعت انهم كانوا يحفرولهم في قُبا وقربان وحتى في العيون... ويدفنوهم كل خمسة.. وكل عشرة مع بعض... يا لطيف... قولوا يا لطيف... وهيّا نقرا على أرواحهم الفاتحة...
وهنا ـ والجميع وقد رفعوا أكفهم يقرأون الفاتحة ـ نسمع صوت منكشة المرتعش تقول:
:ـ. هانم أفندي... أنا بعيني هادي، واحد يوم بعد صلاة الصبح.. شفت... واحد ولد صغير ميّت في زقاقنا... قدّام بيت الصافي... وكمان واحد كلب كبير.. ياكل وجهه.. بعدين عسكر فخري باشا جا شاله... أم الولد قالت... مع العسكري... أبو الولد كمان مات هناك عند دكان العم صادق... في أول الزقاق.
وساد الغرفة، والجلسة كلها جو قاتم مقبض.. بحيث بدا، كأن أولئك الموتى.. والمرضى وتلك القبور التي يحفرها الجنود هنا وهناك، ويدفنون فيها الموتى جماعات.. بل وعساكر فخري باشا انفسهم، وإن كانوا قد خرجوا من المدينة معه بعد أن استلمها جيش الشريف... فإن أشباحهم، وجميع المشاهد الرهيبة التي كانوا يعيشونها، ماتزال تضطرب، وتلقي ظلالها في كل زقاق.. وعلى الأخص في مثل زقاق القفل، هذا الذي نعيش في بيتنا فيه.
وكررت أمي جملتها وتقدمت من الصفرة وهي تقول:
:ـ. يا خالة... بسم الله... الشاهي يمديه برد خلاص... ياريت يا أمي منكشة تلقمي لنا براد جديد...
ولكن الخالة فاطمة، كانت قد استوعبت الموقف كله... وحملتها موجة الذكريات البعيدة التي عصفت بها.. ولذلك، وبهدوء، وعيناها هي أيضا قد احمرّتا وبدتا دامعتين، قالت:ـ.
:ـ. لا يافاطمة يا بنتي.. لا تكلّفي عليها.. وبدرية وعزيز، قاطع قلبهم الخوف، ما يقدروا يروحوا معاها المطبخ... خلاص... بسم الله.. والشاهي برضه طيّب... بس هيّا يا بدرية صُبّية... ومرة تانية قولوا: يالطيف... يالطيف..
وأخذنا نردد معا كلمة (يالطيف)، وامتدت أيدينا إلى الشريك أبو السمسم، وأخذنا نتناول، ما في أطباق التعتيمة.. ولكن دون أن ينبس أحد منا بكلمة واحدة..
أصبح مجلسي المألوف أو هو المقرر، بجانب بدرية، حتى ونحن نتناول التعتيمة... أخذت تصب الشاهي في الأكواب، كنت أنا أرامق يدها... أجل يدها... ومرة أخرى، لا أنسى اليوم وأنا أكتب هذه السطور، أن هناك الكثيرين الذين يستكثرون على طفل وقفاته، أو هي ملاحظاته عند مشهد (يدها).. أجل يدها... كانت لها في نفسي مشاعر عجيبة، ماازال عاجزا عن فهمها حتى اليوم... كل ما يمكن أن أعبر به عن هذه المشاعر، هو أني كنت أتابع هذه اليد بنظراتي، وهي تتحرّك بين هذا الكوب وذاك، تزوّده بملعقة أو اثنتين من السكر، ثم تقلّبه، فأتلهّف للمسها وتقبيلها... ومع أن الأحاديث التي دارت، وملأت نفوسنا ضيفا، وأذهاننا خيالات وأشباح أولئك الموتى، فأني ـ ربّما وحدي ـ كنت مشغول الذهن بشيئين: بفرحتي الطاغية بأني جالس إلى جانبها، ثم بأني منذ الليلة، قد أصبحت المخلوق الذي تمازحه، وتداعبه، وتضحك تعليقاً على حركاته ساعة كان يقفز رعبا في المطبخ، وهي تمازح منكشة وتخوّفها من الساكن الموهوم. ولي أن أقول اليوم أن بدريّة هذه، كانت هي الإنسانة، التي ذكرتني، وظلت تذكرني بعد ذلك لفترة طويلة، جدّت فيها احداث مصيرية على حياتي،... ذكّرتْني.. وتذكّرني بخالتي خديجة، تلك التي ما أكثر ما كانت تضمني إلى صدرها، وتحيطني بذراعيها، وترفع وجهي بين كفيها، وتنظر إليّ والابتسامة الحلوة تشرق وتترقرق في عينيها، وعلى شفتيها، ثم تغمرني بقبلاتها: بين عيني، وعلى جبهتي، وعنقي... كأنها كانت تروي ظمأها إلى الحب، الذي لم تجده في زوجها الذي ضاع... ثم ابنها الذي مات. ثم في تلك الحياة، مع سعلة السل، وقد كانت لا تجهل ابدا أنه العلة، التي ستزفّها إلى قبرها... وقد كان... فهي، هناك... في تلك المقبرة التي رأيت شواهدها، الكثيرة، في رحلاتنا إلى الرابية الخضراء... رابية الخبيزة والأزهار الصفراء فيما وراء قلعة حلب.
* * *
ظللنا نتناول طعامنا من الألوان التي تجمّعت في (التعتيمة)، ولا أدري كيف لم تجد منكشة ما يمنع أن تجلس بالقرب منا، وأن تأخذ كوب الشاي في يدها، وقطعة الشريك، مع حبات من الزيتون... وقطعة من الجبن... كان ذلك غريبا بالنسبة للمألوف من تأدّبها وحرصها على أن لا تسقط الكلفة بينها وبين أمّي... فضلا عن ضيوفنا... وحين التفتّ اليها رأيتُها ماتزال دامعة العينين... وانتهزْت فرصة الصمت الذي بدا كأن الجميع التزموه في هذه اللحظات لتقول في عربيتها المكسّرة:ـ.
:ـ. هانم افندي... انتي كمان فاطمة هانم... هادا البيت،... كمان هادا الزقاق، يمكن كلّه مليان أرواح... أرواح ناس ماتوا في المدينة... كمان ناس ماتوا هناك في الشام... في المدينة، حميدة هانم... بنات وأولاد... صفية... عمر، جميلة... في الشام سيدي شيخ افندي... عبد الغني.. خديجة... مراد.. زاهد...
والتفتت اليها أمي منفعلة، وقالت بالتركية كلاما معناه كما فهمت:
:ـ. ماذا تريدين أن تقولي... وما لزوم هذا الكلام؟؟
ولكن الخالة فاطمة تدخلت تقول:
:ـ. خليها تتكلم يا فاطمة يا بنتي... أنا اظن كلامها صحيح.... انتي عارفة انو ارواح الناس اللي بيموتوا.. مابتموت... الروح حيّة... وما دام كلّهم أهل الزقاق.. وأهل هادا البيت... لازم يكونوا حايمين حوالينا... يعني زي ما قالتْ... البيت والزقاق وحتى المدينة كلها مليانة بأرواح الناس اللي ماتو... لكن ابغا اعرف ايش تبغا تقول ثم التفتت الخالة فاطمة إلى منكشة وهي تقول:
:ـ. ايوه يا منكشة.. لكن ايش قصدك تقولي؟؟؟ كيف نسوّي مع هادي الأرواح؟؟؟
ولعلّها المرة الأولى، التي نجد أنفسنا، كلّنا، نصغي إليها وهي تقول:
:ـ. هانم أفندي وعزيز، لازم بيتْ تاني... بيتْ بعيد عن هادا الزقاق وقاطعْتها الخالة فاطمة تقول:
:ـ. لكن يا منكشة فين يروحوا؟؟؟ هادا بيتهم بيت أبوهم وجدّهم؟؟؟
:ـ. انا ما يعرف فين يروحوا.. لكن لازم... لازم ان شاء الله بيت تاني... في هادا البيت... في هادا الزقاق (القَفَلْ).. ارواح... ارواح كتير.. عشان كده دايما فيه زَعَل... فيه خوف... فيه بُكا... كمان هدا صغير.. عزيز.. مسكين.. مين يعرف أرواح، ايش يسوّي معاه.. انتي ما تخافي من (قرينة)... من ساكن... جن... عفريت... كلّه... كلّه، هانم افندي، كله موجود في هدا البيت.. في هادا الزقاق.
وما كادت تكمل آخر جملة في هذا الكلام الخطير الذي أصبحت تتوسّع فيه، حتى فوجئنا جميعا بصوت الحاج عبد الرحيم.. يرتفع في الزقاق مبحوحا أو مخنوقا... ينادي... لا بل يطلب أن نفتح له الباب.
وقبل أن ينهض أحد... لاستطلاع الخبر.. سمعنا صوت (العم محمد سعيد) زوج الخالة فاطمة جادة.. يقول:
:ـ. خير... خير ان شاء الله يا حج عبد الرحيم... ايش فيه؟؟
:ـ. خاتون... كمان ما شاء الله... ما يدري عن أنفسهم.. خوف... خوف.. يا شيخ محمد سعيد...
:ـ. خوف من ايه؟؟؟
:ـ. صُلاّح... صُلاّح في الديوان... في القاعة..
:ـ. صُلاّح؟؟؟
:ـ. ايوه.. صُلاّح... مشايخ.. خاتون شافتهم... وطاحت ما تدري عن نفسها... وزيّها كمان ((ما شاء الله)).
:ـ. لكن انت... انت شفت هادول الصُّلاح؟؟؟
:ـ. لا... انا ما شفت.. لكن سمعت كلّهم يقروا دلائل الخيرات..
:ـ. سمعتهم بيقروا دلائل الخيرات؟؟
ولم يعد الحاج عبد الرحيم يطيق مزيداً من الحوار بينه وبين العم محمد سعيد، اذ رفع صوته منفعلا ساخطا يقول:
:ـ. خاتون... و ((ماشاء الله)).. وبيبي روحية... لازم يطلعوا عند بيت شيخ افندي.
وهنا ارتفع صوت الخالة فاطمة تخاطب زوجها (العم محمد سعيد) وتقول:
:ـ. طيب... وليه ما يناموا في بيتهم؟؟؟
وانفجر الحاج عبد الرحيم وهو يقول:
:ـ. انا ما قلت، عندك يا فاطمة جادة... انا أعرف انتي ما تبغي خاتون... ما تبغي ما شاء الله... ما تبغي أحد منّنا...
ثم رفع صوته عاليا يقول:
:ـ. فاطمة... فاطمة بنت شيخ افندي... افتحي الباب...
:ـ. وتناولت منكشة اللمبة العلاّقي... واسرعت بخطاها الثقيلة تفتح الباب.
ولم تمض أكثر من عشر دقائق أو ربع ساعة... حتى كان الحاج عبد الرحيم يحمل خاتون.. ويسحب في يده (ماشاء الله)... وخلفه (بيبي روحية) العجوز... يحتلون المجلس... والتفت إلى أمي يقول:
:ـ. أنا أنام، في الدهليز... بس خاتون... ما شاء الله.. وبيبي.. عندك هنا...
:ـ. اهلا وسهلا بهم...
وتدخلت الخالة فاطمة تقول:
:ـ. بس يناموا فين؟؟؟
:ـ. على الأرض... ما هو لازم مُرتبة.. ماهو لازم مخدة.. على الأرض.. على الأرض.
وهنا.. نهضت الخالة فاطمة... ونهضت معها بدرية... وهما تقولان لأمي:
:ـ. خليناكي بعافية يا فاطمة... ولا تخافي من كلام منكشة... بكرة ان شاء الله ما يكون الا كل خير.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1052  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.