شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > سلسلة الاثنينية > الجزء السادس (سلسلة الاثنينية) > حفل تكريم الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري (اثنينية - 65) > رَدُّ الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري على كلمة الأستاذ أحمد جمال وقراءة الشاعر شيئاً من شعره.
 
(( رد المحتفى به على كلمة الأستاذ أحمد جمال ))
ويرد الأستاذ عمر على ذلك بقوله:
- لقد جرح الأستاذ ثناءه بما تحدث به عن عمق الود بيننا، على كل حال جزاه الله وجزاكم كل خير. وأنا لا أقول متواضعاً، وإنما أكرر ما سبق وقدمت نفسي لكم به.
- الإِمام الشافعي كانوا يسمونه "كعبة العلم" من شعره يقول:
كلما أدبني ربي
أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علماً
زادني علماً بجهلي
 
- نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتجلى علينا بستره، وأن يفتح لنا فتوح العارفين. واستجابةً لرغبتكم في سماع شيء من شعري فسأتلو عليكم قصيدة عنوانها "شاعر ونجمة".
- كان الشاعر الغريب يرسل زفرته في كبد الليل يناجي ربه، ويشكو كربه، ، وكانت في السماء نجمة شاعرة تصغي إليه، وتتحسر عليه. وتكونت بينهما مودة خفية وفية، فكانت تبكي لتباريحه حتى فقدت بصرها، وفرقت بينهما الأقدار. وفي ليلة تصف القصيدة أجواءها، حنت النجمة إلى الشاعر، وأخذت تُسائل عنه جاراتها.
الليلُ والبدرُ على خده
ونَهلة العشّاق من نَهدِه
هذا على جيد الهوى ناعس
وذاك مرتاح على زَنده
والأفقُ في تيه المدى شاردٌ
بين سَحابٍ ضلَّ عن قصده
والبحر صدر الكون أمواجه
أضلاعه والخَفقُ في مدِهِ
ونجمةٌ تسأل جاراتها
ماذا عن الشاعر عن وَجْدِه
عن قلبه يحمل هم الورى
عن سعيه يبحث عن رفده
عن المنى تضيق عنها الدُنَا
أخطأها الجدُّ على جِده
يعيش منها العمر في غُربةٍ
والصبر معوان على كده
وتُردف النجمةُ كم كان لي
من بثّه حظٌّ ومن وُده
يَشكُر لله ويشكو ولا
ضَيْرَ فشكوى الحرُّ من حمده
كم كنت أبكي لتباريحه
حتى خوت عينايَ في سهده
عهدٌ وما زلت على عهده
ترى أما زال على عهده
ورُحْن يبحثن وقالت لها
السُّها، كسيفٍ سُلَّ من غمده
أرى بعيداً شبحاً هائماً
فؤاده يُشْرقُ من وَقْدِه
يجرع كأسَ الشوك في غُصَّةٍ
والوَردُ يدعوه إلى وِرْدِه
الخلقُ مَثْنَى وهو في وحدةٍ
يكابدُ اللَّوعة في مَجْدِه
- لكن دمع هذه النجمة انتقل إلى حلقي، فنظمته في قصيدة جعلت عنوانها "نكهة الدمع"، إن شاء الله أتذكر أكثر أبياتها.
نكهةُ الدمع في لساني وريقي
في زفيري أُحسها وشهيقي
ضِقت بالأرض فهي ليست قراري
حبسوا البحرَ بين شِقَّي مضيقي
أنا ومضٌ كُنهي طليقٌ ولكن
قدري أن أعيش غيرَ طَليقِ
كدتُ أخبو لولا هموم البرايا
في جَناني تُذكي وتَجلو بريقي
أنا لولا صبري تفجّر قلبي
فالبراكين جذوةٌ من حريقي
يا صديقي دربي ودربك شوكٌ
من لظىً من لِشوقنا يا صديقي
فترفق وطِرْ وتابع عروجي
فإذا كنتُ في الذرا كن رفيقي
وُجهتي وَجه خالق الخلق طُرّاً
وانطلاقي من أوج بيتٍ عتيقِ
وإلى نوره انجذابُ اغترابي
فأنا منه في انتسابي العريق
 
(( الطرف والملح ))
طلب الأستاذ حسين نجار من المحتفى به أن يسمع الحاضرين بعض الطرف والملح، كطرفة لحية الشاعر محمد محمود الزبيري رحمه الله فاستجاب المحتفى به وقال:
- هي لحية لا كاللحى، والزبيري رحمه الله كان يتردد عليّ دائماً كما ذكرت لكم في المستشفى، وكانت بين الممرضات ممرضة مهذبة جميلة، كان يراها ذروة الجمال، فأقول له: إن هناك ممرضة جاءت تتفقد أحوالي في أول دخولي المستشفى، تدعى ريحانة الكشميرية أجمل منها، فينكر علي ذلك. فلما قرب خروجي أعددت للممرضات وللزوار وللموظفين بالمستشفى علب حلوى أقدمها لهم عند زيارتهم لي مودعين، وجعلت في علب الحلوى التي قدمتها للذين خدموني مغلفات فيها شيء من الإِكرامية المالية، وكان الزبيري حاضراً، فدخلت ريحانة الكشميرية الغرفة فأضاءتها بحسنها - سبحانه الذي خلقها - فلفت نظر الأستاذ الزبيري إليها لأنه لم يسبق له رؤيتها، فعرفتها به وحدثتها عنه وقلت لها هذا شاعر غزل كبير جليل، وقلت له هذه ريحانة التي كنت تتمنى رؤيتها، قال لي: الآن آمنت كيف يمحو الحقائق الكبرى الحقائق الصغرى. ومن الطرف أيضاً أن بعض الممثلات الباكستانيات يزرنني دون سابق معرفة لي بأكثرهن، وقد تأتي زيارة بعضهن خلال وجود شيخ الإِسلام الشيخ سليمان الندوي في زيارتي، فأهتف في أذن إحداهن إن هذا شيخ الإِسلام إذهبي وقبلي يده، وأطيلي في إمساكك بها حتى يدعو لك وتحفك البركات، وتصل منه إليك، فتذهب إلى الشيخ الجليل الأستاذ سليمان الندوي وتمسك بيده تقبلها، وهو يحاول أن يجتذبها فتزداد تمسكاً بها.
- ومن هذه الطرائف والنكت قبل أن أكون سفيراً وقبل حادث الاصطدام ذهبنا للمؤتمر الذي دعت إليه جامعة البنجاب، وعقد في بشاور، والذي سبقت الإِشارة إليه، وحضره ممثلون عن علماء العالم العربي والإِسلامي، ودارت فيه مناقشات حادة حول المبادئ التي سينبثق منها الدستور الأول لباكستان المسلمة، وكنت وطائفة من الأخوة العلماء الأجلاء نطالب بأن يستمد الدستور الباكستاني قواعده من القرآن الكريم والسنة النبوية. وخلال المؤتمر ألقى شيخ الإِسلام بشير أحمد العثماني كلمة رائعة قوية مؤثرة سارع إلى تأييده عدد من أعضاء الجمعية التأسيسية، وكان من بينهم السيدة "شايستا إكرام الله" التي همست في أذنه مهنئة مباركة تعرب له عن تأييدها وتقديرها فابتسم لها.
وبعد أن رُفعت الجلسة للراحة... اجتمعت به وقلت له:
- يا سيدي رأيتكم في المجلس - وقد أقبلت عليكم شايستا إكرام الله، ولصقت شفاهها بأذنكم - رأيتكم تبتسمون لذة من أنفاسها!، فقال لي مقاطعاً أعوذ بالله. والله ليس التذاذاً بأنفاسها، وإنما هي قد أثنت على كلمتي فكان علي أن أشكرها مبتسماً ليس إلا، ثم انتبه إلى أنها مني مداعبة ومشاغبة، فأخذنا نتضاحك. ومن دعاباتي معه: كنا ندعى إلى حفلات السلك الدبلوماسي، وهي مختلطة هناك، وفيها سيدات السلك يلبسن ما يسمونه السواريه، ثياب السهره. ومن أزياء بعضها أن تكون من الظهر شديدة العُريْ.. وكان الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله يقول لي وفي يده "سيكارة" يدخنها:
- أشتهي أن أحرق نهاية زاوية الثوب من هذه في لحمها بالسيجارة ونحن نتسامر معاً.
- وكنت أقول للأستاذ بشير أحمد مداعباً، أقول له يا سيدي أنا أحضر هذه المجالس وهذه المجامع مضطراً، وتقع عيني على السيدات، والسيدات من طبائعهن أن كل سيدة تريد لو استطاعت أن تفتن وحدها بني آدم جميعاً، فكل واحدة تبرز ما عندها من المفاتن، فذات النهود الوثابة التي يقول عنها الشاعر:
ونهودٍ ضاقت بكبت صباها
فاشرأبت في جانبي أخدودِ
واستطارت ترتجّ دون وقار
تبتغي فكّ زرها المعقودِ
 
- تريد أن تبرز هذه الفتنة في صدرها، والتي لها ظهر جميل تحرص على أن تظهره وهكذا... فنحن تقع عيوننا بالضرورة على هذه المحاسن الخلابة، ثم أغسل ذنب هذه النظرات بالنظر إلى لحيتكم الطاهرة وطلعاتكم المشرقة. فجزاكم الله عنا خيراً... وبروحه الشفافة وسعة صدره وهو يبتسم، يتقبل ذلك مني.
- وكنت مدعواً لليمن بمناسبة ذكرى استشهاد الزبيري أكرم الله مثواه، وأقامت جامعة صنعاء حفلاً خطابياً أو بالأصح ندوة لإِحياء هذه الذكرى، وهو تقليد سنوي يمني. لا بد منه في كل المدن، يحيون ذكرى الزبيري ويجعلونها منطلقاً للأحاديث الجهادية والفكرية. وكان جل الذين تحدثوا من تلك الندوة غير يمنيين. قال أحد المتحدثين عن الزبيري:
- إنه من مدرسة أدونيس. وقال آخر: إن الزبيري هو الزعيم الداعية الاشتراكي. وقال ثالث: إنه رائد الاتجاه القومي. وأنكر رابع شعر الزبيري وقال إن الزبيري ليس شاعراً مكتمل الشاعرية، لأنه لم يُعْنَ بجانب كبير من الحياة الشاعرية وهو الجانب الجمالي، وجانب التحسس بسحر المرأة فشعر الغزل والحب مفقود عنده. وأنا مع الأسف ما استطعت أن أرد عليهم لأن كلمتي كانت الأولى. وقد بينت كيف كان الزبيري يستلهم جهاده جميعاً من مدرسته الأولى وهي القرآن، وذكرت مواقف له عديدة، وأحاديث بيني وبينه ذكرتها بإخلاص ونزاهة وصدق تؤكد هذا المعنى وتوطده، واستشهدت ببعض رسائله التي عرضها التلفاز الصنعائي على الشاشة البيضاء عندما أجريت مقابلة خاصة معي. الشاهد أني كنت مدعواً لحفلة تكريم لي على الغداء من قبل رئيس الجامعة الأستاذ عبد العزيز المقالح، وكان بيني وبين رئيس تحرير جريدة الثورة لقاء قبل ذلك استمر حتى قرب وقت الغداء، فاستأذنت المقالح ودعوته إلى أن يتغدى معنا، وخلال المائدة وكان بعض الوزراء وبعض العلماء وبعض الأدباء مدعوين لهذه الحفلة الجامعية الكبيرة، تحدثت عن الندوة وفندت بعض الأقوال والادعاءات عن اعتناقية الزبير وقلت أما الناحية الجمالية فللزبيري مواقف عجيبة، وذكرت قصة ريحانة الكشميرية، وذكرت قصة أخرى، وهي:
- جاءني الزبير مرة إلى الفندق الذي أسكن فيه مستعجلاً ليبلغني أمراً ويذهب مبادراً، فقلت إذن أنزل معك أودعك حتى باب الفندق ونتحدث. والفندق جميل كبير له ممرات تحفها الرياض والرياحين، لما توسطنا الطريق رأيت أن خطا الزبيري قد بدأت تتريث وتتثاقل - التفت خلفي فوجدت سفير بورما وزوجته، وكان عميد السلك الدبلوماسي، وكان قد ذهب إلى بلاده وشيكاً وعاد بزوجة بورمية بارعة الحسن، كأن الله سبحانه وتعالى قد خلقها من عصير الرمان. هكذا كان لونها مثل عصير الرمان الأحمر، وفي حر كراتشي، وفي تأجج الصبا. وهي عروس تحب أن تظهر جمالها، وهي حواء قبل كل شيء... فرأيتها وهي قادمة في وجهتنا، وعرفت السر الذي جعل الزبيري ببطئ!!
- فالتفت إليه أداعبه وأعاتبه، فإذا به يبادرني بهذه العبارة: "يخيل إليّ أنها تعيش نشوى معربدة لما تتذوق من حلاوة نفسها"، فقلت لهم: هذا هو الزبيري، أنتم ما عرفتموه.. ما رأيتموه.. مكتمل الشاعرية ومكتمل الإِنسانية، يعني إكتمال الإِسلام في استيعاب الحياة الكل، الإِسلام الذي تُنشد في ظلاله "بانت سعاد" وسواها فلا يمنع ولا يعترض بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإِسلام الذي لا يئد العواطف، ولا يحجر على الأشواق والأذواق، فهذا هو الإِسلام، وهذا هو الزبيري.
- والمهم أننا فوجئنا في اليوم الثاني بجريدة الثورة اليمنية - وقد أخذوا مني حديثاً طويلاً بحوالي ساعتين، كله في معالجات تاريخية وشؤون مهمة، فوجئنا بعنوان كبير في الصفحة الأولى يقول: ريحانة الكشميرية تجعل الزبيري يؤمن بأن الحقائق الكبرى تمحو الحقائق الصغرى. وهذا كلام لم أقله خلال اللقاء وإنما سمعه مراسل الجريدة على المائدة، فتصيد هذه النكتة، مثل ما تصيدت الشرق الأوسط مؤخراً قبيل حضوري الآن للإِسهام في مؤتمر مكة المكرمة حادثة قديمة قبل ربع قرن فنشرتها دون علمي وقد قال لي بعض الإِخوان مداعبين، هذه مقدمة جعلوها لك بطاقة تعريف لمؤتمر مكة.
- والقصة هي أننا قبل ذهابنا إلى مؤتمر مكة بسبعة أيام فوجئت بجريدة الشرق الأوسط في صفحة الثقافة والأدب تنشر في أعلى الصفحة بعنوان "خمرة الشاي" للأستاذ عمر بهاء الدين الأميري تقول:
- قبل 25 عاماً كان الأستاذ أكرم زعيتر سفيراً للأردن في سوريا، ونقل وزيراً للخارجية وأقامت إحدى الأسر الدمشقية حفلة تكريم وداعية له، وكان فيها الأستاذ الأميري، وقامت فتاة آنسة لطيفة فدارت بكؤوس الشاي فاعتذر الأميري لأنه لا يشرب المنبهات، فدارت وأكملت دورتها، ثم أخذت كأس الأستاذ الأميري ورشفت منه وقدمته له. هكذا بعد أن رشفت منه فخجل وأخذها شاكراً. فقال أكرم زعيتر هي حفلة تكريم للأميري أم لي: قالوا: لأ.. لك.. قال: ولكنكم لم تكرموني بهذه الطريقة!! فقامت سيدة ودارت بكأس شاي على بعض السيدات الموجودات ترشف كل واحدة رشفة ثم قدمتها للأستاذ أكرم فشربهما ضاحكاً وسط بهجة الحاضرين، قالوا للأميري ألا تقول في هذا شعراً؛ فقال مرتجلاً:
رَشَفَت من كأسه في خفرٍ
رَشْفَةً صَيَّرت الشايَ مُداما
- قالوا لا بد من قصيدة كاملة، قال: إن شاء الله ستأتي.
- وبعد ذلك جاءت القصيدة، وسمعها الأستاذ أكرم زعيتر، ومرت على ذلك السنون، والتقى أخيراً قبل أسابيع الأميري بأكرم زعيتر في رحاب المؤتمر العام السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإِسلامية في عمان، فطلب منه قصيدة خمرة الشاي، فاعتذر الأميري بأنه نسيها وأضاعها، فألح عليه زعيتر بأن يبحث عنها، وسافر الأميري إلى المغرب، وكان مكلفاً من قسم الفلسفة في جامعة البنجاب بإعداد محاضرات عن محمد إقبال، وكانت للأميري أبيات من شعر إقبال ترجمها للعربية شعراً، وكان يبحث عنها، فوجد الورقة التي نظمت فيها قصيدة (خمرة الشاي) فنقلها وأرسلها لصديقه الأستاذ أكرم زعيتر. وهذه هي الأبيات؛ يعني في هذا الوقت الذي يأكل فيه أبناء الأمة بعضهم بعضاً، والحرب الطاحنة قائمة، والدماء أغرقت البلاد العربية والإِسلامية، والمدلهمات قائمة قاعدة وفي هذا الوقت تُنبش قصة هامشية وقعت قبل قرن كامل وتنشر.
- وقبيل مغادرتي المغرب كنا في حفل دبلوماسي، وكان معنا الدكتور مهدي بن عبود، والأستاذ أبو بكر قادري وهما مدعوَّان إلى مؤتمر مكة أيضاً. فقال لي أحد الأصدقاء معلقاً على نشر القصيدة:
- أستاذ عمر هذا شيء طبيعي، هذه بطاقة تعريف لأجل مؤتمر مكة.
- ثم طلب الحضور من المحتفى به أن يسمعهم قصيدة "خمرة الشاي" فاعتذر بعدم حفظها، فطالبوه بأن يسمعهم ما قاله أو كتبه من شعر في ريحانة الكشميرية، فقال: مع أنها ريحانة لكنني ما شممتها، ولم أقل فيها شعراً. ثم أنشد قصيدة بعنوان "تسليم وضراعه" من ديوانه الموسوم بـ "إشراق".
يا إلهي وكل نورك وجهٌ
يا إلهي وكل وجهك نور
وشعاع مــن نورك الفَــَذِّ كافٍ
ليبيد القَتام والدَّيجورُ
يا إلهي فَجُدْ عليَّ بومضٍ
مـن شعـاعٍ فالقلـب قلبٌ طهورُ
بَيْد أنّي وللحياة شؤونٌ
وشجونٌ ورسوماتٌ غَرور
وبنفسي وأنت سوّيتَ نفسي
في صميم التقوى يلوح فتورُ
لك أسلمتُ كـل نفسـي وعقلـي
واختياري وأنت برٌ غفورُ
فتخير لعبدك الحرِّ درباً
فهو في ملتقى الدروب يدورُ
يبتغي الخيرَ والدُنَا ببنيها
وهو منهـم.. تَعـجُّ فيهـا شُـرورُ
كم تمنّيتُ لو تطاولتُ عنها
وتخطيتُها وهِمتُ أثور
في السماوات.. في عوالم فيض
القُدْس حيث السّنا وحيـث الحبُـور
واه من هيكلي ومحبس روحي
أنا فيه مكبل محجورُ
قاصرٌ عاثرٌ إذا كنت وحدي
لاَ بِدٌ راكدٌ أكاد أغورُ
فإذا كنتَ لي أكون سليمانَ
تُصاغُ الجِفانُ لي والقدورُ
وتصير العروس قبل ارتداد
الطرف في حوزتـي وتبنى القصـورُ
وتكون الدُهور سفراً لتاريخي
فتشدو بما أقول.. الدهورُ
يا إلهي والكونُ ضجَّ نفوراً
مـن فسـاد الورى ومـاذا النفـور
والطواغيت تستبدُ وتَسعى
فـي خـرابٍ سعـيُ الطواغيتِ بورُ
قد أضرَّت بالنـاس عصبـةُ سـُوءٍ
لا تَنى تستذلّهم وتجورُ
وأنا في أغلال غربة عُمري
أَحكمت حوليَ الرتاجَ صخورُ
مَعْزِلٌ قابعٌ على البحر ناءٍ
وبنفسي من الهموم بحورُ
لا بِدٌ، رابضٌ كفوهة بركانٍ وقلبي يغلي أسىً ويفورُ
هذه أمتي وهذا بلائي
يا إلهي إليك تُزجَى الأمورُ
فاصطنعني وانفـخ بعزمـي صـوراً
قبل أن يُعجل القيامة صُورُ
فالنُشُور المَنشُود في هذه
الدنيا جِهـادٌ بـه يكـون النشـور
يا إلهي فَجُدْ وأشرق وأطلقْ
قدرتي يستجب ليَ المَقْدُور
- هذه من ديوان إشراق، وهذه قصيدة أخرى من ديوان قلب ورب؛ حبيبيَ الله:
قريبٌ، قريبٌ والدروبُ تطاولتْ
إليك وما للقلب عنك مَحِيد
قريبٌ كومضِ النورِ في عين مُبْصرٍ
ولكنّ لَمْسَ النورِ عنه بعيد
قريبٌ من السِر الخفيّ وحديسه
قريب من الكُنْهِ الجليّ وطيدُ
وأَقربُ من حبل الوريد كأنّما
ببالغ هذا القرب أنت وريدُ
وإنك نورٌ للسماوات والثرى
ومن نورك المِعطاءِ دُمتُ أفيدُ
ففي رئتي من وَهْج نورك نسمةٌ
شهيق عميقٌ والزفير مديدُ
ونُورك يَسري في عِظامي وفي دمي
ولحمي فأرنو والظلام عنيدُ
وأُبصر بالقلبِ المنوَّرِ مُغْمضاً
دُناً من سناً ما الغمض زاد تزيد
وأُبصر بالروح التي منك نَفْخُها
خفايا البرايا فالجَنانُ شهيدٌ
وأَلمحُ في أقدارِك الغُرِّ سرّ ما
جَرى وعَرى ما أَشتكي وأُعيدُ
فَيُدْرِكُ بالتسليم قلبي صَوابَه
وأشْعرُ أني بالشقاءِ سعيدُ
وإني لأستحيي وعنديَ من نَدىً
ومن فيضِ آلاءِ تزيدُ رصيدُ
من البَثِّ أستحيـي ومـن طلـب الـذي
إليه نُزُوع النفسِ وهو عديدُ
سأُمْسِكُ عن ذِكـرِ الـذي منـك أرتجـي
أريد الذي يا ربّ أنت تريدُ
قريبٌ قريبٌ والدروب تشعبت
وحارت ودارت والصراط فريدُ
وإني لأَواهٌ منيبٌ بفطرتي
ومأربِ نفسي والغَرور مَريدُ
أعيش صِراعَ العمر بين سَجيتي
ودنياي فارحمني فأنتَ مجيدُ
وخذ بيدي واجعل إليك توجهي
سويّا فقصد السالكين حَميد
وقلبي الذي أَحسنْتَ تقويمَ خَلْقِهِ
رهيفٌ لهيفٌ بالجمال وَديدُ
وأنت الذي ماذا أقولُ؟ فإنَّهُ
مَقَامٌ ولن يَرقَى إليه نديدُ
ويَعْقِدُ إجْلالي هوايَ ومنطقي
وجُرأَةَ بَثِّي بل أَكادُ أميدُ
إلهي وَجَاهي واكْتِناهي وبارئي
إليكَ التجائي والرجاءُ أكيدُ
أقول على علمٍ بسوء تأدُّبي:
حبيبي تَرفَّقْ بي ولستُ أزيدُ
(( قصيدة أب ))
ثم طلب الدكتور محمود سفر من المحتفى به أن يسمع الحاضرين قصيدته التي تحمل عنوان "أب" فقال المحتفى به:
- قصيدة أب لكثرة ما طُلب مني إنشادها حفظتها، هذا من جهة ومن جهة أخرى هل يطلب الدكتور محمود سفر من عمر الأميري شيئاً ولا أستجيب له؟ قبل أن أنشد القصيدة أحب أن أشرح لكم كيف وُلِدَتْ.
- كنت مع الأبناء في مصيف قرنايل بلبنان، وكان أبنائي صغاراً، فتحت المدارس أبوابها، فأرسلت الأبناء جميعاً إلى حلب، وبقيت وحدي في وحشةٍ وعقب ذهابهم جاءت هذه القصيدة المحظوظة التي قد تكون عاديّة، ولكن ساحتها الإِنسانية واسعة، ولذلك قال عنها الأستاذ عباس محمود العقاد بأنه لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته.
- قال هذا في اللقاء الوحيد الذي تم بيني وبينه. وسأحَدثكم عنه لأن له نكتة وقصة طريفة. تقول القصيدة وعنوانها: "أب".
أين الضَجِيجُ العَذْبُ والشَغَبُ
أين التدارسُ شَابَهُ اللّعبُ
أين الطفولةُ في تَوقُدِها
أين الدُّمى في الأرضِ والكتبُ
أين التشاكسُ دون ما غَرَضِ
أين التَشاكي ما له سببُ
أين التباكي والتضاحكُ في
وقتٍ معاً.. والحُزُن والطَربُ
أين التسابقُ في مجُاورَتي
شَغَفاً إذا أكلوا وإن شَرِبوا
يتزاحمون على مجالستي
والقربِ منّي حيثما انقلبوا
يتوجّهون بسوق فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رَغبوا
فنشيدهمْ بابا إذا طَرِبوا
وَوَعِيدُهم بابا إذا غضبوا
وهتافهم بابا إذا ابتعدوا
ونَجِيُّهم بابا إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملءَ منزلنا
واليوم وَيْحَ اليوم قَدْ ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت
أثقاله في الدّار إذ غربوا
إغفاءَةُ المَحْمُومِ هَدْأَتُها
فيها يشيع الهَمُّ والتَّعَبُ
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنهم
في القلب ما شطّوا وما قربوا
إني أراهم أينما اتجهت
عَيني وقد سَكَنوا وقد وثَبوا
وأُحس في خَلدي تلاعبهم
في الدار ليس ينالهم نصبُ
في كل رُكْنٍ منهمُ أثَرٌ
وبكلّ زاويةٍ لهم صَخَبُ
في النَافذاتِ زُجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثَقَبُوا
في الباب قد كَسروا مَزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصَحْنِ فيه بعض ما أَكلوا
في عُلبة الحلوى التي نهَبوا
في الشَطْرِ من تُفاحةٍ قضموا
في فضلة الماء التي سَكبوا
إني أَراهُم أيْنما التفتت
نَفْسي كأسْراب القَطا سَرَبوا
بالأَمس في قرنايل نزلوا
واليوم قد ضَمتْهُمُ حَلبُ
دمعي الذي كتّمته جَلَداً
لما تَباكَوْا عندما رَكِبُوا
حتى إِذا سَارُوا وقد نَزَعوا
من أضلعي قَلْبَاً بهم يَجِبُ
أَلْفَيتُني كالطّفل عاطفةً
فإذا به كالغيث ينسكبُ
قد يعجب العُذَّال من رجلٍ
يبكي ولو لم أبك فالعجبُ
هيهات ما كل البُكا خَوَرٌ
إني وبي عَزْمُ الرّجال أَبُ
- القصيدة في ديوان أب، أحد دواويني عن الأسرة. ولي ديوان آخر عنوانه "أمي"، وقد طبع وديوان جديد اسمه "جدو" يضم شِعري في أحفادي لم يطبع بعد، ولي ديوان كامل في شعر الأسرة "أبوة وبنوة" لم يطبع أيضاً.
- أما قصتي مع العقاد فهي: عندما أصدرت ديواني مع الله لم يكن بيني وبين العقاد رحمه الله معرفة سابقة، وإنما أعرفه بفضله وآثاره.. ولكن أحد الإِخوة الأحباء الذين كانوا يدرسون في القاهرة أخذ ديوان مع الله وقدمه للعقاد في جلسة من جلسات ندوته الأسبوعية. وبعد مدة فوجئت برسالة من العقاد تقول: حضرة السيد الأجل الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري حفظه الله... ديوانكم مع الله آيات من الترتيل والصلاة، يطالعها القارئ فيسعد بسحر البيان كما يسعد بصدق الإِيمان. وقد قرأت طائفة صالحة من قصائده وسأقرأ بقيتها، وأعيد قراءة ما قرأته لأنه دعاء يتكرر ويتجدد ولا يتغير، وثوابكم من الله عليه يغنيكم عن ثناء الناس. وإنه على هذا الثناء موفور وعمل مشكور، فتقبلوا مني شكره واغتنموا من الله أجره.. وعليكم سلام الله ورضوان الله. من المخلص عباس محمود العقاد. طبعاً هذا خطه، وقد طلب الناشر أن يصوّر عنه، فاشترطت أن يستأذن العقاد أولاً. وكتب له فأجابه فأذن له فنشر رسالته.
- كتبت للعقاد شاكراً، وجاءت مناسبة المؤتمر السادس للمحامين العرب، الذي عقد في القاهرة وشاركت فيه. فرأيت من الواجب، وقد بدأت بيننا هذه الانطلاقة أن أزور الأستاذ العقاد، فاتصلت به، قال لي ابن أخته أو ابن أخيه أنه في أسوان، وسألني من أنت؟ قلت: فلان، قال: إن عمي سيفرح بك كثيراً، نرجو أن تعطينا عنوانك حتى إذا جاء أتصل بك.
- وتحددت إقامتي، وقبيل سفري اتصلوا بي هاتفياً بأن الأستاذ العقاد وصل وهو يدعوك غداً إلى ندوته الأسبوعية في بيته في مصر الجديدة.
- ذهبت وهو لا يعرف وجهي. استغربت إذ وجدت الندوة غاصة. كندوتنا هذه مع فرق واحد هو أن هذه الندوة التي يعمرها قمم الفكر والفضل، كلهم من الرجال، ولكن هناك موجود الجنس اللطيف بكثرة أيضاً، فهي ندوة مختلطة.
- وعندما دخلت ندوة العقاد وعرفته بنفسي، وقد استغربت أنه لابس ثياب النوم، "المنامة" وفوقها رداء الغرفة أو رداء البيت "روب دو شامبر" هكذا يستقبل هؤلاء الناس كلهم، فما عنده الأناقة التي تتألق وتشرق كما هي عند الأستاذ الشيخ عبد المقصود خوجه. فلما تقدمت وقلت أنا فلان قال لجلسائه: ها هو الأستاذ الأميري قد جاء. فكان يتوقفني يحدثهم عني. فقالت إحدى السيدات أهو أنت؟. قلت لها: نعم، فقالت: لقد ظنناك صاحب عِمة وجبَّة وسبْحَة، ولحية طويلة. فقدرت أنه كان يحدثهم عن ديوان "مع الله"، فتوقعوا شكلي تبعاً لذلك.
- فقلت للعقاد: يا سيدي أنا ذكرت في مقدمة ديواني مع الله أن شعري كله ليس في مستوى ديوان مع الله، ولا أنا في مستوى هذا الديوان، وإنما هي نفحات.. ولكني تأدباً مع ربي، ومع نفسي، وقد بدأت طبع شعري لم أجد من اللائق أن أقدم شعراً آخر على شعري الإِلهي.
- ثم طالبني العقاد بإنشاد قصيدة غزلية، فاعتذرت فأصر ولم أجد بداً من الاستجابة فأجهدت ذاكرتي، وأنشدتهم قصيدة عنوانها "بين نارٍ ونور".
نَشَقْتُ أَريجاً صاعداً من فؤادها
وأنفاسها الحَرّى تزيد تَضَّرُمي
تَغَلغَلَ في مَسْرى شَهِيقي أريجها
ومَازَجَ عَبْرَ القلب مُتَّقِدَ الدّمِ
وضَجَّتْ خلاياي العطاشُ صَبَابةً
وأَسْقَيتُها من رَاحِها في توهمي
وهاج أُوامِي في سكينة قربها
فَوَاعجباً من مُرْتـَوٍ فـي الـهوى ظَمِـي
ويالغَوِيِّ في الهُيَام مُنَزَّهٍ
عن السُوءِ بين النَار والنُور مُرْتَمِ
أُكَابد منها حَسْرةً أستلذها
وتُكْشَفُ لي في نَظْرة المدنفِ العَمِي
وأَحْيا هَواها في تُقَايَ ونَزْوتي
وأسمو بِلذَّاتِ الهوى في تَأَثُمِّي
وأين يكون الإِثمُ يا خالقي وقد
تَذَوَّقها رُوحي وما ذَاقَها فَمِي؟!!
 
- قال لي لا لا.. هذا لا يصلح هذا شعر يشبه شعر ديوان مع الله، نحن نرغب أن نسمع شعراً غزلياً. قلت له: يا سيدي والله ما أحفظ، ولما وجد عدم استجابة مني لإِنشاد شعر غزلي من النوع الذي يرغب سماعه.
- قال إذن فأسمعني قصيدة "الأولاد" فأخذت أتلو عليه قصيدة أب، انتهيت منها قال لي: يا أستاذ عمر اسمح لي أن أتجاوز الحد وأقول لك: إنك مجرم... مجرم.. قلت له: لماذا يا سيدي؟ قال لي: مجرم بحق نفسك وحق الأدب.
- من كان يملك هذه القصيدة والعقاد حي لا يجوز له أن يطويها عن الناس.
- لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته.
- طبعاً كان مراسلو المجلات والصفحات الأدبية في الجرائد يسجلون، فقلت له: يا سيدي هذه شهادة من أديب عملاق يريد أن يشجع مثلي، فثار وهاج وقال: - أنت تتهمني وتشتمني في بيتي.. قلت له لماذا يا سيدي؟ قال لي: أنا العقاد، أنا لا أعطي مجاملةً وتشجيعاً حكماً أدبياً، أنا إذا أردت أن أكرمك فأهديك مكتبتي أو سأهديك عمارة، ولكن لن أعطيك مقاماً أدبياً لا تستحقه قلت له طيب يا سيدي اسمح لي قال: أرجوك انتهت القضية ولم أجتمع به بعد ذلك حتى انتقل إلى جوار ربه.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :749  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 133
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.