شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حمزةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِب
حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله.. سيد الشهداء.. عم النبي وأخوه من الرضاعة.. أرضعتهما ثويبة جارية أبي لهب، أعني أخا حمزة وعم محمد.
وهل أرضعتهما في وقت واحد؟ لأنهما في سن واحدة أو أنها أرضعت حمزة قبل أن ترضع النبي بعامين أو أربعة.. سيان..!
وحمزة على هذا الأساس ترب نديد لمحمد في العشرة والتربية وملاعب الطفولة.. نشأ في بيت واحد.. في كنف رجل واحد وإن تعدد.. عبد المطلب الأب والجد حل محله أبو طالب الأخ.. العم..! وهذه النشأة قربت بينهما أخوين. وقرّبت بينهما أكثر من ذلك، قرب الرحم في قريش كلها.. قريش هذه التي جمعها قصي. بدأت تشكل مجتمعاً جديداً أخذ بسبيل الاستقرار والحضارة والصقل والانطلاق والصيانة لكل من هو قريب. ولكل من في مكة..! سيادة البيت قد بلغت فيها قريش الذروة..! وسيادة القرابة.. الرحم والوحدة قد وصلت فيها قريش إلى مضرب المثل.. إن اختصموا حكَّموا.. فرضخوا، وإن تنافروا وجدوا في مجتمعهم من يردهم إلى الألفة.. وبهذا كله.. انعقد لهم لواء سيادة، وأعلام قيادة، ومكانة صدارة.
ونبِّئ محمد.. وقام المدّثر على الصفا لينذر، واجتمعت قريش لتسمع، وفي نفس كل صنديد يقين لأنه لن يسمع من الصادق الأمين، إلا ما تطمئن إليه نفوس قريش. تتطاول الأعناق، وتكلمت النبوة، وخطب الرسول:
((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم صبحاً.. أو مصدقيّ أنتم..؟ قالوا: بلى ما عهدنا عليك كذباً..)) وأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.. ((إني بشير ونذير إليكم)).. فرأوا في ذلك شذوذاً على المجتمع، وهدماً لدين المجتمع، وتحطيماً لهبل.
فاحتار كل السامعين بم يجيبون؟. وبلغت الحيرة بالعم القريب أبي لهب ما حمله على أن ينطق بكلمة، كافرة فاجرة، لا يريد أن يتزعم بها قريشاً، فهو لم يخلق لها. وإنما أراد أن يعتذر لقريش كأنما هو - لعمق الصلة بينه وبين محمد - قد عدّ نفسه مسؤولاً عما قاله محمد.. الأوضاع في قريش، والأصهار لبني عبد شمس تقربه القرابة من هاشم، لتبعده المنافرة والمفاخرة من بني هاشم.. كلما تنافروا معه غلبوا في أكثر من موقف.. ولهذا حمل القرآن على حمالة الحطب.. امرأة أبي لهب، جميلة بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان..
والكلمة الفاجرة الكافرة من أبي لهب هي.. تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فنزلت آيات الكتاب لا تحمي القرابة ولا تمالئ العم، وإنما لتحمي العقيدة وتدافع عن التوحيد. وتقرر هذا الإسلام ليجرف في طريقه القريب الفاسد وليقرب البعيد الصالح، ولو كان عبداً حبشياً أو رومياً أو فارسياً.. إنه الإسلام للإنسان، دين سلام في أي مكان.
وانخفض قدر أبي لهب.. فذاب في المعركة كأن لم يكن له اثر. فوقف أبو طالب موقف النصر للقرابة، يحفظ ابن الأخ، ولا يؤمن بالدعوة. شأن السيد لأسرته وفي مجتمعه. يفرضان عليه هذا الوضع الذي كان فيه والحق في ذلك. وقبل كل هذا هداية الله. إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.
ووقف العباس وهو عم النبي موقفاً أشبه بموقف أبي طالب. فقد كان العباس كأبي طالب قريباً، حبيباً إلى رسول الله.
وأما حمزة الذي استطردنا له كل هذا الاستطراد فقد أتخذ موقف الانتظار تسفر عنه المعركة في هذا المجتمع في قريش. لا يريد أن يفارق إخوته، ولا يريد أن يحارب ابن أخيه وصديقه وحبيبه ورفيقه في ملاعب الطفولة.
وقف حمزة في مفترق الطرق، لا يدري أي الفريقين يتبع. وكان أول الأمر يبدو أن هذا المشكل وقعت فيه قريش كلها. وبنو عبد مناف على وجه خاص، وبنو هاشم على صورة أخص.. يبدو أنه قريب الحل.. كان يحسب الأمر هيّناً يعالج بحكمة أبي طالب. لا بعناد أبي لهب، ولا بشغب بني عبد مناف، ولا بعناد قريش. كان ينظر إلى ذلك وهواه مع الأغلبية من قريش. حتى إذ رأى أن أبا طالب لم ينتصر على ابن أخيه. فقد قطع محمد سعي أبي طالب، ورفض كل الرفض أن يقبل مساومة من عمه الحبيب. ولا أن يرضخ لأبي لهب عمه المناوئ، حينما قال محمد لأبي طالب يرد ما أغراه به: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر لما تركته، أو أهلك دونه. حينما عرف حمزة معنى هذه الكلمة تبين له الموقف واضحاً لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى تأخير، اتضح له أن عواطفه وكل مقوماته هي مع محمد، وينبغي أن تكون لمحمد. ولم يكن الأمر ينتظر إلا الحافز يدعو حمزة إلى الجهر بنصرة محمد. ولو لم يقع هذا الحافز من أبي جهل لكان هناك أي حافز آخر يحرّك نفس حمزة إلى نصرة محمد.
خرج حمزة إلى الصيد كشأن الأشراف من العرب، وعاد إلى البطحاء، فسمع كيف ائتمر الملأ من قريش حتى نالوا محمداً بالأذى. فغضب غضبة الأسد. فحمزة الشجاع الكريم الأريحي لا يعرف أنصاف الحلول، ولا يلجأ إلى الحل الوسط.
سمع هذا الكلام من نفس مؤمنة، أو بلسان كافر. فلم يسأل عن المصدر، وإنما ذهب - وقد صدق الخبر - إلى الملأ من قريش يجتمعون كعادتهم حول الكعبة فوقف على رؤوسهم يعلن إسلامه. ويشدخ رأس أبي جهل بالقوس ولا يسأل عن مخزوم، ولا يقيم وزناً لفتنة تقع في هذا المجتمع القرشي. وأكل الضربة أبو جهل، وسال دمه وهو ليس بالجبان الذي يخاف حمزة، وهو ليس بالهِّين على قومه. فدعاهم إلى السكون وترك حمزة ليذهب. حمله على ذلك ألا تكون فتنة في قريش. فلا يتقاتل بنو مخزوم مع بني هاشم، ولا يتقاطع بنو مخزوم مع بني عبد مناف. فتكون معركة أخرى تصور أبو جهل أن يكون فيها نصر لمحمد. سكت على هذه الضربة لينتصر بعد في ضربة أخرى يوجهها إلى هذه الدعوة في شخص الرسول العظيم.
هذا التعليل أراه صحيحاً في دافع الصبر الذي اندفع إليه أبو جهل. حتمية الأوضاع في المجتمع. ووضع المعركة القائمة.
وذهب حمزة إلى دار الأرقم، المدرسة الثانية في الإسلام (الأولى حراء، والثانية دار الأرقم) فأعلن إسلامه. وخرج بعد إسلام عمر وراء رسول الله يصلُون جهرة في المسجد.
وهاجر النبي إلى المدينة، وهاجر حمزة فبدرت منه بادرة شباب. تروى للسيرة، ولا تسوء بها السيرة. فقد جلس حمزة مع أصدقائه من الأنصار يشربون الخمر التي لم تحرّم بعد. واحتاجوا إلى الطعام. ولعلّهم دلوه على ناقة لعلي ربطت بالفناء. وكانت تحسب في أعداد علي من مهر فاطمة. فقام حمزة ونحرها ونزع شواءها فأكلوا، وعلم عليّ فشكا ذلك إلى رسول الله. وذهب الرسول ومعه علي ينهي حمزة لينصف علياً. ليعرف الحقيقة فرآها. ونظر إليهم حمزة فقال كلمات ما كان ليقولها لو كان يملك عقله. قال: اذهبوا فأنتم عبيدي يا بني عبد المطلب. فرجع رسول الله وقد أخذ منه الغضب الراحم. لا أحسب أن عدم نزول العذاب بسببه. إلا أن حمزة معذور بشرب الخمر.. وإلا أن حمزة لم يشربها إلا وهي حلال. ولكن هذا من تصرف حمزة، وتأذى الصحابة مما تصنع الخمر التي تجنبها العقلاء منهم. وأكثر من ذلك جزع الرسول وغضبه هو الذي كان من أسباب تحريم الخمر.
وجاءت (بدر). وطلب العلية من بني عبد مناف العبشميين الأمويين للمبارزة يدعون أصحاب النبي أن يبرز إليهم أقرانهم.. ردّوا من برزوا لهم من الأنصار لأنهم يريدون العمومة من بني هاشم. فبرز حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب. كل منهم واجه قرناً من هؤلاء الثلاثة: عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وأخاه شيبة، والوليد بن عتبة (هذان خصمان اختصما). وقتل حمزة عتبة. وهو الراجح في نظري. وقتل على الوليد. واختلفا عبيدة وشيبة ضربتين فهلك شيبة واستشهد عبيدة جريحاً في الطريق. وأحسب أن قتل عتبة ومن معه وهو أحد العظيمين في القرية (مكة) (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أحدهما عتبة بن ربيعة. وعتبة هو أبو هند زوج أبي سفيان وأم معاوية. لهذا كان غيظها - رضي الله عنها - عظيماً، شديداً. من فعل حمزة.. تريد قتله بأي وسيلة أخذاً لثأر أبيها وأخيها وعمها.
ورجع الرسول بالنصر الأكبر يوم بدر. قد منحه الله ذات شوكة. وكان من أسنة هذه الشوكة وأسلحة النصر فيها ولا جدال بطلنا اليوم حمزة بن عبد المطلب.
وكان ((أُحد)).. جاءت قريش بقضِها وقضيضها تريد القضاء على الإسلام. تريد الانتصار على محمد. فلم تنتصر أول الأمر. كان النصر حليف محمد. رغم انخذال المنافقين. ورغم انتصار قريش بأبي عامر الراهب. ولكن ولله الأمر من قبل ومن بعد.. زلّ الرماة فتركوا الجبل. فكرّت قريش في جولة جاءت منها الهزيمة يوم أُحد.
كان مصعب بن عمير وفي يده اللواء يقود الناس إلى النصر. وكان علي يقتل حمالة الألوية. وكان حمزة يهدّ الناس هدًّا. وكان أبو دجانة يتبختر، وكان سعد بن ابي وقاص وطلحة يحميان رسول الله.
وحمى الوطيس. وأشاع الشيطان أن محمداً قُتل. ورجع إلى المدينة الذين أستنزلَهم الشيطان، ثم عفا الله عنهم. وعثر حمزة فانكشف درعه. وكان وحشي بن حرب يتربص له. وقد أغرته قريش. جعلت له جملاً. وكانت هند والنسوة من قريش معها في خيال الانتقام ينشدن الأناشيد. واغتنم الفرصة وحشي، فرمى حمزة بحربة كافرة أصابت منه مقتلاً فجندل البطل، وزغردت نساء قريش، وجاءت هند تبقر بطن البطل، تنتزع كبده. تلوكها. تمضغها. تشفي غيظها. فلم تبلغ منها قطرة.. فكانت آكلة الأكباد. حتى إذا أسلمت عفا الله عما سلف.. ورضي الله عنها.
وبهذا تظهر عظمة الإسلام. لا حقد ولا ثأر. التوبة تَجُبّ ما قبلها، والإسلام يجبّ ما قبله. وهكذا أسلم وحشي رضي الله عنه. فما أعظم الإسلام وما أكرم محمداً على ربه. نزع من نفسه غلّ البشر ليكون فيه خُلق النبوة. وليتضح للعالم أجمع أن رسالة محمد هي رسالة الله. لا مجال فيها لهوى النفس (ليس لك من الأمر شيء) إن تاب وإن عذّب فهو الله رب العباد. أترى لو لم يخذل الله أبا لهب فيلعن في الكتاب. ولو لم يكف رسول الله عن الثأر لعمه. أكان يطيب لخالد أن يشتم الوليد؟ ويطيب لعمرو أن يشتم العاص؟ ويطيب لحذيفة أن يقتل اباه عتبة؟
لا تلعبوا بمبادئ الإسلام. فالإسلام فوق الأحقاد، والإسلام دين الهداية. لا احتكار دعاية، ولا سبيل الغواية وكان حمزة يجندل الأبطال. وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب.
وذهب سيِّد الشهداء وأسد رسوله شهيداً. وإنما بقي ليصلِّي عليه مع كل شهيد. فضل من الله ميَّزه به، ودفن حمزة بعد أن كُفِّن في ثوب كانوا إذا غطوا رأسه انكشف رجلاه. وإذا غطوا رجليه انكشف رأسه. فغطوا رأسه وستروا رجليه بالأذخر.
ورجع النبي إلى المدينة فسمع البكاء في بيوت بني عبد الأشهل فقال: ألا أن حمزة لابُواكي له.
وسمعها صديق الأمة الثاني. سيد بني عبد الأشهل سعد بن معاذ فذهب إلى نسائه يخبرهن خبر النبي، فأخذ نساء الأنصار يبكين حمزة قبل شهدائهم، وذهب الكفر إلى غير رجعة وآمن من قريش الذين حاربوا الإسلام في أُحد وهم كثيرون منّ الله عليهم بالهداية: هند ووحشي وعكرمة وصفوان ابن أمية. كلهم من خيرة أصحاب محمد رضي الله عنهم أجمعين: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (الحجر: 47).
وكان لحمزة الحظ الأكبر. قائداً لسرية، وفارساً في غزوة، وشهيداً في أُحُد.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :529  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 196 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج