شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عُمَيْر بن سَعْد
هذه سيرة لبطل كريم. أحب أن يشاركنا بها الأستاذ ((عبد الحكيم عابدين)) فأطعنا شاكرين لا نريد أن نستأثر بخير ولا نستبد بباب. وحمداً لله على باب نجد المستجيدين له كثيراً، والمرحبين به جمعاً. حتى أنهم ليرجون الأجر بالمشاركة فيه. الأجر من الله. لا من مخلوق. وخيراً فعل الشيخ، والشر لم نفعل والله ولي التوفيق.
* * *
مؤمن قلما ألمَّت كتب السيرة بالحديث عنه.. واسم أكاد أحصي بالآحاد من ملأ به سمعه، أو روى بالحديث عنه مشاعره، ورجل يتوارى ذكره عندما تندى المجالس بمكارم لرجال، وإن كان منهم في القمة، وبطل لا يشرق في صحائف التاريخ ولو أنه هو وحده تاريخ بطولة ومصباح أمامة.. ذلك لأنه ممن كبرت نفوسهم على الدنيا فتخففوا من متاعها والسمعة فيها، وسمت هممهم واستشرفت إلى محبة الله الصادقة. فكان تفسيراً حياً لقول رسول الله عليه أفضل الصلوات: ((إن الله يحب الأتقياء الأخفياء، الذين إذا شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا)).
أكثر ما نسمعك كتب التاريخ من حديثه أنه شهد فتوح الشام، فكان له أصدق ما يكون للمؤمن من الشوق إلى الجهاد والحرص على الاستشهاد وحسن البلاء في الذب عن دين الله. وقل أن يزيدنا المؤرخون من المعرفة به غير ما كان من ولايته ((حمص)) لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تعجب أيها القارئ المؤمن حين تدرك أن ولايته لم تجاوز العام، وإن تركت في مسمع التاريخ ثورة من البطولة لم يبلغها إلا الذؤابات من الصحابة الأعلام - على أنها لم تقترن بصهيل فرس ولا قعقعة حسام، وما أظلم الناس للبطولة إذا حبسوها في نطاق القتال وغمرات الأقدام وسلخوا من مفهومها روائع الانتصار على النفس والقوة على الحياة وشهواتها الحلال فضلاً عن الحرام.
وفي سيرة بطل اليوم على قصرها ما يملأ النفس بهذا النوع من البطولة والاعتصام. لقد كتب إليه عمر عند تصرم عام من ولايته يدعوه للقدوم على عادة أمير المؤمنين في اختبار عماله للوقوف بنفسه على مدى ما أصابوا من توفيق أو إخفاق، وقبل أن يفصل البريد مراحل من دار الخلافة التفت الناس حول أمير المؤمنين في دهشة واستغراب! - من هذا القادم لا يركب إلا ساقيه ولا ينتعل غير التراب تحت قدميه؟ - إن صدق الظن فهذا عمير بن سعد، والي أمير المؤمنين على حمص قد أقبل يشتد: عكازته بيده، وأدواته وقصعته على ظهره، وما نحسبه إلا قد قدم مجيباً دعوة أمير المؤمنين - ومتى بلغته دعوة أمير المؤمنين وما نرى رسول عمر قد فصل من المدينة إلا بعد أن بلغ عمير مشارف دار الهجرة - ها قد أقبل: إنه والله لعمير بن سعد بغية أمير المؤمنين - أمير حمص!! لا يهملج به برذون، ولا يهتز تحته سرج ولا يوجف بين يديه سائس ولا غلام وقد عاشر حضارة العيش في الشام بلد التمدن والرخاء. أهو هو عمير يا أمير المؤمنين؟ - بلى والله هو ذا قادم أعرفه وانتظر ما وراءه. ودخل عمير فسلَّم وأخذ مجلسه في ندوة أمير المؤمنين، وكان عمر قد استغرب كاصحابه أن يفد عليه عجلاً في أقصر مما يبلغه البريد بين المدينة والشام - يا عمير! ترى أجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟ وهنا ينطلق الأدب الرفيع، ويتمثل الخلق الإسلامي العف، وتتجلى قوة الحق التي لا تذكر هيبة عمر لما يغمرها من هيبة الله.. يا أمير المؤمنين: أما نهاك الله أن تجهر بالسوء وألزمك النأي عن سوء الظن؟
ـ صدقت وأرشدت أحسن الله إليك فيم جئت يا عمير؟
ـ لقد جئت إليك بالدنيا أجرّها بقرابها.
ـ بالدنيا تجرها فما معك منها؟
وهنا تشخص الأبصار إلى أمير حمص قد أجهده السير لأنه أتى راجلاً، وأخذ منه الحفاء لأنه لم يتخذ نعلاً، وترهف الآذان في لهفة لتسمع إلى القادم بالدنيا وما فيها يدل أمير المؤمنين على مواضع ذخيرته ومفاتيح كنوزه ولا يطول بهم الترقب حتى يسمعوا الجواب:
ـ معي يا أمير المؤمنين:
1 ـ عكازة أتوكأ عليها، وأدفع بها عدواً إن لقيته.
2 ـ ومزود أحمل فيه طعامي.
3 ـ وأداوة (وعاء من جلد) أحمل فيها ماء لشربي وطهوري.
4 ـ وقصعة أتوضأ فيها وأغسل فيها رأسي.
5 ـ وقعب (إناء من خشب) آكل فيه طعامي. فوالله يا أمير المؤمنين ما الدنيا بعد إلا تبع لما معي.
انطلقت بهذا الجواب شعلة من السمو الروحي أحس عمر العظيم أنه ضعيف أمامها، وأرسلت هذه الكلمات في مسمع الكون درساً لم يجد عمر الزاهد الحصيف بدًّا من أن يتتلمذ عليه. وما هو إلا أن فرغ من جوابه حتى قام عمر يلفه الذهول إلى مصلاه في الروضة الشريفة وفي جانبها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حيث أطلق روحه في مراقي الجلال التي أشرقت عليه فبكى أشد البكاء ثم قال: اللَّهم ألحقني بصاحبي غير مفتضح ولا مبدل.
وعاد عمر بعد أن أعطى روحه قسطها من هذا الزاد الجليل يسأل أمير حمص:
ـ ما صنعت في عملك يا عمير؟
ـ أخذت الإبل من أهل الإبل والجزية من أهل الذمة، ثم فرقتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فوالله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به.
وهنا أيقن عمر أنه رزق الوالي الذي يؤمن جانبه وتطلب مرضاة الله بإقراره، فعزم عليه.
ـ عد إلى عملك يا عمير.
ـ أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تردني إلى أهلي.
ما بال ابن سعد لم يحرص على الولاية بل ما باله يفر منها وهي تتشبث بأذياله، وما باله يسرف في الإلحاح على عمر حتى يعفيه بعد أن وجد ضالته، ولو وقف الأمر عند هذا لكفى المتزود من المكارم شبعاً وريّأ، ولكنه لم يطو هذه الصحيفة من بطولته إلا لينشر له التاريخ صفحة أعظم نضارة وإشراقاً. فقد بعث إليه أمير المؤمنين بأحد رجاله حبيب يحمل مائة دينار - وهي يومذاك ثروة ويسار - ليقيم مع عمير ثلاثة أيام حتى يختبر حاله أفي سعة هو أم في ضيق، فإن كان في ضيق دفع إليه الدنانير. وأنفذ ((حبيب)) وصاة أمير المؤمنين فلم ير لعمير عيشاً إلا الخبز والزيت، وقد شق على صاحب الدار ألا يطعم ضيفه ألين منهما فقال له: - يا حبيب إن رأيت أن تتحول إلى جيراننا فلعلّهم أوسع عيشاً منا. فإننا والله لو كان عندنا غير هذا لآثرناك به.
ـ لا بأس عليك مني يا عمير ولكن خذ هذه الدنانير المائة صلة من أمير المؤمنين فتوسع بها في معايشك.
ـ وصل الله أمير المؤمنين ورحمه! يا امرأة عمير: علي بفروك الخلق فاجعليه رقعاً كثيرة تصر فيها الدراهم، وخذي هذه الصرة على خمسة دنانير فأوقعي بها إلى فلان وهذه بستة فوسعي بها على فلان وهذه عشرة فاجعليها لفلان..
وهكذا.. حتى فرغ من المائة دينار، تفريقاً على إخوانه الفقراء. ورسول أمير المؤمنين يشهد غير مصدق ما ترى عيناه.. وعاد حبيب إلى عمر يقول: لقد جئتك يا أمير المؤمنين من عند أزهد الناس وما عنده من الدنيا كثير ولا قليل.
ـ إذن عُد إليه يا حبيب بثوبين ووسقين من طعام وسله أن يدعو الله لعمر.. بيد أن أمير حمص المستقيل قبل الثوبين وقال لحبيب: أما الوسقان فلا حاجة لي بهما وعند أهلي صاع من بر هو كافيهم حتى أرجع إليهم إن شاء الله.
وهكذا ينقضي ما وقع إلينا من العلم بتاريخ البطل المؤمن عمير بن سعد ونعرضه على رواد العبرة الغالبة من سيرة السلف الصالح وعلى طلاب القدرة الراشدة من ولاة اليوم، لا لنحرّم ما أحل الله من الطيبات ولا لندعو المسلم أن يسير مطرق الرأس وأعداؤه ينطحون السحاب، ولكن لنأخذ عنه كيف تملك الدنيا بيدك ثم تخرج سلطانها من قلبك وتستخدمها راشداً فيما يصلح به من حولك. وكيف يصدق الوالي في تقدير تبعات الحكم ومسؤولياته حتى يفر منه وهو في مثال نزاهة عمير. وكيف يصل التجرد والإخلاص بالوالي الصغير حتى يحتاج إلى نصحه خليفة الإسلام ولو كان عمر وناهيك من عمر. وكيف تسمو في ثقتك بما عند الله حتى تعتقد أن ما في يد الله اقرب إليك مما في يدك. وأخيراً كيف يضعك التاريخ على كره منك في قمة العظمة وألسنة الأجيال وما أصبت مما يلفت أبناء جيلك إلا أخشن الطعام وأخلق الأسمال.
ألا رحم الله أمير المؤمنين عمر حيث يقول: وددت لو أن لي رجالاً مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :632  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 193 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.