شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بَدْر.. أمُّ الأبطَال
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.. آية كريمة مكية. نزلت وعائشة جارية تلعب.. وسأل عمر حينما سمعها وتلاها.. أي جمع هذا سيهزم؟ ولم يجد الإجابة جاهزة حينما سأل. وسأل غير عمر. فالجمع غير معروف والوقت لم يحن بعد.. وحل الأجل المضروب، وهلّ حين مكتوب، فنبَّأت السيوف المسلمة في يد المؤمنين في بدر، السائلين.. يشهدون الجمع الكثير، والجم الغفير، وصناديد النفر قد انهزموا.. فأضحوا - وهم سادة الوادي كما يلقب بعضهم بعضاً - أشلاء في وادي الصفراء ((في بدر)) بعضهم القتيل وبعضهم الأسير، وكلهم المندحر الحزين.. وذهب من بقي منهم فعاش كافراً في ذلة وآمن بقية فأضحوا سادة وقادة بعد الهداية والصلاح.
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (الأنفال: 7).
وآية كريمة تفسر ما تعنيه معركة بدر، وكل ما يراد من بدر تجده في سورة الأنفال كأنما هي الغزوة قد شرحت أتمّ شرح في بيان القرآن الكريم. فالحرب يلمع فيها سيف، ويطعن فيها رمح، ويرمي فيها بنبل، لم تكن في ذاتها في حساب أحد من الفريقين.
قريش خرجت تحمي عيرها بنفيرها. ومحمد خرج يطلب العير. ولا ينظر إلى النفير. أراد غير ذات الشوكة، وأراد الله ذات الشوكة فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى. وقريش تجنبت خوض معركة سافرة وجهاً لوجه مع محمد.. لم تباشرها حينما كان بين ظهرانيها في مكة يدعو إلى التوحيد ويسفه آلهتهم.. لم يشهروا الحرب الساخنة بالحديد، وإنما كانت حرباً باردة، فيها الأذى والتعرض، والكيد. والإعداد لاغتياله ليلة الهجرة.. تجنبوا السلاح صوناً لجماعتهم من الفرقة وإثارة الأحقاد. والنبي عليه الصلاة والسلام تجنب الحرب سافرة مع قريش، فلم يحن وقت إعلانها، فلما هاجر بدأت الحرب الباردة بين الفريقين تسخن، تشتعل بالسرية تلو السرية. يبعثها الرسول يقطع الطريق على قوافل قريش.. فكانت بدر. وقعت الغزوة الفاصلة. فبدر كيوم فاصل حاسم في تاريخ الإسلام.. أمر ظاهر للعيان. لها شأنها الأول الكبير في تقرير النصر للإسلام للحضارة، للإنسانية كلها.. في حينها وما بعد حينها إلى يوم يبعثون.. فلولا رمية من الله في بدر ونصره المؤزر فيها لما كانت اليرموك ولما كانت القادسية، ولم تكن حطين ولا عين جالوت وما كان أبطالها خالداً، وسعداً، وصلاح الدين، والملك المظفر (قطز) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (الأنفال : 10 - 11).
والمعركة تصنع البطل أو هو البطل يصنع المعركة.. كل ذلك أمر قد يكون في احتمالات الأحداث وأوضاع البشر. أما في معركة بدر فشي آخر.. فقد صنعها الله.. فكانت أم الأبطال. أم تاريخنا الحربي..
أبطالنا الذين شهدوا بياض السيوف المرصعة في يد المشركين، وشهد العدو في صمتهم ووقارهم الصارخين الرهبة والخوف.. كأنما وجوه أبطالنا في عين عتبة بن ربيعة. وجوه الحيات الأفاعي.. هو قال ذلك. يدعو قومه إلى الرجوع حينما نجت العير.. لم يرجع الذين دعا عليهم النبي بذكر أسمائهم أمام الكعبة.. عتبة وشيبة وأبو جهل وابن أبي معيط.. أرادوا القتال فاخرين أو مكرهين.. فقتلوا..
ورجع الزهريون ((رهط سعد بن أبي وقاص)) ورجع العدويون ((رهط سعد بن أبي وقاص)) ورجع العدويون ((رهط عمر)) فلم يشهدها زهري ولا عدوي.. تخاذل له ما بعده، لأن وجه الحق في هذه المعركة لم يكن بيِّناً لقريش، إنما هو العناد في بعضهم والمجاملة في البعض الآخر.
والمعركة لا بد أن تقع، فقريش أصبحت بعد التحول الذي طرأ على طرق القوافل في حال قلق.. فانتقل إلى أن يسير عبر الحجاز بدلاً من عبوره الشام والعراق.. لأن حرب الدولتين الإمبراطوريتين.. فارس والروم، قد ألزمت رواد التجارة أن يعدلوا عن طريق الشرق عبر الجزيرة إلى طريق الغرب عبرها أيضاً، وقريش كانت العميل الوسيط والرائد المحرك في هذا الطريق.. فالأمن فيه حياتها، وقطعه موتها.. ومحمد قد قطعها و كاد.. فالوضع عند قريش حياة أو موت لمجتمعها فلا بد أن تصون الأمن لطريق قوافلها.
والوضع بالنسبة للإسلام كذلك، فلا بد من القضاء على بؤرة الفساد في رؤوس هؤلاء من قادة قريش.. يقتلون أو يسلمون.. حتى يعم التوحيد العرب، وينتظم الجمع في سلك وحدة تقود إلى خير، وتهدي إلى رشد.
وخرجت العير ذاهبة إلى الشام يحرسها ثلاثون رجلاً. يقودها أبو سفيان وفيهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص وندب الرسول أصحابه، فأسرع من اسرع وابطأ خلق كثير. لم يلم أحداً، وفاز بالسبق الذين أنعم الله عليهم فكانوا من أهلها ((وما يدريك لعلّ الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
وأرسل أبو سفيان عيونه، فأخبر الخبر، فساحل بالعير ينجو بها، لا يمر على بدر وإنما يمر بين الرايس وبدر. وجاء النفير إلى وادي الصفراء في العدوة القصوى على فم المضيق. مجاز السيل إلى البحر. وسمع أبو سفيان بخروج قومه وبقائهم بعد نجاة العير للحرب.. فقال: واقوماه! هذا عمل عمرو بن هشام. يعني أبا جهل.. كلهم توقع الهزيمة.. عتبة خشيها حتى كأنه ينظر إليها. حتى لقد افترض أن كل واحد من أصحاب محمد وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، سيقتل مثلهم من قريش، فما هو الكسب؟.. وأبو سفيان توقعها وتحسر على قومه.. والذين رجعوا زهريهم وعدويهم توقعوها، وأمية بن خلف خرج إليها مع النفير وهو رجل خائف من حديث حدّثه به صاحبه.. صفيه ((سيدنا سعد بن معاذ)) خرج سعد معتمراً إلى مكة قبل بدر ونزل ضيفاً على أمية بن خلف وكان صديقه هذا ينزل عند الآخر كلما ذهب أحدهما إلى مكة أو ذهب الآخر إلى المدينة. وتحين خلوّ البيت في ظهيرة فخرج سعد يطوف، فرآه أبو جهل فنهر سعداً وعاتب ((سيد الوادي)) أمية بن خلف، واعتذر أمية بن خلف - لسيد الوادي - أبي جهل.. وقال سعد في سياق حديث لأمية: أخبرني رسول الله إنهم قاتلوك. يعني أمية فقال أمية لسعد: لا أعلم! فحلف أمية إلا يخرج منها. فلما صرخ النفير تخاذل أمية وعاتبه أبو جهل فخرج مكرها لا ينزل منزلاً إلا عقل بعيره بجانبه يتحين فرص الفرار.. ولكنه الوعد، ولكنه عذاب بلال. قد ساقه لحتفه لم يحمه حذر، ولم يشفع له صديق كعبد الرحمن بن عوف فقتله بلال.
هذا شأن المشركين خذلان وخذلان وتخاذل، فلا عجب إن حان بهم الأدبار وحقت عليهم الهزيمة. أما حال المؤمنين فإيمان وصمت ووقار وتضحية وفداء في أكثر من مثل، وفي أكثر من بطل، فلكل واحد منهم موقف لا يشاركه الميزة والبطولة الآخرون.
تحدث علي بن أبي طالب في حديث أذكر أن صاحب تحفة الأنام قد عزاه إلى البزار، أرويه بما أحفظه من معناه فقد مضى على ذلك زمن ليس بالقريب، قال علي لأصحابه: أخبروني عن أشجع الناس؟ فقالوا: أنت.. قال: أنا ما قابلت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس. قالوا: لعلّك تعلم غير ما تعلم. فقال: ذلكم أبو بكر. كنا إذا احمرت الحدق وحمي الوطيس لذنا برسول الله فنجد أبا بكر قد ثبت معه.. لقد رأيته يوم بدر قائماً يحمي عريش رسول الله.. ولقد رأيته يدافع عن رسول الله حينما خنقه ابن أبي معيط.. وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. وقال علي بعد ذلك: أتفضلون مؤمن آل فرعون على أبي بكر، والله لساعة من أبي بكر خير من ألف سنة من مؤمن آل فرعون.. ذلك رجل كتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.
ويعجب المؤرخون من قلة المسلمين (313) وكثرة قريش (950 و 1000) فكيف انتصر الإسلام ومعهم فرسان. فرس المقداد، وفرس أبي مرثد، وسبعون بعيراً تعاقبوا عليها، ومع قريش مائة فرس، وألف بعير. لا عجب.. هنا المعجزة. ضعف قريش جاءهم من الكثرة، من القوة، وقوة المسلمين جاءت من ضعف عدتهم وقلة عددهم.. والسبب النفوس والمكان. مكان المعركة..
بدر وادي يضيق أكثر وأكثر في منزل قريش ويتسع اكثر وأكبر في منازل المسلمين. رأى الفارس المحنك، صاحب راية في الأنصار يومه.. الحباب بن المنذر: نزلت قريش في مكان على فم المجاز من مخرج السيل إلى البحر يسيح في البيداء الواسعة. كأنما تريد أن تسد الطريق على المسلمين لا يعبرون.. مع أنه عند المسلمين طريق آخر خلفهم.. المكان ضيق.. المطر. ضيق المهرب لا يكفي للكر والفر لمائة فرس وألف بعير، وألف راكب. كلهم صف واحد فكان البراز.. ((هذان خصمان اختصموا)) فقتل عتبة وشيبة والوليد بن عتبة.. فكانت قاصمة لقريش أفزعتهم حينما رأوا رجلاً من القريتين عظيماً قد قتل ((عتبة)) وخصمان اختصموا، وهم الستة الذين تبارزوا ((حمزة وعلي وعبيدة ابن الحارث، وعتبة وشيبة والوليد)) والمكان الضيق قد أنتفع به المسلمون يتصيدون من يريدون فيقتلون ويأسرون وخفة السلاح. وخفة المركب جعلت المسلم فدائياً خفيف الحركة لا يعوقه عائق، وثقل العدة وكثرة القوة أثقلت قريشاً، فأبطأت بهم الحركة، المطر خير على المسلمين يغيثهم به وهو شر على قريش يعطلهم به، ولو أن قريشاً استقرت خارج الوادي تشرف على الساحل وتقيم خارج المجاز، لتغيَّر وجه المعركة.. ولكنه الله صنع كل ذلك.
والأسرى والفداء، كل ذلك عجب.. وأعجب منه أن تفتح مدرسة في المدينة يكون المعلم فيها الأسير القارئ الكاتب لعشرة من صبيانها. إذا ما تعلموا أطلق سراحه.
إنها حياة النبي وأعمال الإسلام وجلال الله.. فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولعلّها عظمة اليوم - 17 من رمضان - ترسلها على جريدة. تفيد ولا تضر. وتخشع منها قلوب مؤمنة في بلد المسلمين المؤمنين.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :612  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 173 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج