شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمَّد بن مَسْلَمَة
محمد بن مسلمة، أنصاري أوسيّ وحليف بني عبد الأشهل الأوسيين.. رهط سيدهم سعد بن معاذ.. وأسلم محمد بن مسلمة بالمدينة على يد مصعب بن عمير، قبل أن يسلم أسَيد بن الحضير وسعد بن معاذ.. سابق في الأنصار وسباق إلى خير. تسمى باسمه محمد قبل أن يسلم، كأنما هي بشارة له بأن يكون من أول الصحاب الذين تسموا باسم الرسول العظيم سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي.
وآخى الرسول بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح.. وقفة صغيرة ترتاح فيها من لهث أنفاس، من عجب في هذا الاختيار!.. توافق الأخوان في الإسلام يختارهما النبي كل منهما أخ للآخر.. لو شئت أن تجد في الأنصار رجلاً كأبي عبيدة لما وجدت رجلاً منهم يماثله أو يشابهه. سمتاً ووقاراً وأمانة وإيماناً كهذا الذي أخاه محمد بن مسلمة. لقد قلتها من قبل: إن محمداً بطلنا اليوم هو في الأنصار كأبي عبيدة في المهاجرين. فإذا هو أخوه اليوم. هذه أخلاق في ابن مسلمة جعلت عمر يتخذه الوزير المعين والصديق الرشيد، والعدة لكل مهمة، ولما استنجده عمرو بن العاص يطلب منه المدد في فتح مصر أرسل إليه أربعة، كل واحد بألف، أحدهم: محمد بن مسلمة كالزبير بن العوام، كعُبادة بن الصامت، كالمقداد بن الأسود.
ويقول عمر لعمرو: قد أمددتك بأربعة آلاف، عنهم هؤلاء الأربعة: محمد بن مسلمة ومن معه، فإذا صف الناس للقتال فقدم هؤلاء يستعرضون العدو بعرض صدورهم. بسيوفهم، بهاماتهم العالية.. كل واحد منهم بألف وكل فدائي له في مقام الفداء أعمال عظيمة.
لقد كان محمد بن مسلمة من هامات العرب، أسود طويلاً ضخماً، كعبادة بن الصامت، كالمقداد بن الأسود، عملاق في الجسد وعملاق في الفعال، وعظيم في الرجال. وكلهم - ورحمة ربي - فارس كريم قد أقام للإسلام مناراً من الفداء والتضحية.. نحبهم من أجله ونحب للناس.. للمسلمين أن يقتدوا بهم في أيام لا ينفع فيها إلا الاقتداء والاهتداء بِهَدْي محمد.. أعني النبي الأمي الرسول العربي، ومن هديه حبّ هؤلاء الذين أقاموا الحق ورفعوا علم التوحيد وسادو بالوحدة في كل الأرض المسلمة. وعلى الذروة منهم محمد بن مسلمة كأبي عبيدة. كسعد بن معاذ وأمثاله من هذا الطراز البكري.. فإن لأبي بكر طرازاً من الرجال على رأسهم سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة وأبو عبيدة بن الجراح.. وأن لعمر طرازاً كأنهم من طينته وأبناء مدرسته كعلي، كخالد، رضي الله عنهم أجمعين.
ومحمد بن مسلمة وقف يسمع لرسول الله وهو يتحدث عن كيد يهود.. نقضوا العهد، وكادوا للإسلام، يبغون فيه الفتنة وفي الناس سماعون لهم يقودهم كعب بن الأشرف وآخرون في خيبر. في المدينة. في وادي القرى.
وتمادى كعب بن الأشرف في أذاه يؤلب العرب. ويقوي قريشاً.. وقريش جاهزة لقبول هذا الإغراء، فقد ارتاحت لعدو يكيد لمحمد لعلّها تنال منه بيد غيرها.. فالقرشي قد فكّر فمنعه تفكيره من أن يدخل في معركة سافرة مع محمد يتعلل بالقرابة والدم والنسب فأعلنوا الموقف السلبي وارتاحوا لهذا اليهودي يؤلب العرب على الإسلام.. وجدوا في كعب عوناً لهم ووجد كعب فيهم عوناً له.. ومن هنا تظهر خطورة هذا اليهودي.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف؟.. ونترك البخاري يتكلم في الجامع الصحيح:
ـ قتل كعب بن الأشرف - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال نعم. قال فأذن لي أن أقول شيئاً. قال قل: فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألناه صدقة، وإنه قد عنانا وإني قد أتيتك استسلفك قال وأيضاً والله لتملنه. قال أنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقا أو وسقين فقلت فيه وسقاً أو وسقين فقال أرى فيه وسقاً أو وسقين فقال نعم أرهنوني قالوا أي شيء تريد قال: أرهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب. قال فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم. فيقال رهن بوسق أو وسقين. هذا عار علينا ولكنا نرهنك للأمة. قال سفيان يعني السلاح. فوعده أن يأتيه. فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت امرأته أين تخرج هذه الساعة؟ فقال إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة. وقال غير عمرو. قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة: إن الكريم لو دعي إلى طعنه بليل لأجاب. قال وأدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، قيل لسفيان سماهما عمرو. قال سمعت بعضهم. قال عمرو: جاء معه برجلين وقال غير عمرو أبو عيسى بن جبر والحارث بن أوس وعباد ابن بشر قال عمرو: جاء معه برجلين فقال إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه. وقال مرة ما رأيت كاليوم ريحاً أطيب. وقال غير عمرو قال عندي أعطر الناس. قال نعم فشمه ثم أشم أصحابه ثم قال: أتأذن لي؟ قال نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه.
وكبر الرسول صلى الله عليه وسلم حين سمع الخبر وكبر الصحابة وقال الرسول لمحمد بن مسلمة: أفلحت الوجوه وقال محمد بن مسلمة أفلح وجهك يا رسول الله.. وذلك لأن الله قتل عدواً فاجراً بيد أحدهم بطعنة من محمد ابن مسلمة.. أي موقف هذا؟ إنها فدائية وشجاعة حمل إليها وصنعها الإيمان.. هدي محمد في أصحابه الأكرمين وفضل الله عليهم أجمعين. وشهد محمد ((بدراً)) و ((أحداً)) و ((الخندق)) والمشاهد كلها.. كلمة تعجز الفاخرين أن يفخروا بشيء بعدها إن لم يكونوا من أهلها. وكان محمد من الذين ثبتوا يوم ((أُحد)) فلم يُولّ ولم يستذله الشيطان.
ولم يشهد تبوك من مشاهد الرسول، لماذا تخلف؟ لماذا قعد؟ إن هذا لم يحدث من مثله.. أهو من المتخلفين؟ أم من الذين خلفوا أو من المعذرين؟.. لا. ثم لا. إنه من غير هؤلاء أستخلفه النبي على المدينة أو على بعضها كعلي، فهو وعلي - وما أكبر علياً - قد تخلفا عن تبوك عن جيش العسرة بأمر النبي يحفظان المدينة، فهما في مهمة لا تقل عن مهمة الحرب.
وتحدث محمد عن نفسه يقول لبنيه - وقد كانوا عشرة - يا بني سلوني عن مشاهد النبي ومواطنه فإني لم أتخلف عنه في غزوة قط إلا واحدة هي تبوك، خلفني على المدينة، وسلوني عن سراياه فإنه ليس منها سرية تخفي علي إما أن أكون فيها أو أن أعلمها حين خرجت. ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرة القضاء بعد الحديبية وانتهى إلى ذي الحليفة قدّم الخيل أمامه، مائة فرس، واستعمل عليها محمد بن مسلمة.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عن ابن مسلمة وتولى أبو بكر فكان موضع رضاه فلما تولاها الفاروق أتخذ من ابن مسلمة فارسه. صديقه، وزيره وجعل منه عصا المؤد وسياط الأمير لما له من السبق والتقوى والأمانة يبعثه إلى امرأته منفذاً أمره لا يزيد ولا ينقص، سمة الطاعة وطبيعة التقوى وإلا فلو شاء محمد بن مسلمة أن يزيد أو أن ينقص لفعل فلديه قدرة اللسان وصولة الجنان، ولكنه لم يفعل. أرسله إلى عمرو بن العاص.. ((دعني مما ذكرت وإني مرسل إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فمكنه وأعفه من الغلظة عليك)). وذهب ابن مسلمة إلى عمرو في الفسطاط فجلس إلى عمرو وعلى مائدته فلم يذق من طعام عمرو.. وتكلم عمرو هل منعك عمر أن تذوق طعامي؟ فقال: لا. ما منعني من طعامك ولكنه لم يأمرني أن آكل منه. وكان محمد قد وضع على المائدة قرصاً من شعير ويتأدم بملح. وجزع عمرو فقال قاتل الله زماناً عملنا فيه لعمر بن الخطاب، لقد رأيت الخطاب وابنه عمر في دروب البطحاء وعليهما شملتان لا تغطيان أرساغهما والعاص بن وائل. يعني أباه يتبختر في الديباج الموشي بالذهب.. وقال محمد بن مسلمة: أما أبوك وأبو عمر ففي النار وأما أنت فلولا ما وليت لعمر لكنت في شعب مكة تحلب شاة قد لا يسرك ما يشخب ضرعها.. فقال عمرو: المجالس بالأمانة. فقال محمد: أما وعمر حي فنعم. كأنما لا يريد أن يضيع على الناس سيرته وسيرة عمر بل وسيرة الإسلام كله. هذا الذي وقع مما هو عدل عمر. وطاعة عمرو وفطنة محمد. وأناة ابن مسلمة رضي الله عنهم أجمعين.
وأحرق على سعد داره في الكوفة بأمر عمر وبطاعة سعد.. أنكر عمر على سعد بن أبي وقاص أن يجعل له قصراً بالكوفة، فأرسل ابن مسلمة فقدح الزناد وأحرق القصر، ولا أدري أيعجب الناس من صنيع عمر أم من خضوع البطل الفاتح صاحب القادسية، ممصر الأمصار، فارس أحد والمفدى يومها من رسول الله ((فداك أبي وأمي يا سعد؟)) هذا البطل يخضع فلا يقول كلمة لمحمد بن مسلمة، إنها فضائل قامت في تاريخنا، لا أدري أتعود أو أنها ذهبت مع الذاهبين، إنها لمصيبة نسترجع منها إلى الله ولي الأمر والتدبير.. أن تكون في ضيعة بين الأمم وقد كان ماضينا وفيه ابن مسلمة وأمثاله قادة الأمم.. وقتل عمر وتولاها عثمان بن عفان فجلس محمد بن مسلمة يعين ولا يخالف لأن لديه أمراً من رسول الله.. أعطاه رسول الله سيفاً وقال له: قاتل به المشركين ما قاتلوا فإذا رأيت المسلمين قد أقبل بعضهم على بعض، فأت به ((أُحد)) وأضربه حتى تقطعه ثم أجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية. وبنص آخر قال: يا محمد بن مسلمة، جاهد بهذا السيف في سبيل الله حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان فاضرب به الحجر حتى تكسره ثم كف لسانك ويدك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة.. فلما قتل عثمان وكان من أمر الناس ما كان خرج إلى صخرة في فنائه وضرب الصخرة بسيفه حتى كسره.. ولم يدخل في فتنة كسعد بن أبي وقاص، كعبد الله ابن عمر، رضي الله عنهم.
وقد كان فارس نبي الله عرف بهذا في عهد رسول الله فلما جاءت الفتنة وكسر سيفه الحديد أتخذ سيفاً من خشب قد نحته وسيره في الجفن معلقاً في البيت فلما سئل عنه قال إنما علقته.. أهيب به ذعراً.
ومات محمد بن مسلمة في المدينة في صفر سنة ست وأربعين، وهو ابن سبع وسبعين سنة.. وصلّى عليه عامل المدينة مروان بن الحكم. وفي رواية أن نفراً من أهل الشام دخلوا عليه في بيته فقتلوه لعلّهم تعمدوا أو لعلهم سلطوا.. ولعلّ ذلك قد كان في وقعة الحرة.. ترك الفتنة وقتل شهيداً. رضي الله عنه.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :533  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 172 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.