شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
التاريخ المجغرف
وجرى حديث بيني وبين الأخ الدكتور/سامي خماس الصقار، عن معرفة مكان الحدث التاريخي؛ فأكثر تاريخنا الذي كتب واتسعت له الأمهات من تلك الموسوعات، كان مقتصراً على شرح الحوادث لا يجغرفها - لا يصف المكان ولا يحدده.
غزوة بدر مثلاً فصّلتها الرواية، وسجلتها كتب السيرة، وحفلت بها موسوعات التاريخ، ولكن أين المكان؟.. أين الوصف للأرض وطبيعتها؟.. وغزوة الأحزاب شأنها شأن بدر.. الخندق.. النسوة على الجبل.. الأحزاب في مجمع الأسيال.. كل هذا تعريف في الغزوة لا يحتاج إلى كتابة جديدة، لكن الحاجة تدعو إلى الجغرافية الجديدة.
بدر في المنحنى لمجرى وادي الصفراء، يسير مغرباً حتى إذا حجزته التضاريس من تلال الرمل والجبل، استمال منحدراً ليستميل مغرباً بعد.. المكان أوحى - كموقع ((استراتيجي)) - بالتكتيك لإدارة الحرب، فالحباب بن المنذر كان عسكرياً بمعنى الكلمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، فإذا هو على التل في أعلى الوادي لا يناله هذا السيل، فألزموا المشركين من قريش أن يكونوا في أسفل الوادي، وتأتي رمية الله وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ينزل المطر غيثاً، أغاث النبي وجيشه، وتعويقاً لقريش؛ لأنها في أسفل الوادي، تتلبد الأرض تحت البعير والحصان، كأنما الحصان والجمل يتعثران في الطين، يعجز المشرك عن الغارة فإذا هو النصر، القلة تنتشر على أرض صلبة، والكثرة تتعثر على أرض رخوة.. كان هذا التكتيك، وكانت تلك الاستراتيجية رأي البشر، ولكن التوفيق من الله.
ألف بعير، سبعون فرساً.. ألف فارس.. هزموا؛ لأن المكان كان طليعة الهزيمة ولنقل إنه الميدان.. ثلاثمائة وثلاثة عشر فارساً تحت قيادة رسول الله، وفرسان وسبعون بعيراً، أعطاهم المكان الصلب قمة النصر، أفلا يحتاج ذلك إلى جغرفة؟ فالتاريخ لا يتسع فهمه إلا إذا جغرف.
وغزوة الأحزاب.. كانت الحماية في الخندق.. هكذا الرواية.. بينما الحماية أكثر.. كانت بالجبل سلع، كان الرسول وأصحابه غرب سلع، والخندق أمامهم، يحجز الكثرة أن تغير.. فالجبل سلع يصد الصبا.. لأن هذه الغزوة كانت في أيام شاتية، وعندما تهب الصبا من المشرق تتعب وتكره، لكنها - أعني الصبا - وقد صدها الجبل سلع، كانت من أسباب الراحة للجيش المسلم، وهذا يفسره قوله صلى الله عليه وسلم:
نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
أما الصبا فكانت جالبة النصر على صورتين، راحة النبي وأصحابه، والكرب الكارب على المشركين؛ لأنهم كانوا في فسيح من الأرض.. في مجمع الأسيال.. بروما البئر التي تجتمع حولها الأسيال.. قناة من الشرق وأبطحان من الجنوب وسط المدينة والعقيق من الجنوب بين الجماء وحرة واقية.
وهبت الصبا تزعج المشركين.. تكفأ قدورهم.. تقلع خيامهم، فإذا هي الراجفة.. حتى إذا أرجفوا وخذلهم اليهود وأجمعوا أمرهم.. يصرفهم الله بالخندق.. أعجزهم صنع البشر، كما أزعجتهم الصبا.. تدبير الذي أتقن كل شيء..
إن قارئ الحدث لكتب التاريخ لا يعرف الموقع وما جرى للواقعة، لأن الرواية لم تجغرف لها.
وهناك ملاحظة أخرى في تحديد الأيام، فالرواية تقول: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وصل بدراً، استعد للقتال.. ولكن كم هي الأيام.. قبل السابع عشر من رمضان.. متى علم أبو سفيان بنواضح يثرب؟.. متى وصل الخبر إلى مكة؟.. كم يوماً مضى حتى استعد المشركون؟.. وما عدد الأيام.. التي أوصلت الخبر؟ والتي جمعت فيها قريش أمرها.. كم يوماً مضى على نجاة العير.. إذ نجت، وهي غير ذات الشوكة.. وكم يوماً مضى على النفير.. حتى وصل؟.. وهل رسول الله وصل بدراً قبل السابع عشر من رمضان؟.. وكم هي الأيام؟.. وما هو وصف الطريق الذي سلكه رسول الله؟.. وهل هو الطريق الذي سلكته قريش؟.. كل ذلك يحتاج إلى جغرافية وصفاً وتصويراً، وقل مثل هذا في اليرموك، والقادسية والغزوات الأخرى وحتى السرايا، وأنا إلى اليوم.. بح صوتي.. أطالب وزارة الزراعة، والجامعات، وصاحب كل شأن في ذلك، أن يجغرف لنا الوديان والواحات.. فهذا كتاب ((صحيح الأخبار)) لابن بليهد، ما أحسن أن يجغرف، يطبع بجغرفة الخرائط.. أعرف اسم الوادي ولكني لا أعرف مسيلها الأول، ومجراه بعد، ومصبه، وروافده.. كل شيء أصبح مكشوفاً، وأرض الكيان الكبير قد مسحت من الجو، فجغرفونا لندفع عنا الجهل، بعلم نعرف به كل أرضنا.
ولم يطل الحوار بيني وبين الدكتور سامي، حين زارني في الدارة، إلا على أبسط صورة مما كتبت، وقد سره مني حين ذكرت شعر سديف مولي بني العباس حين قال:
.. وقتيلاً بجانب المهراس..
ـ قال:
محمد بن الحسن، النفس الزكية: لا أظن ذلك، فما المقصود إذن؟
ـ قلت: لا.. ولا.. لم يكن حين قتل بجانب المهراس، فقاتله المنصور تولى الخلافة بعد قول سديف بسنوات، مدة أخيه السفاح، إن القتيل بجانب المهراس أكاد أظن أنه (حمزة بن عبد المطلب) فالمهراس داخل أحد، ولعلّي أميل على ثقافة أستاذنا حمد الجاسر.. لعلّي أجد عنده التصويب.. أو التخطئة لأعرف اليقين منه، كما عرف اليقين عن جبل رضوي، وكما عرفت اليقين منه حين أخطأت فصوبني؛ فقد سمعت حسن الكرمي في إذاعة لندن في برنامجه ((قول على قول)) سألوه عن هذا البيت ((لتأبط شراً)) وعن الجبل سلع، في قوله:
إن بالشَّعب الذي دون سلع
لقتيل دمه ما يطل
الكرمي أجاب: بأنه سلع البتراء في البلقاء (الأردن) وأخذت نفسي أخطئ الكرمي أقول:
إن تأبط شراً.. هذا الهذلي، ما شأنه والبتراء في الأردن، لا بد أنه أراد سلع المدينة وسألت أستاذنا حمد الجاسر عن هذا الذي قلت، فقال الجاسر بجسارة العالم..
الكرمي أخطأ وأنت أخطأت.. إن تأبط شراً، ذكر سلعه، الجبل في هذيل.. كأنما عندنا السلع المثلث (البتراء - المدينة - هذيل).
لو كانت لدينا جغرفة لأرضنا، أيضيع اسم رضوي.. وهو أمامه في ينبع.. من معرفته؟.. ولا أعرف أن في هذيل جبلاً اسمه سلع؟
إنني أدعو أساتذة الجغرافيا أن يجغرفوا التاريخ.. الأرض، والوادي، والجبل، والواحات، والعيون والآبار التي حفرت بالإزميل وما أكثرها حزينة، لأنها ما زالت مجهولة لا نعرف مجد من حفرها، وهم من أهل هذه الأرض، ولعلّ مهرجان التراث في الجنادرية ينتصب لهذه الجغرفة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :642  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 126 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.