شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
زوجة صياد
قصتنا هذه الأمسية: (زوجة صياد) للروائية السويدية (سلمى لاجرلوف). ولدت سلمى لاجرلوف سنة 1858 وتوفيت 1940. وحصلت على جائزة نوبل للآداب عام 1909 وتمتاز رواياتها بدقة التصوير وصدق التعبير لبيئة الطبقة الكادحة فقد كانت منهم، ألّفت عدة كتب وروايات ورائعة هذه الأمسية (زوجة صياد) من أحسن ما كتبت.
الراوي: في طرف قرية صغيرة للصيادين وعلى سفح رابية من الرمل الأبيض قام كوخ صغير كانت تقطنه امرأة عجوز.. لم يكن حسن البناء أو نظيفاً رحباً ليأخذ سمته إلى جانب البيوت الأخرى القائمة حول الساحة الكبيرة حيث تنشر شباك الصيد السمراء لتجف في وهج الشمس وقد شيدت الأرملة العجوز هذا الكوخ بنفسها ورغبت أن تكون جداره أعلى من جدران البيوت الأخرى وأن يكون سقفه المصنوع من القش اليابس أعلى من سقف أي بيت آخر.
وكان يلذ لهذه الأرملة واسمها (استريد) أن تتطلع إلى الأشجار لا سيما في الخريف عندما تذبل وتجف أوراقها فتبدوا متعلقة بالأحجار التي حولها متمسكة بها..
وكانت كثيراً ما تقص على نفسها قصة حياتها وكيف قذفت بها الصدفة الغريبة من قريتها في النرويج إلى هذا الشاطىء الجاف من منطقة (اسكانيا) بالسويد فتشعرانها بحاجة إلى البكاء والضحك معاً..أما كيف بدأ مصيرها العجيب فقد كانت عائدة إلى البيت في إحدى الأمسيات من منزل الخياطة التي تشتغل عندها فهاجمها اثنان من البحارة فصرخت..
استريد: ادركوني يا ناس.. ادركوني..
بحار ثالث: اتركوها أيها الأوغاد..
الراوي: ويدخل البحار الثالث في معركة مع البحارين الآخرين ويستطيع التغلب عليهما وينقذ (استريد) ويوصلها إلى بيتها واستقبلت عائلة استريد النوتي الشاب السويدي الجنسية استقبالاً حاراً وطلبت إليه أن يتردد عليهم كلما وجد فرصة لديه وقد كسب هذا النوتي واسمه (بيرج نيلسون) محبة العائلة الصديقة المؤلفة من أم استريد وشقيقتين آخريين كان يحلو لهن في غياب ((نيلسون)) أن يتحدثن في إعجاب عن هذا الفتى النوتي الوسيم فنسمع الأم تقول:
الأم: أنا لا أصدق أن هذا الشاب الجميل الأنيق في ملابس البحرية البيضاء النظيفة هو بحار بسيط بل يلوح لي أنه ابن أرملة غنية اختار هذه المهنة عن هواية وشغف وارتبط بها كنوتي بسيط ليعطي أمه الدليل على حبه الفطري لأعمال البحر.
إحدى الشقيقات: إن مظهره يا أماه يدل على ذلك ولا شك أن أمه ستشتري له سفينة خاصة عندما يجتاز مدة المران.
استريد: أماه - ها هو نيلسون قادم.
نيلسون: مساء الخير يا سيدتي.. طاب مساؤكن يا مدموزيلات..
الأم: طاب مساؤك يا بني.. تفضل واجلس.. يا مرحبا.. يا مرحبا..
إحدى الشقيقات: كيف كانت رحلتك يا سيد نيلسون.. لقد مضت أيام لم نرك فيها فأين كنت؟
نيلسون: كنت في زيارة لوالدتي فقد طلبت مني بعض الحاجات لتنسيق بيتنا الجميل ذي السقف العالي بحيث لا يوجد في بلدتنا بيت يشبهه في طرازه وبلور نوافذه المزخرفة وكنت ووالدتي كلما جلسنا حول المدفأة الكبيرة نتحدث عنكم وعما تشملونني به من عطف ورعاية وعناية، إن والدتي لجد ممتنة لكل ذلك.
الأم: العفو يا سيد نيلسون فنحن مدينون لك بإنقاذ ابنتنا من مخالب المجرمين الآثيمين.
نيلسون: العفو يا سيدتي.. العفو.. إنما قمت به واجب ولا يشكر المرء على واجب أداه..
الراوي: وسيطر النوتي السويدي على هذه العائلة النرويجية الطيبة القلب ولعب بعقلها حتى أصبحت تعتقد أن الله قد بعث إليها بهذا السويدي ليبعد عنها شبح الفاقة والفقر لو كان لهؤلاء النسوة رجل حي لاستعلم عن هذا الغريب أما هن فلم يرد على خاطرهن مثل ذلك وقد دفعن بطريقتهن هذه نيلسون إلى الكذب وشجعنه على الاسترسال فيه حتى أنه عندما عرف بمبلغ سعادتهن في الطواف على أجنحة الخيال منعه خوفه من فقد ((استريد)) أن يرجع عن خداعه. وجاءهم نيلسون ذات يوم ليقول:
نيلسون: سيدتي - يشرفني أن أتقدم إليك بطلب يد ابنتك ((استريد)) فهل لي أن أنال هذا الشرف.
الراوي: وشاعت الفرحة في وجه أم استريد وأخواتها ثم قالت:
الأم: يشرفني يا سيد نيلسون قبول طلبك إذا كنت أنت واستريد متفقين.
الراوي: وتطلع نيلسون إلى استريد التي أخفت طرفها خجلاً وتصبب وجهها عرقاً فقال:
نيلسون: أليس كذلك يا آنسة (استريد)..
الراوي: ولم تجب ((استريد)) خجلاً ولكن الأم كانت تحس بما بينهما والتي تعتقد أن نيلسون صيد ثمين يجب ألاّ يفلت من يدها أردفت على الفور قائلة:
الأم: مبروك - مبروك..
الراوي: وأقيم حفل زفاف بسيط وأخذ نيلسون زوجته على ظهر السفينة التي كان يعمل فيها، وكان قبطان الباخرة كريماً حينما أعطاهما حجرته حيث قابلت ((استريد)) هذا العرض بقولها:
استريد: ألف شكر يا سيدي القبطان على مكرمتك هذه التي أقدرها حق قدرها ولن أنساها ما حييت..
القبطان: ألف مبروك يا بنيتي..
الراوي: وبذل ((نيلسون)) ((لأستريد)) كل ما يستطيع خياله من سعادة وكان يبدو له كوخ أمه الحقير غارقاً في الرمل فيسعى به خياله حتى يرفع من سقفه قليلاً..
أما (استريد) فتتخيل نفسها وقد وصلا المرفأ المزين بالأعلام والزهور وأنها تمر في عربة فخمة تحت قوس النصر فيرميها الرجال بالورود ونظرات الإعجاب، وتصفر وجوه النساء غيرة من العروس الجميلة. ثم يدخل بها الزوج إلى بيته الجميل فيطالعها خدمه بثيابهم الرسمية وشعورهم البيضاء التقليدية.. وتتزين المائدة لهذه المناسبة السعيدة بالأزهار والشموع..
وآبت ((استريد)) إلى نفسها من متاهات خيالها على صوت زوجها نيلسون يقول لها:
نيلسون: نحن نقترب من المرفأ فهيئي نفسك لمغادرة السفينة.
الراوي: وحصل نيلسون على إجازة يوم وليلة من قبطان السفينة ليوصل امرأته ويهيىء لها أسباب الحياة في مقرها الجديد. وعندما وصلوا إلى الميناء الذي تصورته استريد حافلاً بالمستقبلين والأعلام والزهور، لم تلق غير الفراغ والهدوء المعتاد..
ولحظ نيلسون أن امرأته توزع فيما حولها نظرات حزينة خائبة فقال لها:
نيلسون: جئنا في ساعة مبكرة وكان سفرنا قصيراً في هذا الريح الرخاء.. أنهم لم يرسلوا عربة للقائنا وعلينا أن نسير مشياً على الأقدام بعض الوقت فالبيت يقع خارج المدينة..
استريد: وماذا يهم يا نيلسون.. فقد مضى علينا زمن طويل ولم نقم بحركة وسيحلو لنا المشي.. هيا بنا..
الراوي: وبدا سيرهما.. وكان الطريق وعراً جداً لم تكن لتتحمل السير فيه حتى في أحلك أيامها دون أن تضج بالشكوى والألم.. وكان يتقدمان في شوارع غرزت على جوانبها البيوت الباهتة القديمة ولكن أين بيت زوجها ذو الواجهة العالية المزخرفة والسلم الكبير بعواميده الرخامية كما كان يصفه.
وحزر نيلسون ما يدور بخاطر زوجه فقال لها:
نيلسون: إن بيتنا بعيد.. لم نصله بعد..
الراوي: واجتاز المدينة وسارا في السهل فرأت ودياناً قائمة وحصوناً أثرية منيعة وبيوتاً قديمة باهتة اللون.. وسلك بها نيلسون طريقاً جانبية فسألته قائلة:
استريد: إلى أين تسير بنا يا نيلسون؟
نيلسون: إننا نقتصر الطريق إلى بيتنا.
الراوي: ولم تجرؤ ((استريد)) خلال المرحلة الأخيرة من الطريق أن توجه إليه سؤالاً واحداً فقد بدأت الشكوك تساورها ولكن منظر صف جديد من البيوت أعاد إليها شجاعتها وأنه من المحتمل أن نيلسون لم يكذب عليها.. وطالعتها هذه البيوت بأصص الزهور وسجف بيضاء على النوافذ ورأت أخيراً في طرف القرية كوخاً صغيراً فأشفقت على نفسها لأنها اضطرت أن تجتاز ذلك الصف من البيوت الصغيرة النظيفة.. وشعرت كأنها رأت هذا الكوخ منذ القديم في عيني نفسها قبل أن تراه في الحقيقة فقالت لنيلسون وهي تتوقف على سفح رابية الرمل:
استريد: أهذا هو قصرنا العاجي؟
الراوي: فأومأ نيلسون برأسه واستمر يتقدم نحو الكوخ فصاحت به مهددة.
استريد: لقد كذبت علي وخدعتني.. وفعلت أسوأ ما يمكن أن يفعله ألد أعدائي.
الراوي: وأجابها نيلسون بصوت خافت مضطرب:
نيلسون: أردت أن تكوني لي وحدي.
استريد: ليتك خدعتني بشكل معقول.. لماذا ملأت رأسي بأوهام هذا الغني؟
لم كل هؤلاء الخدم؟ ولم أقواس النصر؟ هل كنت تعتقد أني متعلقة بالمال إلى هذا الحد؟ ألم تشعر بأني أحبك بالقدر الكافي لاتبعك حيث شئت.. يا لغبائي.. يا لشقائي.. كيف استطعت أن تستمر في الكذب إلى اللحظة الأخيرة.
نيلسون: ألا تدخلي وتتحدثي إلى أمي؟
استريد: لن أدخل هذا البيت.
نيلسون: إذن تعودين إلى أهلك.
استريد: نيلسون.. كيف أستطيع ذلك.. كيف أسبب لهم مثل هذا الحزن والغم العظيم وهم يعتقدون أني سعيدة وغنية.. لا.. ولكني لن ابقى هنا.. إنني أستطيع أن أكسب قوتي بعرق جبيني.
نيلسون: أرجوك يا استريد. أن تبقى فما فعلت إلاّ حرصاً عليك.
استريد: لو صارحتني بالحقيقة قبل هذا الوقت بقليل لقبلت..
نيلسون: كنت تبقين لو قلت لك إني فقير.
الراوي: وكانت استريد تهم بالعودة عندما فتح باب الكوخ وظهرت أم نيلسون على العتبة كانت عجوزاً ضئيلة تركت السنون آثاراً على وجهها أكثر مما تركته في عقلها.. وكانت قد سمعت جزءاً من الحديث وحزرت الباقي.. كانت تعرف ابنها وتعرف شيئاً عن الزوجة التي أتى بها فقالت لابنها:
أم نيلسون: هذه إذن يا نيلسون ابنة العائلة الكريمة التي تزوجتها.. يبدو لي إنك خدعتها وبذلت لها الأكاذيب.
الراوي: وتقدمت بلطف من استريد وداعبت خدها وقالت:
أم نيلسون: أدخلي معي يا ابنتي المسكينة.. إني أعرف متاعبك.. فأنت منهكة.. هذا كوخي أنا فلن يدخله.. تعالى فأنت الآن ابنتي الصغيرة ولن أدعك تذهبين إلى بيت غريب.
الراوي: وبذلت أم نيلسون لأستريد الكثير من عطفها وحنانها ثم دفعتها برفق نحو الباب ودخلت استريد أخيراً وظل ((نيلسون)) خارج الكوخ.. وسألتها العجوز عن قصة تعرفها إلى ابنها وكيف تم زواجهما.. ثم بكت عليها حناناً وإشفاقاً وبكت استريد على نفسها وحدثتها أم نيلسون عن ابنها قائلة:
أم نيلسون: إن نيلسون كثير الكذب، حباه الله وجهاً جميلاً وجسماً رشيقاً كان يرى كل شيء خلال نظارات مكبرة.. ولكن أكاذيبه لم تكن قد أساءت إلى أحد من قبل والحق كان أمامه ما يغري هذه المرة.. كان يجيد تقليد الأغنياء في حركاتهم ودقائق حياتهم حتى ليبدو غنياً منذ الولادة.. أليس غريباً من هذا الفتى ابن الصياد أن يستطيع خداع الناس وكيف لم تثر أحاديثه الشكوك في قلبك يا استريد.
الراوي: وكانت الأم تتكلم وتتكلم فتصغي إليها استريد وتتشرب في حالة حزنها كل كلمة تقولها ثم أضافت الأم قائلة:
الأم: أترين يا استريد.. إني لم أستطع أن أقتلع من نيلسون هذا الكبرياء وهذه الحاجة الداخلية التي تدفع به إلى ادعاء ما ليس له من غنى وجاه..
ولعلّ امرأة أخرى محبوبة تفوقني ذكاء توفق حيث فشلت.
الراوي: وسألتها استريد فجأة قائلة:
استريد: وأين يقضي نيلسون ليلته؟
الأم: يمكنه أن ينام على الرمل خارج الكوخ وسأعطيه غطاء.
الراوي: واستمرت الأم تتحدث إلى استريد واستطاعت إقناعها بالبقاء معها إلى قرب ابنها وبعد أيام من حلول الوئام والصفاء بين الزوجين ودَّعت أم نيلسون دنياها وذهبت إلى بارئها. ورزقت استريد طفلاً.. وبدأت تعيش له ومن أجله وهبته كل ذاتها ووجدت فيه معنى جديداً لحياتها وتفانت في العناية به بعد أن أفلحت في تغيير طباع زوجها وصرفه عن سعادة الوهم والأكاذيب.. وغرق زوجها نيلسون في إحدى رحلاته غيبه الخضم العظيم في أحشائه الهائلة وتبعه بعد مدة قصيرة ابنها الوحيد ولم تحاول استريد أن تواجه أحداً من أهلها لأنه كان يخجلها أنها أصبحت شبيهة بنساء الصيادين تكسب عيشها من صنع شباك الصيد وظلت ((استريد)) وحدها في هذا القفر النائي بعد أن وطنت نفسها على الاستسلام لقضاء الله وقدره.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1418  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 25 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .