شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أنا والأخلاق (1)
أشعر أن أخلاقي غير حسنة، وأفكر كثيراً لأعرف الجاني، أو بمعنى غير لأعرف ما الذي جعل أخلاقي سيئة، وقد اتهمت نفسي وقلت لها إنها هي التي جنت على أخلاقي، ولكن سرعان ما أجد أن نفسي لم تجن عليّ وحدها، وأن هناك جان غيرها، وعليه فسأظل أبحث عن الجاني لأنه من الضروري أن أعرف من الجاني عليَّ هذه الجناية، وما الذي حط بأخلاقي إلى هذه الدرجة التي أنا فيها لأعرف خصمي، خصمي الذي أساء إلى حياتي بأكملها لأني أصبحت غير صالح عضو مشلول في أمتي، ومن كان كذلك فوجوده وعدمه، وموته وحباته سواء.
فبالله هل تلومني أيها القارئ إذا أنا بحثت، ونقبت، وقمت، وجلست، وطلعت، ونزلت. ولكن لماذا أسألك؟ وهل من الضروري أن أنتظر رضاك أو غضبك، فإذا رضيت أو غضبت فعندي سيان ما دام أن المسألة تهمني، أو بمعنى أفصح تهم أمتي التي أنا أحد أعضائها المشلول، إذاًَ سأبحث وسأبحث وسأبحث، ولكن على ثقة أيها القارئ أن ليست غايتي من البحث على خصمي لأحمل عصا حتفي فأكسر بها رأسه ولأمزقه بأسناني، لا شيء من ذلك.. وإنما أنا أسعى لأعرف الجاني عَليَّ، أو لأعرف الداء الذي أصابني حتى أتوصل إلى معرفة الدواء لأعالج به ابني الذي هو في عالم الذر، وأبناء قومي الذين هم مثلي. أما أنا فمع الأسف أصبحت لا ألتذ بحياة غير التي أنا فيها، والذنب في ذلك على من أضاعني، ولم يفكر في تعديل أخلاقي.
ثبت وتحقق أن هناك جَانٍ غير نفسي. فمن هو ذلك الجاني يا ترى؟ وهل أوجه التهمة على الذين قاموا بتربيتي؟ أم على البيئة التي نشأت فيها؟ أم على الأمة التي أنا منها؟ أم على الكل بصفتهم كتلة واحدة في مجتمع الإنسانية؟
أنا أعرف بدون شك ولا ريب أني إذا وجهت التهمة فسأطالب بالبينة، إذاً الموضوع جد، والمسألة فيها مسؤوليات، ومن غربل الناس نخلوه، فيجب أن أقيس قبل الغطيس، وأن أفتش من (تحت لتحت) ولو كان الموضوع موضوع أخلاقي لكان الأمر سهلاً واحداً من ألف، أو من مئة ألف، ولكن الموضوع أخلاق من كان مثلي بين أمتي بغض النظر عن كونهم يشعرون بذلك أو لا يشعرون، ويفكرون في إصلاحها أو لا يفكرون.
ها قد عثرت على الخصم، وتوفرت لدي البينة ولأبادر الآن بتوجيه التهمة. فهل عرفت الجاني أيها القارئ؟ هل عرفت الذي جنى عليَّ وعلى غيري؟ أما أنا فقد عرفت خصمي، لا بل عرفت أخصامي الذين جنوا عليَّ وإليك هم:
1- العائلة التي نشأت تحت رعايتها.
2- المدرسة التي تعلمت فيها.
3- الرفاق الذين صحبتهم.
4- الأمة التي عشت فيها.
كل هؤلاء أخصامي، وهم الذين أساءوا إليَّ، والذين سأقيم عليهم وأورد في وجههم البينة.
العائلة التي نشأت تحت رعايتها. الوالد أحن ما يكون على ولده.. هذا شيء مسلم لا يحتاج إلى برهان ولا دليل، وكذلك الوالدة، ولكن مع الأسف فقد نشأت بينهم وتحت كنفهم ورعايتهم فأساءوا إليّ من حيث يحسبون من أنهم يحسنون صنعاً.
تعلمت الكلام كما يلقناني إياه (والعارف لا يعرَّف) وأوكلا أمري إلى من لا أهمهم كخادم وخادمة، وغير ذلك، فنشأت كما يشاؤون، ولم يكن عندي في ذلك الوقت - من العقل ما يردعني، ويجعلني أفكر في أن هذا مليح أو قبيح، كما أن أخلاقي لم تكن صبخة لا تنبت فيها تلك البذرة، بل قد نبتت وأثمرت بئس الثمر، بعد ذلك قالوا لي هذا عيب، وذا مضر، وذلك قبيح، ولكن ماذا أعمل وقد أصبح ذلك من الغرائز في نفسي، وأصبحت أشعر بدوار شديد في رأسي إن لم أقله وأتغنى به. هذا من جهة الأقوال. أما من جهة الأعمال، فقد كنت أراهم يعملون أشياءً ثم ينهونني عنها، ويقولون أن هذا لا يجوز، ولا يجب أن تعمله، فأدخل مع نفسي في محاورة:
يقولون هذا لا يجوز، وأن عمله مضر، سلمنا، وآمنا، وصدقنا، ولكن لماذا يفعلونه، ويقدمون عليه؟ فإن كانوا صادقين فيجب عليهم أن يكفوا عنه أولاً:
"لا تنه عن خلق وتأتي مثله".
وإن كانوا كاذبين فلماذا ينهوني عنه؟ وهل أحل لهم وحرم عليّ؟!
ثم أخرج بالنتيجة، أن الموضوع مغالطة، ومغالطة بمغالطة.. أظهر أمامهم كما يأمرون، وأفعل من ورائهم ما يفعلون، وإني شاطر في التصنع إلى الدرجة التي أظهر فيها أني سمعت وأطعت!
هذا كله وعمري السادسة بعد، فكيف إذا صرت في العاشرة، والخامسة عشر، بالطبع سأكون ماهراً أكثر من الآن بكثير، فأظهر العفة والصلاح والتقوى وأبطن غيرها، وهذه هي البذرة الأولى، ويالها من بذرة سيئة.
من هذا يظهر أن نظام التربية معدوم في العائلة التي نشأت فيها، وربيت تحت رعايتها وفي ظلها، وبالطبع فإنه يوجد عائلات خطتهم في التربية مثل هذه الخطة، وربما كانت أزفت من ذلك. فهل تلك العائلات التي مثل عائلتي تعدّل خطتها، وتحسن سيرها، وتنشئ نظاماً حسناً لتربية أطفالها فيكونوا قد أدُّوا واجباً عليهم، ويكونوا قد أحسنوا من أوكل إليهم أمر تربيتهم، وأنقذوا أبناء المستقبل من الخطر الذي يداهم حياتهم.
إن تحسين نظام التربية من أهم الأشياء التي يجب العناية بها، ومن أقدس الواجبات التي نسعى لتحقيقها بالأقوال والأعمال، لأن مستقبل الأمة متوقف على أبناءها، ومستقبل الأبناء متوقف على حسن التربية، والعائلة هي حجر الزاوية في تربية الطفل الذي ينشأ بينهم، وهي المسؤولة في الدرجة الأولى عن حياته ومستقبله.
قد أجد من تأخذ به الحدة فيقول: إذا كانت العائلة التي نشأت فيها مثلما ذكرت فليس معنى ذلك أن كل العائلات على هذا النحو، فأجيبه: أنت صادق في مقالك، إلا إني لا أعني بمقالي هذا إلا من كانت عائلته مثل عائلتي في التربية والأخلاق، ثم لو سلمنا بأن هذه العوائل قليلة، فهل يجوز لنا تركها لتسير في عاداتها السيئة، مع أن هذا الأمر لا يعنيها وحدها، بل يعني الأمة بأكملها، ولربما يقول: هل أنت أبو الأمة، أو لك حق التعديل عليها، فأقول له: لست بأبيها، حتى ولا أمها، وإنما أنا أحد قتلى هذه العوائد السيئة، والأخلاق الرذيلة. دفعني الواجب فقمت وتكلمت وصحت، وصرخت، وسأصرخ علِّي أجد آذاناً تسمع، وقلوباً تفقه، وهذا ما أريده وأسعى لتحقيقه، وبالطبع سأجد، لأن كثيرين مثلي يشعرون بما أشعر، ويفكرون بما أفكر. فعسى أن يهزهم ما هزني، فيقوِّموا معوجَّنا، وتتحقق الأمنية.
(الغربال)
أم القرى العدد 378 في يوم الجمعة
3 ذو القعدة 1350هـ
الموافق 11 مارس 1932م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :561  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج