يقول اللغويون أن الحارة هي: "المحلة التي تدانت مساكنها" ومن هذا يفهم أن أهل الحارة هم أهل المحلة المتدانية مساكنها ولكن العرف الحجازي –القديم– يخالف اللغويين، ويقصد بأهل الحارة نوع مخصوص، لهم هيكل مخصوص، وموكول إليهم أمور مخصوصة، ومرادنا من هذا البحث أن نلم ولو بطرف من المسائل الحاروية، وفروعها للحقيقة والتاريخ لا أكثر ولا أقل، وعسى أن نوفق فنبرز صفحة صادقة لهذه المسائل.
قبل أن نخوض في هذا البحث أرى أنه من الواجب التعرض للتاريخ الحجازي واتصاله بهذه الحوادث، لأن هذا النوع الحاروي كانت له أعمال عظيمة، أريق بسببها دماء، وسلبت من أجلها أموال، وزهقت على إثر حدوثها نفوس، وإنا نأسف على أن مؤرخي الحجاز (2) قد أغفلوا تدوينها فبقيت في طي الخفاء، فذهبت الأيام بأكثرها وستذهب الأيام المقبلة بالبقية الباقية - وأصبح الذين هم في سن الشيخوخة يحدثوننا ببعض الحوادث التي شاهدوها بأنفسهم، أو سمعوها من المسنين الذين عاصروهم في شرخ شبابهم، ولكن إذا ما أتى الكاتب ليدون خبر حادثة، نجده يقف حائراً أمام أخبار متناقضة، والنتيجة التي يخرج بها من وراء هذا التناقض هو فقدان الثقة بمن يروي له أخبار حادثة من الحوادث، وقد تكون حافظة الراوي ضعيفة فتكون هي المسببة لذلك التناقض أما أنه قد يكون الراوي هو نفسه المحدث لذلك التضارب، والمؤرخ كما أنه أبين في نقل الحوادث كما يسمعها ويشاهدها، فيجب أن يكون محققاً ممحصاً قبل كل شيء لما يقرؤه، وما يحدث به، لأن التاريخ أشرف وأعظم من أن يسجل الأخبار المدونة لغرض شخصي، والمبثوثة لنزعة خاصة، والمؤرخ الغير محقق عليه تقع تبعة نقله أو تدوينه رواية لبعض حوادث غير موثوق من صحتها.
العصبية والتكوين الحاروي:
قلت إن هذا النوع الحاروي قد كانت له أعمال عظيمة في التاريخ الحجازي وإذا أردنا أن ننظر إلى هذا التكوين الحاروي فإنا نجده قد بني على أساس العصبية وقد كانت للعصبية الجنسية (3) في بعض المواقف أثر سيئ فكانت نتيجتها مؤلمة للغاية، ولا يخامرنا أدنى شك في أن التكوين الحاروي بني على أساس العصبية ومن المؤسف والمؤلم معاً أن أهل الحل والعقد كانوا من المشجعين لهذه الحركات لأغراض مادية ومعنوية، وتحزبات شخصية، فقد كانوا يحركون بأصابعهم الأثيمة مكامن الفتنة، ويوقدون نارها تحيزاً لجهة يميلون إليها، أو تطلباً وراء مغانم يتصيدون من جرائها.
التكوين الحاروي والمدن الحجازية:
يؤلمنا أن نقول هذا التيار الحاروي لم يقتصر على حارة دون أخرى، ولا على مدينة دون الثانية بل سرى في أكثر المدن الحجازية، فانقسمت كل مدينة على نفسها وأخذ كل قسم منها يشايع القسم الآخر ويشاركه البأساء والضراء، وهذا التشايع لا يزال معروفاً أمره حتى اليوم، ويدور حديثه في المجامع الحاروية في أكثر الأحايين، ولا تزال بعض حارات جدة تشايع بعض حارات مكة، وكذلك الأمر في المدينة والطائف، إلى يومنا هذا. وهذا التشايع قد أثر كثيراً في اقتصاديات البلاد فذهبت أموال عديدة ضحية التفاخر والتكاثر، كما أنه قد ولد حزازات في النفوس لا يزال أثرها باقياً حتى اليوم، ولولا القوة الحاكمة في الوقت الحاضر، للظي هذا الوطن بشررها المستطير، ونارها الحامية.
التحالف الحاروي:
قضت الأوضاع الحاروية بأن تطلق على هذا التشايع اسماً مخصوصاً يعرف به، فأسموا هذا التشايع - وإذا شئت فقل العصبية: "تحالفاً" فهم يقولون "مثلاً": الشعب حليف المسفلة، و كلمة تحالف كلمة راقية جداً، وهي تعبر عن معنى دقيق للغاية، وجوهرها يدل على ما يقصد منها، والحليف الحاروي يدافع عن حليفه بماله ويده ولسانه.
نكتب هذه الكلمة بمناسبة الصراع الناشئ في الوقت الحاضر بين أهل المسفلة والشبيكة من أجل السوق المعروفة بسوق الصغير، واسمها القديم "المعلفة" ونظن أن هذا الاسم هو نسبة إلى بيع علف الدواب، ولا يزال آخر هذا السوق يباع فيها علف الدواب حتى هذه الأيام.
إن بعض مؤرخي الحجاز تطرق لذكر نتف يسيرة من هذه الأخبار فقد ذكر الفارسي في تاريخه شفاء الغرام، وابن فهد في تاريخه اتحاف الورى في أخبار أم القرى، والسنجاري في تاريخه منائح الكرم والخضراوي في تاريخه تاج تواريخ البشر، والغازي في تاريخه إفادة الأنام في أخبار البلد الحرام وغير هؤلاء ممن لا يحضرني ذكرهم بعض الحوادث الحاروية التي كان بسببها تقوم فتن عظيمة، والتي كان لها اتصال بالسلطة الحاكمة، أما المنازعات التي كانت تنشب بين الحارويين أنفسهم فقلما تعرضوا إليها بخبر، اللهم إلا النزر الحجازي اليسير في كتاب تاريخ الغازي أما العوائد والقوانين الحاروية فقد بقي أمرها مجهولاً في التاريخ، أقول هذا لأني لم أطلع على شيء من ذلك، ولعل غيري يكون قد اطلع على شيء من ذلك فيرشدني إليه، فأكون له من الشاكرين.
لقد كان للعبيد وعصبيتهم مركز هام في المسائل الحاروية، وكثيراً ما نشب النزاع بينهم وبين بعض الأتراك الذين كان موكولاً إليهم أمر الحجاز ويوجد نتف من أخبار هؤلاء في كتب التاريخ الحجازي، وقد كان بعض الأشراف في الحجاز وبعض سراة القوم فيه يشترون العبيد لهذا الغرض الحاروي تطلباً وراء الشهرة، ولا يزال بعض (العبيد) ممن وجدوا في الأصل لهذا الغرض موجودين على قيد الحياة في وقتنا الحاضر، والمطلع على المسائل الحاروية يعرف الشيء الكثير من ذلك.