لا يوجد لدينا مصدر موثوق نستطيع أن نعرف به الأسباب الحقيقية للنزاع الحاروي كما أنه لا يوجد أي شيء في التاريخ الحجازي نستطيع أن نعرف به ابتداءه.
والذي نذهب إليه، أن النزاع الحاروي نشأ في أول مرة بسبب شجار داخلي بين أسرة واحدة، قامت على أثره أحزابٌ متعددة، فكان لكل حزب مشايعون في حارات مختلفة، تميل –في الأكثر– إلى أن هذه الأسرة كانت ذات سلطة إدارية في البلاد ونستدل على هذا بأن الحكم الحجازي –في أدواره– كان للقوي، والأمة الحجازية –كما عرفها التاريخ الحجازي– دائماً أبداً تنظر إلى الجهة القوية فتناصرها، وقد حدثنا التاريخ بأنها –أي الأمة الحجازية– كانت تشايع خصم من ناصرته بالأمس عندما يضعف أمره أو يعتريه الانحلال. وهذا من أعظم المصائب التي بُلي بها الحجاز، والتي أخرت من سيره ونخجل إذا قلنا أن من كان بيدهم الأمر كانوا هم أنفسهم يقدمون الحطب لإذكاء النار؛ من أجل ذلك كان الحجاز –وهو أبو المدنية– مسرحاً للقلاقل والفتن، أحسبني خرجت عن الموضوع الذي أنا بصدده فعفواً.
أما تاريخ النزاع الحاروي فهو قديم جداً، وأن بعض ما ذكره الفاسي من الحوادث في تاريخه شفاء الغرام يدلنا على أن النزاع الحاروي كان موجوداً في زمنه؛ والفاسي كان في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجري، إلا أننا نؤكد أن النزاع الحاروي كان في زمنه ضعيفاً جداً؛ كما أننا نميل إلى أن الذين كانوا يديرون رحاه هم موالي الأشراف.
والحقيقة أن كل ما نقوله - عن الأسباب الحقيقية للنزاع الحاروي؛ وابتداء تاريخه ليس هو استنباطاً واستنتاجاً. وربما يكشف لنا المستقبل شيئاً جديداً نعدل بسببه عما ذهبنا إليه الآن، إذ القصد الوحيد من هذا هو بحث الحقيقة وإظهارها ونرجو من كل باحث ومحقق أن يتفضل بنشر ما لديه من وثائق صحيحة ونظريات معقولة خدمة للحقيقة والتاريخ.
النزاع الحاروي الداخلي:
لم يقتصر النزاع الحاروي على مشاجرة حارة مع أخرى، بل امتد أمره إلى أكثر من ذلك حتى وصل إلى أن الحارة نفسها كثيراً ما تنقسم فتصير أحزاباً متعددة كل حزب يعمل ضد الآخر وتتجه مقاصده وأغراضه إلى غايات مخصوصة ليس من بحثها كبير فائدة، والذي نأسف له أن هذا الانقسام قد زاد في أسباب التنافر والشقاق فجعل الأمر فوضى وأثر تأثيراً سيئاً على الأمن الداخلي، فكان له أسوأ أثر في حالة الحجاز الاجتماعية.
الاعتزاء الحاروي:
لكل حارة من حوائر المدن الحجازية اعتزاء خاص، فهو أشبه بإعلان عن الجهة التي ينتسب المعزي إليها، والاعتزاء في تاريخ العرب معلوم أمره في الجاهلية والإسلام والذي يجب أن نوضحه هنا هو: إن هذا الاعتزاء عربي قديم ونود أن نستعرض بعض الإعتزاءات الحاروية التي عرفناها والتي فهمنا المقصد الذي يرمون إليه من ورائها، وكنا نود أن نستقصي جميع الاعتزاءات الحاروية التي في المدن الحجازية، ولكنا نأسف كون ذلك لم نوفق إليه الآن؛ علاوة على كونه يحتاج إلى كتابة طويلة من الاعتزاءات في كتاب خاص، والذي عرفناه الآن من اعتزاءات هو:
أهل الغزة (1) يقولون: "عبد الغز" وأهل الشامية (2) يقولون: "عبد اسطنبول" (3) وأهل سوق الليل (4)يقولون: "عبد المولدين" (5) وأهل شعب عامر (6) يقولون: "ولد فوق" (7) وأهل المسفلة يقولون "ولد أسفل" (8)، وأهل النقا يقولون: "عبد النقاوات" (9) نسبة إلى النقا. هذا ما أمكننا معرفته الآن من الاعتزاءات.
الغزة في القديم كانت تعد من المعلاة ولا نعرف بالتأكيد الزمن الذي أطلق فيه عليها هذا الإسم، أما سبب تسميتها بالغزة الذي نذهب إليه هو أنه نسبة إلى أهل (غزة) من أعمال فلسطين بسبب نزولهم فيها للبيع والشراء في أيام الموسم، ولا تزال سوقهم تقام في أيام الموسم حتى الآن، وقد كانت الغزة في الزمن السابق أي إلى أواخر القرن الثالث عشر حرة مستقلة بنفسها ولها شيخ مخصوص، وفي أوائل القرن الرابع عشر –تقريباً- أسند أمرها إلى شيخ شعب عامر، ولا تزال حتى اليوم جزءاً منه.
الشامية اسمها القديم: "المربع" وقد ورد ذكرها في شعر بن الفارض في قوله:
فلنازلي سرح "المربع" فالشبيــ
ــكة فالثنية من شعاب كداء
وذهب إلى هذا الشيخ أحمد الحضراوي في تاريخه تاج تواريخ البشر. والشامية اسم حديث ونظنه نسبة إلى الشوام بائعي الأقمشة لأنهم بكثرة هناك. نقول هذا مع التحفظ؟.
يقصدون باسطنبول، استنبول، ونظن أن هذه النسبة هي بسبب أن ساكني محلة الشامية أكثرهم من الأتراك ويوجد في المحلة المذكورة جبل يسمى: بجبل الترك ساكنوه من الأتراك.
سوق الليل اسم قديم حدث في أول ظهور الإسلام وسبب تسميته بذلك هو أنه لما حاصر المشركون رسول اللهصلى الله عليه وسلم واتباعه في شعب الهواشم (وعرفه الأزرقي بشعب بن يوسف) وهو المعروف اليوم بشعب علي -نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب- ومنعوا عنهم الطعام كان المحصورون يخرجون ليلاً إلى السوق التي أمام الشعب (أي في الباحة التي أمام الحراج الآن) فيبتاعون ويشترون فيها ليلاً، ولهذا السبب أطلق عليه سوق الليل.
نسبة إلى عبد الله عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس، ويعرف عند بعض المؤرخين "بالمطابخ" وقد ذكر الأزرقي عن سبب هذه التسمية روايتين أحداهما تقول: بأن مطابخ "تبع الحميري" كانت في هذا الشعب فلذلك سمي المطابخ. والثانية تقول: بأن مضاض بن عمرو الجرهمي لما اقتتل مع السميدع على أمر مكة بفاضح، وقتل السميدع تداعى القوم للصلح فساروا حتى نزلوا شعب بني عامر وهناك اسلموا أمر مكة إلى مضاض بن عمرو الجرهمي، فلما تم له الأمر أطبخ للناس هناك وأطعمهم، فلذلك سمى المطابخ.
النقا اسم قديم، وقد ورد ذكره في شعر بن الفارض في قوله:
وإذا وصلت اثيل سلع فالنقا
فالرقمتين فلعلع فشطاء
سلع جبل مطل على السليمانية، والنقا المحلة المعروفة بهذا الاسم، والرقمتان هما الصخيرات التي عند قبر العبادي مكان الحدود بين الفلق والنقا ولعلع جبل مشهور هناك وشظاء هو الفَلْق نبه على ذلك الحضراوي في تاريخ تاج تواريخ البشر.