أما الرواية التي تقول بأن الحجون مشرف على مسجد الحرس، وبأصله شعب الجزارين، فهي أصح الروايات، وإنك لتجد الأزرقي يحدد الحجون تحديداً كنا نتمنى لو سار في كل تحاديده على شكله إذا يقول: "الحجون الجبل المشرف حذاء (هكذا) مسجد البيعة الذي يقال له مسجد الحرس وفيه ثنية تسلك من حائط عوف من عند الماجلين اللذين فوق دار مال الله إلى شعب الجزارين وبأصله في شعب الجزارين كانت المقبرة في الجاهلية". ص 482 طبعة أوروبا.
ولفظة حذاء هنا ضرورية جداً، لأنك إذا وقفت أمام مسجد البيعة –وهو المعروف اليوم بمسجد الجن– وجعلته خلف ظهرك تستقبل جبلين أحدهما يقع فوق القبر المنسوب للسيدة آمنة، والآخر يقع فوق قبر السيدة خديجة، وكلاهما يشرفان على مسجد البيعة (1).
والأزرقي حينما ذكر لفظة حذاء يريد أن يخرج الجبل الثاني المشرف على قبر السيدة خديجة، وقد حرّف بعض المؤرخين لفظة (حذاء) بـ جدا فذهبت الفائدة الموضوعة من أجلها. ذكر الفاكهي ما يأتي: "الحجون الجبل المشرف جداً على مسجد البيعة" وتبعه ابن ظهيرة في ذلك ونسبه إلى الأزرقي (راجع ص 358) ولفظة جدا هنا لا محل لها، وجميع نسخ الأزرقي الخطية والمطبوعة تنطق بحذاء، ولا أدري كيف تسرب هذا التحريف للفاكهي وابن ظهيرة .
ولأجل أن نعطي للقارئ صورة صحيحة عن موضع الحجون نذكر أقوال الأزرقي نفسه عن بعض الأماكن التي جاءت في تحديده للحجون.
شعب الجزارين:
شعب الجزارين هو الشعب المعروف بشعب أبي دب، وشعب أبي دب هو الشعب الذي فيه القبر المنسوب إلى السيدة آمنة، وهذا قول الأزرقي: "شعب أبي دب هو الشعب الذي فيه الجزارون، وأبو دب رجل من بني سوأة بن عامر، إلى أن قال: "زعم بعض المكيين أن قبر آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي دب هذا" ص 481 طبعة أوروبا.
مقبرة الجاهلية:
المؤرخون كلهم مجمعون على أن أهل الجاهلية كانوا يدفنون موتاهم في الحجون، وصاحب الأغاني روى لنا في غير ما موضع أشعاراً كثيرة تفيد ذلك، والأزرقي صرّح بذلك فقال: "فكان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشامة في الجاهلية وصدر الإسلام، ثم حول الناس جميعاً في الشعب الأيسر ص 434. وقد وضح ابن ظهيرة جنبتي الوادي في تاريخه إذ قال: "والمراد باليمنى هو شعب أبي دب المعروف الآن (أي زمنه) بشعب العفاريت إلى أن قال: والمراد بالشامي هو شعب الصفي بتشديد التحتية المسمى قديماً بصفي الشباب (2)، وهو الذي عند أذاخر الخرمانية في طرف المحصب" ص 348 - 349. ووضح الفاسي الشعب الأيسر في العقد الثمين بقوله: "وهذا الشعب هو الذي فيه على ما قبل قبر خديجة أم المؤمنين"، ص 311 النسخة الماجدية.
فأنت ترى من هذا أن قبور الجاهلية كانت على يسار الصاعد، ولا تزال توجد بعض قبور تنسب إلى عبد مناف وعبد المطلب وهاشم أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مشيداً قباباً كبيرة لا تهدم إلا يوم 19/3/1343هـ، والمؤرخون مجمعون على أن مقبرة أهل الجاهلية كانت على يسار الصاعد ولم يقل أحد منهم أنها على اليمين. (يتبع).
بقي الحجون مشرفاً على مسجد الجن حتى عام 1335هـ وهو العام الذي بنيت فيه القهوة المعروفة بقهوة البلدية، ومن ذلك التاريخ كادت تكون حاجزاً بين الحجون ومسجد الجن.
المعروف أن هذا الشعب اسمه صفي السباب بالسين لا بالشين وفي ذلك يقول الشاعر:
كم بذاك الحجون من أهل صدق
وكهول أعفة وشباب
سكنوا الجزع جزع أبي مو
سى إلى النخل من صفي السباب
وعرفه الأزرقي في غير ما موضع بصفي السباب، وعلل التسمية بقوله: "وقال بعض المكيين إنما سمي صفي السباب أن أناساً في الجاهلية كانوا إذ فرغوا من مناسكهم نزلوا الحصبة فوقفت قبائل العرب، بفم الشعب شعب الصفي وتفاخرت بآبائها وأيامها ووقائعها في الجاهلية" ص 482. واعترض ابن ظهيرة على هذا التعليل فقال: "وليس في هذا مناسبة لوجه التسمية وكأنه والله أعلم مأخوذ من الاصطفاء لكونهم اختاروا هذا المكان واصطفوه لمفاخرتهم إلى أن قال: ثم يظهر إن صدور هذا التفاخر إنما كان يقع من شبابهم ليظهر وجه التسمية ص 349.
ونحن إذا وافقنا ابن ظهيرة على اعتراضه الأول فإنا نخالفه في تعليله الثاني إذ لا وجه لتعليل ذلك، ونعتقد أن الذي دفع ابن ظهيرة لهذا التعليل، التحريف الذي وقع فيه، وظهر أن النسخة التي اعتمد عليها ابن ظهيرة من تاريخ الأزرقي كان فيها تحريف كثير إذ لاحظنا ذلك في غير ما موضع من تاريخه. وشعب صفي السباب هذا هو الشعب الذي بين الخرمانية وثنية أذاخر، كان في هذا الشعب حائط (بستان) لمعاوية أطلق عليه حائط الصفي، ويعرف شعب الصفي بخيف بني كنانة أيضاً (راجع ياقوت).