إن التحريف الشائع في زمننا الحاضر قديم جداً، لا نستطيع بالتأكيد الجزم بوقته، وكل ما نجزم به أن تاريخ التحريف يرجع إلى ما قبل القرن الثالث، إذ الطبري لم يوافق الناس على روايتهم إلا لتفشي ذلك التحريف. والطبري من أهل أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وأول من نبه على هذا التحريف -فيما اطلعت عليه- تقي الدين الفاسي مؤرخ مكة الشهير، وهو من أهل القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجري، إذ قال (في شفاء الغرام) ما نصه: "وقد ذكر المحب الطبري في الذي ما يوافق ما يقوله الناس، وكنت قلدته في ذلك، فظهر لي أن الأزرقي بتلك أدرى كيف وافقه الخزاعي والفاكهي وغيرهما، وإذا كان كذلك طالما الجبل الذي يزعم الناس أن فيه قبر عبد الله بن عمر، والجبل المقابل الذي بينهما الشعب المعروف عند الناس بشعب العفاريت".
وعقبة ابن ظهيرة وهو من أهل القرن العاشر فنبه على ذلك في تاريخه بقوله تحت عنوان: فائدة: "المشهور عند أهل مكة أن الحجون هو الجبل الذي فيه الثنية التي يدخل منها الحجاج الهابطة على المقبرة، وعرفها الأزرقي بثنية المدنيين، ويسمونها الحجون الأولى بالنسبة إلى الخارج منها ذوي طوى والزاهر، ويقولون لما بينهما وبين الثنية الأخرى الهابطة على الضلع وطريق الوادي وتسمى الخضراء (1) بين الحجونين" (2)، ص 358 - 359. وقد اكتفى ابن ظهيرة بهذا التنبيه ولم يقل كلمته، بل ذكر عبارتي الأزرقي والفاسي، وهذا دليل على إيمانه بهما.
فهل بعد هذا بقي شك في مكان الحجون الحقيقي؟ وهو: "الجبل الذي فوق القبر المنسوب للسيدة آمنة بنت وهب" من كانت لديه حقيقة غير الذي تقدمت فليتفضل بها خدمة للحقيقة والتاريخ، وإن له من الشاكرين.
الثنية الخضراء تعرف اليوم بريع الكحل، وعد الأزرقي الجبل الذي فيه الثنية من أثيرة مكة، وأطلق عليه جبل الزنج، وعلل هذه التسمية بأن زنوج مكة كانوا يحتطبون منه، ويلعبون فيه، وعرفه أيضاً بالأقحوانة، وفي الأقحوانة يقول الشاعر:
من كان ذا شجن بالشام يحبسه
فإن (…) أمى لي الشجن
وإن ذا القصر حقاً ما به وطني
لكن بمكة أمسى الأهل والوطن
من ذا يسأل عنا أين منزلنا
فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ تلبس العيش صفوا ما يكدره
طعن الوشاة ولا ينبوا بنا الزمن
وذكر الأزرقي بأن بعض المكيين يقولون بأن الأقحوانة عن الليط، والليط بأسفل مكة وسبب تسمية ذلك المكان بالأقحوانة أنه كان مجلساً يخرج إليه أهل مكة بالعشي فيتحدثون فيه، وكانوا يلبسون الثياب المحمرة والموردة والمطيبة، ولحسن ثيابهم أطلق على المكان الأقحوانة، (راجع الأزرقي ص 486 طبعة أوروبا).
ما بين الحجونين هو المكان الفسيح المسمى اليوم "بير الهندي"، وعرف الأزرقي ذلك المكان ببطن ذي طوى فقال: "بطن ذي طوى ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء تهبط على قبور المهاجرين دون فخ" ص 500 وقبور المهاجرين التي دون فخ تقع اليوم على يسار النازل من ريع الكحل، ولا تزال آثار القبور ماثلة حتى اليوم، وقد شهدتها ووقفت عليه غير مرة.