ولربما يعترض معترض فيقول: أن مسجد الحرس على يسار الصاعد لا عن يمينه، وهذا يصح على الوضع الحاضر، أما الوضع القديم فلا، لأن الشارع الذي نسلكه اليوم لم يك شارع القوم إذ ذاك، بل كانوا يمرون من المكان الذي فيه (الشرشورة) اليوم إذ المقبرة التي منها قسم (الشرشورة) لم تخطط إلا في القرن الحادي عشر (1)، وقد كان مكانها وادٍ فسيح، فكانت أولى بالشارع من الجهة الأخرى لما بها من النواتىء المضرة.
أما المحتجون بقول الفاكهي فحجتهم واهية لأنه لا يوجد في قول الفاكهي ما يجب أن يكون حجة، وهذا قول الفاكهي نقلاً عن ابن ظهيرة: "الحجون الجبل المشرف جداً على مسجد البيعة الذي يقال له مسجد الحرس". وهذه الجملة هي نفسها جملة الأزرقي مع تحريف(حذاء) بجدا، ويظهر أن ابن ظهيرة أخذ عن الفاكهي فوقع في نفس التحريف الذي وقع فيه، والذين يقولون بأن الفاكهي ذكر في شق معلاة مكة اليماني لا نعرف حجتهم في ذلك، ولم نعثر على تاريخ الفاكهي لنناقش القوم حجتهم، والمعروف أن الفاكهي وضع تاريخه عن الأزرقي، وإذا كان الأمر كما ذكروا فيكون مذهبه في ذلك تقليداً للأزرقي لا أكثر ولا أقل.
والمحتجون بقول النووي يؤولون العبارة على غير مقصدها وهذه عبارة النووي: "الحجون بفتح الحاء وبعدها جيم مضمومة وهو من حرم مكة زادها الله شرفاً، وهو الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد"، (ص 81)، تهذيب الأسماء واللغات. وقوله: "على يمينك" أي المسجد لا الحجون، وإذا عرفنا أن النووي من أهل القرن السابع الهجري، وأن الشارع كما أسلفنا، أدركنا أن هذا التأويل لا محل له.
والمحتجون بقول الفاسي يبنون حجتهم على الجملة الآتية: "الحجون المذكور في حد المحصب هو جبل بالمعلاة فيه مقبرة أهل مكة على يسار الداخل إلى مكة ويمين الخارج منها إلى منى على مقتضى ما ذكر الأزرقي والفاكهي لأنهما ذكراه في شق معلاة مكة اليماني وهو الجهة التي ذكرناها، وإذا كان ذلك فهو يخالف ما يقوله الناس من أن الحجون الثنية التي تهبط منها إلى مقبرة المعلاة، وكلام المحب الطبري يوافق ما يقوله الناس، ولعلَّ الحجون على مقتضى قول الأزرقي والفاكهي والخزاعي الجبل الذي يقال فيه قبر ابن عمر رضي الله عنهما، والجبل المقابل له والذي بينهما الشعب المعروف بشعب العفاريت" (ص 115، ج1)، من العقد الثمين، نسخة الماجدية.
والذي يظهر من الجملة، أن القسم الأول لا يعبر عن رأي الفاسي، بل كل ما يقال أن الفاسي بنى تحديد "على يسار الداخل إلى مكة والخارج منها إلى منى" معتمداً على ذكر الأزرقي للحجون في شق معلاة مكة اليماني، وقد ناقشنا هذا الرأي سابقاً، ويظهر أن في قلب الناس شيئاً من هذا التحديد، لأن قوله: "على مقتضى الخ" يؤيد عدم تحمله تبعة ذلك التحديد.
أما الجملة التي تعبر عن رأي الفاسي في الحجون فهي تبدأ من قوله: "ولعلَّ الحجون.. الخ" وهذا القول يكاد ينطبق تمام الانطباق على تعريف الأزرقي الذي اعتمدنا عليه، وكل ما في الأمر من اختلاف، يرجع إلى أن الفاسي اعتبر الحجون الجبل المشرف على قبر السيدة آمنة وما بينهما لأن الجبل الأول وهو الجبل الذي يقال إن فيه قبر عبد الله بن عمر(2)، والجبل الثاني هو المشرف على قبر السيدة آمنة، والشعب الذي بينهما هو شعب الجزارين؛ الذي أطلق عليه الفاسي شعب العفاريت لشهرته بذلك في عصره، والذي يؤيد أن الفاسي لا يدين في الحجون بغير هذه النظرية ما ذكره في كتابه شفاء الغرام. وسيأتي ذلك في قسم (تاريخ التحريف والتنبيه عليه).
مقبرة مكة كانت تقتصر على القسم الأعلى حتى عام 1086هـ وفيه أصلح القسم الأعلى وأنشأ القسم الأدنى يقول السنجاري، ص 634 نسخة الماجدية؛ "وفي يوم الأربعاء 29/4/1086هـ شرع الشيخ محمد في هدم قبور المعلاة وبنى مقبرة خاصة جعل بها أربع جدران وفصلها تفصيل الشطرنج ، وجعل لها بابين وهتك بذلك حرمة الأموات وفي ذلك قول الشاعر:
تكفل ابن سليمان أذية من
قد وحد اللَّه ممن حل في الحرم
فحين عم الأذى الأحياء منه غدا
مفتشاً لأولى التوحيد في الرمم
طريقة من شقاه اللَّه ما تناقلها
أهل التواريخ من عرب ومن عجم
وابن سليمان هذا هو محمد بن سليمان المغربي تولى النظر في أمر الحرمين وإصلاحهما والتصرف فيهما في أواخر سنة 1082هـ. وكان مولعاً بالإصلاحات وإليه يرجع الفضل في إصلاح كثير من المشاعر وطرق الحج بين مكة وعرفة، أزال كثيراً من البدع والخرافات، وشدد في منع ضرب الدفوف في الموالد فنقم عليه الكثير.
والحقيقة أن الرجل كان مصلحاً إلا أن بعض أعماله فيها شيء من التعصب والعنت، ومن أراد الوقوف على حياته فليراجع تاريخ السنجاري إذ فيه ما يشفي الغليل.
وفي أواخر محرم 1098هـ بدأ الوزير عثمان الحميدي في بناء حائط على المقبرة، وجدد محمد رشيد باشا بناية السور، ولم أعثر على تاريخ العمارة إلا أنها في عام 1289هـ، أو قبله لأن الحضراوي ذكر في تاريخه أن محمد رشيد باشا توفي سنة 1289هـ، وجدد عمارته أيضا عثمان نوري باشا صاحب الإصلاحات العظيمة في الحجاز.
إن القول بأن قبر عبد الله بن عمر في الجبل المشرف على قبر السيدة خديجة لا دليل عليه، والثابت الصحيح هو ما رواه الأزرقي بسنده، أن قبر عبد الله بن عمر بن الخطاب في ثنية أذاخر التي كان يدفن فيها آل أسيد بن أبي العيص، وروى أن سبب دفنه هناك نزوله على عبد الله بن أسيد في داره، وكان صديقاً له، فلما حضرته الوفاة سنة 74هـ، أوصاه أن لا يصلي عليه الحجاج يومذاك أمير مكة، فصلّى عليه عبد الله بن خالد بن أسيد ليلاً ودفنه عند باب دارهم في مقبرتهم. وثنية أذاخر هي التي بالقرب من الخرمانية بالمعابدة، والقصر الذي أمام قصر جلالة الملك من الخرمانية، وكل ما يقال غير هذا عن قبر عبد الله بن عمر فلا صحة له، واعتقاد العامة اليوم بأن قبر ابن عمر في الشهداء لا يستند على شيء من الصحة، وأظن أن هذا الاعتقاد لم يظهر إلا من بعد القرن العاشر، لأن ابن ظهيرة ذكر في تاريخه رواية الأزرقي، ورواية الفاسي، ثم قال: "ولهذا والله أعلم خفي قبره" ص 349، ولو كان هناك اعتقاد من عامة أهل ذلك العصر بوجود قبر ابن عمر بالشهداء لكان أثبتها، ولكن الحقيقة أن القبر كان خافياً على الناس في عصره، فقال جملته السابقة.