قلت(1) -وإني لآسف على ما بدر مني- في الهامش الثاني من القسم الرابع من بحث المياه المنشور بالعدد 521 من جريدة أم القرى ما نصه: "أما الآن فقد تغير ذلك الوضع، فأصبحت المياه تسير من القبة في قناة واحدة حتى تصل إلى المقسم الذي فوق الطريق المرتفع على يسار الداخل إلى مكة، والطريق هذا هو الحجون".
وكنت يومئذاك معتقداً صحة هذه النظرية، ولكنني لما قمت بالبحث الدقيق اتضح لي أني واهم في نظريتي، فاوجبت علي الحقيقة تصحيحها، وإني أسحب كل ما قلته عن الحجون و أثبت ما يأتي بدلاً عنه:
أهمية تاريخ الأزرقي:
أبو الوليد الأزرقي أول مؤرخ اعتنى بأمر مكة، وهو إلى جانب ذلك المؤرخ الوحيد الذي اعتنى بخططها وكل المؤرخين الذين عقبوه عالة عليه في أخبار مكة و مآثرها وتخطيطها، وكم كان جميلاً جداً لو أن تخطيط الأزرقي سار على طريقة منظمة إذن لكان من السهل علينا اليوم أن نسمي كل بقعة في مكة باسمها القديم، والذي زاد الأمر صعوبة تحوير أسماء الأماكن وتبديلها بتقادم الزمن، وإهمال مؤرخي مكة الاعتناء بذلك - لهذا كله فإن الباحث اليوم يعاني صعوبات جمة عندما يقوم بشيء من البحث، وقليل هم الذين يصيبون كبد الحقيقة. وأنها لعقبات اعترضتني أثناء بحثي عن الحجون، زادها تضارب الروايات وتفسير بعضها على غير مقصدها، زد على ذلك التعقيد في التعبير والتفسير، واخترقت كل ثنية وشعب وجبل جاء في البحث، وكنت أطبق ما أجد من تعاريف على ما أراه من آثار، وإني مدين للمكتبة الماجدية وأصحابها بأعظم منة، إذ هي المكتبة الوحيدة التي استطعت أن أجد في كنوزها ما يشفي الغليل.
الحجون واللغة:
في كتب اللغة: الحجون مأخوذ من حجن، وحجن بمعنى عطف، والتحجن: الاعوجاج، وغزوة حجون: إذا أظهر صاحبها غيرها، والرجل الحجون: الكسلان.
واختلف اللغويون في لفظها، فذهب النووي والطبري، والجوهري، وصاحب المطالع، ولسان العرب، والتاج: إلى أنها بفتح الحاء وضم الجيم، وروى الأخير أن شيخه كان يعيب على من يضم الحاء ويسميهم المتشدقين. وذهب ابن خلكان وابن فهد إلى أنها بضم الحاء والجيم، أما الأزرقي والفاكهي والخزاعي والفاسي، فلم يتعرضوا لذلك. وكلهم مجمعون على أن آخره بالنون، وعلى هذا فإن نطق العامة له باللام تحريف لا أساس له.
المؤلفون والحجون:
ذهب المؤلفون مذاهب مختلفة في الحجون، وكانت تعاريف بعضهم فيها شيء من النقص أنتجت أن أول البعض رواياتهم بتأويل يخالف قصدها الحقيقي، فبينما نجد رواية يؤول معناها بأن الحجون يقع على يمين الصاعد، نجد ثانية تقول: بأنه يبعد عن مكة، وثالثة تقول: بأن الحجون ثنية كداء، ورابعة: بأن الحجون مشرف على مسجد الحرس (2) وبأصله شعب الجزارين، فكان لزاماً علينا أن نستعرض الروايات الأربع ونناقشها لنعرف مبلغها من الحقيقة.
الرواية الأولى:
إن الذين يقولون بتلك الرواية يحتجون بقول الأزرقي، والخزاعي، والفاكهي، والنووي، والفاسي وحجتهم نتيجة تأويل ضعيف، والمعتمدون على الأزرقي يقولون بهذه الرواية لكونه ذكر الحجون في شق معلاة مكة اليماني، وهو تعليل ترد عليه رواية الأزرقي نفسها إذ جاء فيها: وبأصله (أي الحجون) "في شعب الجزارين كانت المقبرة في الجاهلية" وعرف الأزرقي شعب الجزارين بشعب أبي دب، وقال فيه القبر المنسوب للسيدة آمنة، وقبر السيدة آمنة في شق معلاة مكة الشامي، والحقيقة أن الأزرقي لم يسر في تخطيطه على طريقة منظمة، فأنت بينما تجده يذكر لك مكاناً في اليمين يذكر لك آخر في الشمال، والذي درس تاريخ الأزرقي دراسة وافية يدرك ذلك، ثم هناك ملاحظة يجب أن يلتفت إليها، وهي أن علو الشارع العام الذي تمر به اليوم كان أكثر جبلاً وقد ذلل غير مرة، ويمكننا إدراك ذلك إذا اختبرنا المقطعة التي تقع تحت الصناديق المقابلة لقهوة البلدية.
أما المحتجون بقول الخزاعي فإنهم يحرفون الكلم عن مقاصده، وهذا ما يقوله الخزاعي: "الحجون الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلا مكة على يمينك وأنت مصعد وهو أيضاً مشرف على شعب الجزارين" (ص 388، طبعة أوروبا). وهم إنما يتوهمون أن المقصود (الجبل) من قوله على يمينك وهو تحريف، ومقصد الخزاعي كما يفهم من سياق الجملة مسجد الحرس، يؤيده إتيانه بضمير الفعل عندما أراد الرجوع إلى الحجون، وقوله: مشرف على شعب الجزارين "يبطل كل تأويل". (يتبع).
مسجد الحرس، هو المسجد المعروف اليوم بمسجد الجن، وسبب تسميته بالحرس على ما ذكر الأزرقي في أن صاحب الحرس كان يطوف بمكة فإذا أتى إليه وقف عنده حتى يتوافد إليه عرفاء الجيش من شعب ابن عامر، وثنية المدنيين، حتى إذا ما اجتمعوا رجع منحدراً، وبقي مشهوراً بمسجد الحرس إلى القرن العاشر بدليل قول ابن ظهيرة: "وشهرته بمسجد الحرس مستمرة إلى وقتنا هذا" ص 332. وأطلق عليه الأزرقي غير مسجد الحرس مسجد البيعة نسبة لموضع الخط الذي خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ليلة استمع إليه الجن وبايعوه على رواية بعضهم، وسماه أيضاً مسجد الجن، نسبة إلى الجن المبايعين، وعمارته الحاضرة ترجع إلى سنة1113هـ، كما هو مثبوت في الجدر الذي بجهة العقد الأيمن، ويظهر أنه عمر في عام 1052هـ كما تدل على ذلك الكتابة الموجودة على حجر في الجهة اليمنى لمستقبل خزانة المسجد، وهي مطموسة وإنما التاريخ واضح جلي وهو كما يلي: "قد تم في بدء شعبان عام الاثنين والخمسين بعد الألف عام" وقد كانت على المسجد قبة هدمت بتاريخ 20/3/ 1343هـ.