شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مشهد عظيم في المسجد الحرام (1)
أتيح لي أن أؤدي صلاة الجمعة في غرفة النداء بالمقام الشافعي فوق سطح زمزم تجاه باب الكعبة وكنت صعدت إليه خصيصاً لأستملي من فوق تلك البناية المشرفة ما تجيش به نفسي من تأثير ذلك المشهد المحفوف بالجلال والوقار، وكانت الساعة الخامسة حين استويت على دكة جُعِلتْ ليرتقيها رئيس المؤذنين فيبدو من ارتفاعها بوجهه وسمته ويرتل الآذان فيتبعه المؤذنون في المنائر السبع الشاهقة العلو التي يتجاوب صداها في شعاب مكة وشعافها ويرجع تاريخ بنائها إلى قرون طويلة تتناهى في القرن الثاني إذ تجد بعضها من آثار أمراء المؤمنين في الدولة العباسية كالمنصور والمهدي والرشيد.
كانت الغرفة غاصّةً بالمصلين والناس فيها ما بين مطرق يتفكر ويتذكر، وتالٍ للقرآن متذرع بالإيمان تلوح على محياهم سيما الخشوع والاستكانة يرنون بأبصارهم إلى "البيت العتيق" ويستعرضون من آيات الله وحكمته في وضعه وجعله مثابة للناس وأمناً ما يحيط بخيالهم فلا يعودون يشعرون بشيء من مشاغل هذه الحياة وأتعابها. وقد توجهوا إلى الله وتمسكوا بحبال مرضاته ولم يكن يملك عليهم مشاعرهم وقلوبهم في تلك الساعة الرهيبة - وهم بين يدي فاطر السموات والأرض - إلا استدرار المغفرة واكتساب المثوبة وتنمية الرجاء في عفوه وإحسانه وتزجية الثناء والشكر على إنعامه وامتنانه.
هنالك تخطيت الصفوف إلى نافذة تشرف على أروقة المسجد وساحاته الكبرى ومنبره الرخامي البديع الصنع. فما عتمت أن أبصرت مشهداً ملأ جوانب نفسي روعة وجمالاً وأخذت أجيل البصر يمنة ويسرة وأمام وخلف فما أن تقع العين إلا على زمر من الخلق أجسامم متلاصقة تلاصقاً لم يترك من فرجة ولا خلل، وكل قد تأنق في لباسه، وأختار أبهى الأردية واشتمل بأزهى ما يدخر من مظاهر التجمل وقد تراصت الصفوف واستوت على أتم نظام، وأفضل ترتيب، كانت الشوارع تسيل بوفود المصلين من بطن مكة وبطاحها وأبواب المسجد تنحدر بمثل الشلال من الرجال فيأخذ كل امرئ مكانة بين إخوانه، وما أن جاء وقت الصلاة حتى كان المسجد الحرام على سعته ليس فيه مقدار موضع قدم إلا وعليه من شغله بعبادة الله. وكان أقل تقدير لذلك الجمع الحاشد مائتا ألف أو يزيدون كلهم في صعيد، وقد امتلأت القلوب بما أترعها من الفرح والسرور وتبسطت الوجوه وافترت الثغور عما تكنه هذه القلوب فما ترى وجهاً عابساً ولا جبيناً مقطباً فكان لذلك من الأثر والروعة في القلب ما لا يستطيع لسان ولا قلم أن يفصح عن حقيقته.
حقاً لقد أورى هذا المنظر عندي زناد التفكير وذهب بي التصور إلى أبعد مدى وما كان أشد ابتهاجي وغبطتي حينما رأيت في هذه الطوائف العظمى من أواصر الحب، وروابط الدين ووحدة اليقين ما اضمحلت تجاهه فوارق اللغة والزي والوطن وظهروا بجموعهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً والقلوب تجيش بالأمل لاستعادة عزة المسلمين وكرامتهم في كل أرض وطئتها سنابك خيلهم ورفرف في آفاقها علم التوحيد.
رجعت لنفسي في تلك اللحظة وأخذت أقابل ما كان لهذه الأمة من سلطان وعلم وأثر في المعمور والأسباب التي مدت لها في بلوغ مركزها العظيم وفي تلك العصور وبين ما أصبحت فيه من الحالة البائسة من الخنوع والجهل والدثور، فوجدت علة العلل ومصدر المصائب - أعراض الخلف عما كان معتصماً به سلفنا من إخلاص القلوب في طاعة الله وعبادته وأتباع السنن القومية والتمسك بالأخلاق الطاهرة والشجاعة الصادقة والجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتسابق في حلبات التقدم والنمو والازدهار، وقد ركن الخلف إلى الشرك والخرافات والبدع وأتباع الهوى وطاعة الشيطان والسكون في ظل عيش خير منه التواري تحت أطباق الثرى واستسلامهم لأعقاب أعدائهم من سلالات الفرس والروم الذين كادوا للمسلمين فوسعوا شقة الخلاف وأوقدوا نار الشقاق وجاءوا ببدع لا يجهل واضعوها أنها سفسطة وهراء ولكنهم يريدون النقمة ممن دك عروش أكاسرتهم وأقض مضاجع قياصرتهم فبلغوا ما سولت لهم شياطينهم من شق العصا واشتجار الفتنة في مختلف النواحي والأقطار، وذلك على حين غفلة من المسلمين وعدم اكتراث بالخارجين وليس هذا موضع التفصيل في ذلك وإن جاء استطراداً لمكان العبرة فيه.
ولو أن ذلك الحفل الحاشد والجمع العظيم كان على مثال ما كان عليه الصحابة الذين توفاهم الله وهم أقل عدداً من هذا الجمع من إيمان صادق وتوحيد لله خالص، وقلوب مرتبطة مجتمعة كاجتماع هذه الأجسام وصدق في القول والعمل وحرص وغيرة على دين الله لما وقفت دولة مهما كانت صولتها وقوتها وعددها وعديدها أمام أولئك المؤمنين، ولكن آه، إننا نضطر أن نقول والأسف يقطع القلوب أنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل.
ها أنا ذا أرى الخطيب الإمام على منبره وقد أخذ بيده عصاه وانتصب في مكانه ثم بدأ فحمد الله وصلى على نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ثم هدر بما تفيض به جوانحه من تذكير بالله وأيامه في العصاة وتحطيمه للجبابرة والطغاة، وترغيب في طاعة الله وشكر نعمته وحث على العمل لبلوغ جنته وتلا من آيات كتاب الله الكريم ما استولى على القلوب بانسجامه وعظيم بلاغته، وما ملك المشاعر ببرهانه الناصع وقوى حجته، وللمسجد بعد روعة الخاشعين وعلى الناس سكون القانتين المخبتين وما أتم الخطيب خطبته حتى دوى المسجد باستغفار المستغفرين وتسبيح المسبحين وتهليل المهللين وقد تعالى النداء بإقامة الصلاة من قبة رئيس المؤذنين فرددته أصوات المكبرين من مقام الحنفي الذي خلف حجر إسماعيل: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
قام الإمام الشيخ أبو السمح على سجادته التي بسطت له على يمين باب الكعبة المشرفة فارتفع صوته بتكبيرة الإحرام ثم صوت المكبرين يبلغون الجمع العظيم ثم تلا الفاتحة وسبح اسم ربك الأعلى في الركعة الأولى وفي الثانية بأم الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية بصوت يمثل بنبراته الطبيعية ومقاطعه الفطرية أزكى النفوس سلامة قلب وطهارة وجدان وحلاوة إيمان فلا تصنع ولا تكلف ولا تقعر ولا تعسف بل انسجام وسلاسة وانطلاق مع السجية وقصد في الجهر يجمع إلى ذلك مظهراً هو الذي كان يتجلى به أئمة المسلمين في إبان نشأة الإسلام وسطوع ضيائه.
ولن يبلغ القلم في الوصف مهما أوتي من الجرأة والمقدرة والانبساط تصوير ما كان يسطر على نفوس المقتدين حين تتغلغل في نفوسهم معاني الذكر الحكيم بطلاوتها في أعماق أفئدتهم فلا يكاد المؤتمر يرتاب في أنه في حظيرة من القدس وكذلك كان فالمكان بيت الله والزمان توقيته والكلام وحيه والصلاة أمره والخشوع له والتوجه إليه - إلا أنها لنعمة جلت عن التقدير وحالة امتنع تصويرها على الكاتب القدير وأهون عليه أن يدعي أنه استطاع أن يساجل جريراً من أن يزعم أنه وفيٌّ للقارئ بالتعبير.
ومما يسترعي السمع بوجه خاص ذلك التأمين الذي يعقب الفاتحة أقسم برب الفلق أنه أصدق دليل يصدر عن النفس المسلمة المخلصة بكليتها على الرغبة في الهداية والرهبة من الغواية يشترك مائتا ألف لسان أو يزيدون في لحظة واحدة برفع عقيرتهم بكلمة "آمين" علام؟؟ على هذا الدعاء الذي علمهم إياه واختاره رب العالمين اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الذَّيِنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّيِنَ.
على هذا الدعاء وتحقيق وسلوك طريقه، يناجي المصلون ربهم وخالقهم في بحبوحة من الأمل وأرجوحة من الوجل وما كان الله ليضيع إيمانهم وقد أنعم عليهم بالإسلام وهداهم إلى سبيله القويم.
تأمل معي في هذه النبرات المتباينة وأنظر كم هو الجنس مختلف الأصول، واللسان متباين القول والمنبت متغاير الشروق والأفول وكيف جمعت الكلمة الإسلامية بين هذه الألوان المختلفة وجعلت منها كتلة واحدة هي الجماعة الإسلامية؟ فمن شرقي إلى غربي ومن عربي إلى أعجمي كلهم يحب أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ويقف ضارعاً ويركع خاشعاً ويسجد خاضعاً لمن بسط الأرض ورفع السمـاء ذلك هو المقصود بالذات من كل ما أشرقت عليه الشمس وأضاء فوقه القمر.
انتشر الناس في ساحات المسجد فهم بين طائف حول البيت ومتمسك بأعتابه ولائذ بأثوابها ومقبل للحجر الأسود وسائر إلى داره مهنئ لإخوانه وأهله وأقاربه وعلى الوجوه رونق وصفاء، وفي الثغور افترار، وفي القلوب عزيمة على الإحسان وندم على التفريط ورجاء في الغفران وما أن يلاقي الرجل أخاه حتى يبدؤه بالسلام أتباعاً لهدي خير الأنام وقد جاء في الحديث الصحيح "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم" رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه كلمة لم أرد من إرسالها مجرد الوصف وإنما قصدت إلى معنى أسمى ذلك أن الاستمساك بأصول الشريعة والإنكار على البدعة والتحلي بمكارم الأخلاق وبث روح المودة والإخاء بين الطبقات المتباينة والاندماج في سلك الوحدة الإسلامية والتحلي بأدابها الجميلة - كل ذلك قد أخذ يبدو للعيان في هذا البلد المقدس بما تبدد من سحب اوهم وانجلى من غيوم التفريق فقد ظهر الحق وزهق الباطل هاهو الشعب العربي يجتاز كل عقبة تعترض مسيره إلى غايته في الحياة كما يحبه الله ويرضاه إله واحد ودين واحد ووطن واحد ومصالح مشتركة ولا شك أنه إذا بلغ مراده وانتهى إلى شوطه سيقوم بقسطه من الحضارة والتمدين اللذين بدأت طلائعهما تظهر في آفاق الجزيرة. وناهيك بالحركة العلمية المتواصلة التي نيط بها تخريج أوفر عدد في أقرب وقت بأشد ما تمس إليه حاجة البلاد من العلوم والفنون.
وحق عليّ وعلى كل عربي مخلص لدينه وبلاده وأمته أن يدعو الله تعالى بطول بقاء صاحب الجلالة السعودية الذي يعمل على إنهاض شعبه بصورة عملية وفي هدوء، واستبصار ساهر الجفن متوقد الذهن وما هو في صمته وكلامه وكده واستجمام إلا أحد الأفذاذ الذين لا تجود بهم الأصلاب إلا في إبان الحاجة القصوى إلى أمثالهم.
وأسأله جل شأنه أن يمد في حياته حتى يشهد من آثار سعيه في إسعاد رعيته ما يثلج صدره ويقر عينه ويستهين معه كل مشقة تكبدها في هذا السبيل، وما ذلك على الله بعزيز..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :364  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 622 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.