شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تطور مكة العلمي في العهد السعودي (1)
إننا إذا استعرضنا حقب التاريخ التي تسبقنا رأينا خلالها صفحات قاتمة تستوقف النظر وتستثير الشجون، فقد حفلت بالأحداث والمفاجآت ذات التأثير المباشر في حياة الشعب عامة وفي تطور الحركة العلمية والعمرانية تقدماً وتأخراً ونشاطاً وركوداً لا يمر بها الباحث دون تريث واستبصار.
وقبل أن نعالج موضوعنا من حيث الخطوات التي أمكن لنا أن نجد السبيل أمامها معبداً في هذين الحقلين الخطيرين. لا بد لنا من ربط السلسلة فيما كانت عليه الوضعية بين فترتي الماضي والحاضر في إيجاز واقتصار.
كانت العقود الأولى من هذا القرن في الناحية العلمية ذات فتوح لم يكن للبلاد عهد بها فأنشئت إبانها وخلالها المدارس التي يصح نسبياً أن توصف بأنها الأولى من نوعها ولا أخص بذلك (مكة) وحدها - وإن كانت أوفر نصيباً من سواها من أمهات المدن في الحجاز، وأخذت تبث في الناشئة روح الدرس والتعليم وما فتئت أن أخرجت من طلابها رجالاً ينتمون إلى أشياخٍ ذوي مكانة مرموقة في المجتمع، ولهم قدم راسخة فيما تولوا تدرسيه في تلك المدارس التي دأبت على أداء مهمتها رغم جميع العقبات والصعاب.
هؤلاء وأولئك من طلبة وأساتذة هم الذين استطاعوا أن يشغلوا كثيراً من مناصب القضاء والتعليم في العاصمة وسواها حتى الآن. وإن كانت المدة بين تخرجهم وأشغالهم هذه المناصب قد تطاول بها الزمن حتى لمسنا الفراغ يتسع نطاقه كلما استأثرت المنية بفريق منهم أو أثقلت السنون كواهل الآخرين.
وكان إلى ذلك الخصب في طلبة (الحرمين الشريفين) من وطنيين ومهاجرين وأولئك الذين لم يكن لهم عمل ولا ديدن إلا مواصلة الدراسة في حلقات تكتظ بالمئات منهم ليل ونهار سواء ما كان منهم وعظاً وإرشاداً، أو فقهاً وحديثاً وتفسيراً وكل ما يمت بصلة إلى العلوم الدينية البحتة أو الرياضة المختلفة.
ولست أزعم أن كل ذلك كان الغاية التي لا مجال بعدها بالنسبة لبلاد يجب أن لا يزاحمها في مقامها العلمي أي بلد مهما علا صيته واتسعت رفعته وتمكن من قلوب أهله الشغف بالعلم والانكباب عليه والاختصاص فيه.
ولكن.. هل حافظنا على ذلك المستوى الذي كنا ولا نزال نراه دون ما يليق بمهابط الوحي ومهوى أفئدة الملايين من المسلمين؟ وهل كانت برامج التعليم وافية بكل ما تدعو له الحاجة والمصلحة؟ وهل كان التوجيه في عنفوانه منصرفاً في جملته وتفصيله إلى أهداف محدودة تقوم الدعوة إليه (خالصة مخلصة) في مقدمة ما يرجى إليه ويحرص عليه. أم كان له من الشوائب الأخرى ما أخذ به ذات اليمين وذات الشمال؟
كل هذه الأسئلة لا يجرؤ على الإجابة عليها إلا من لا يفرق بين ما يثير العجاج واللجاج وبين ما يلزمنا أن نقتطف منه الثمرة يانعة جنية دون جدال أو مراء.
وأذن الله جلت عظمته وتعالت حكمته أن تستقبل البلاد عهدها الزاهر في ظل الحكم الحاضر فاستوعبت الدوائر القضائية والعلمية كلاً من كان متأهلاً للعمل في حدود معرفته وكفاءته واختصاصه، والتهمت الدوائر والدواوين الرسمية كل من أسعفته درايته - ومواهبه ودراساته ومطالعاته بأن يكون قادراً على تصريف العمل في وظيفته التي لم يكن له سابق عهد بها في الغالب الأعم.
وهنا تبدأ المقارنة بين اختيار كل من الطائفتين هذا من الجانب أو ذاك فماذا حدث في هذا الاختيار؟
لقد كانت الدواعي كلها متضافرة على الأغراء في جانب الوظائف القلمية رغم كل ما تبذله الحكومة من جهد في الاستهواء إلى الجانب العلمي المحض والديني على وجه الخصوص، فرأينا الصفوة الممتازة من الشباب تتواثب تواثباً نحو المكاتب والمناصب مؤثرة إياها على كل ما يمكن أن ينتظرها من جلال ووقار وميزة واعتبار ورغد وهناء في المستقبل القريب أو البعيد في الحقل العلمي البحت وقد يكون من أهم الأسباب في ذلك أن الحياة نفسها قد أصبحت اليوم غيرها بالأمس، فهي لا تهمل أحداً في قوته ومطالب عيش وضروريات أسرته حتى يفرغ من انكبابه على درسه ثم يتخذ سبيله إلى السوق ليمارس البيع والشراء ويربح من كسبه وعرق جبينه، ما يسد به رمقه ويقيم أوده. وإن كان ذلك لا يتعذر على القلة النادرة كما كان هو شأن السابقين الأولين من السلف الصالح، لقد كان الطلبة فيما مضى فيما في ظروف لا نسبة بينها وبين الظروف التالية من حيث الرخص والغلاء وكانوا إلى ذلك أكثر قناعة وأميل إلى الزهد فيما يتنافس فيه المترفون، وكانوا لا يعدمون الإعانة في قليل أو كثير مما يحتاجون إليه من هنا وهناك
من ذويهم تارة ومن زملائهم الأثرياء تارة أخرى وكانوا بين أمرين لا ثالث لهما، فإما الجهل المطبق، والعمل المرهق، وإما العلم في أدنى منازلة، والأمل في أصفى مناهله (وين يشتري ذا علة بصحيح).
وأن تعجب فعجب كل العجب أن تجد الحرص متوافراً بأوسع معانيه في هذا العهد الزاهر من قبل جلالة المليك المفدى مباشرة على أن تنهض البلاد نهضة دينية خليقة بمقامها بين أقطار العالم، وملائمة لمكانتها في قلوب الموحدين ومتصلة بماضيها العريق يوم كانت (المنهل) الأول الذي يتلقى عنه فقهاء الأمصار وعلماء الآفاق كل ما نشروا ألويته فيما وراء البحار من علوم التوحيد والفقه والحديث والتفسير وما إلى ذلك من الثقافات العالمية الممتازة، وأن تجابه مع هذا الحرص والدأب الدعوة من قبل جلالته وما هو محل الاستغراب والحيرة في آن واحد من قبل سواد الشعب ومثقفيه على الخصوص فإن الإقبال على هذا النحو وفي هذا السبيل لم يبلغ أي مستوى نغبط عليه - فما هي العلة يا ترى؟
إن السبب الرئيسي في ذلك ينحصر في نظر المفكرين في أن الناس أخذوا يختارون لأنفسهم ما هو أدنى إلى الرفاهية وراحة البال فلا كد ولا نصب، ولا مشقة ولا تعب، إنهم إذا حاولوا الالتحاق بالأقسام الدينية كبرتهم (عرق القرابة) في الدراسة والتحصيل ثم هم بعد ذلك متعرضون لاختيار حجة لا هوادة فيها ومطالبون بواجبات هامة لا مناص منها وهم لم يطمئنوا بعد إلى أنهم سيجدون من رغد العيش وبحبوحة الرزق ما وجده ويجده سواهم من طوائف الموظفين وغيرهم من عامة المحترفين، وعندي أن في هذا التصور خطأ لا بد من تصحيحه حالاً، ولا بد من تدارك ما فات والمبادرة إلى سد النقص الملموس في هذه الناحية، وليكن القصد الأول قبل كل شيء وجه الله سبحانه وتعالى وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وأنه لقادر على إنجاز وعده - وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ (2) .
وكل ميزة وكرامة يمكن أن تتوافر لمن يحمل أمانة العلم الديني ولمن يعمل بما علم ولمن يعلم الناس الفرائض والسنن ولمن يدعو دعوة الحق ويرفع عقيرته بالوعظ والإرشاد لهي اليوم أقرب إليه من حبل الوريد في ظل جلالة الملك عبد العزيز الأول، أمده الله بنصره وتوفيقه وفيما يختص به جلالته العلماء وطلبة العلم من تكريم وتشريف - وعطف وتقدير أكبر مشجع وأعظم برهان على ذلك. إن الجماهير الغفيرة من الأميين الذين لا يستطيعون لكبر سنهم أو ضرورة عملهم أو تطلب أرزاقهم أن ينخرطوا في صفوف المدارس والذين يتطلعون إلى من يعظهم ويرشدهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويبصرهم بأمور دينهم وأحكام شريعتهم وأن هؤلاء وغيرهم من قصاد الحواضر ووفاد الحج والمناسك - كلهم في حاجـة قصوى إلى الحلقات التي يجب أن تعج بها المساجد في أعقاب الصلوات ولا سيما في الصباح الباكر وفيما بين العشاءين وبعدها - وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن الله سبحانه وملائكته وأهل سمواته وأرضه حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).
وليبارك الله في أولئك النفر الذين يواصلون الليل بالنهار في ملء هذا الفراغ وأنهم على قلة عددهم لأحق خلق الله بالشكر والثناء والغبطة والرضاء والله لا يضيع أجر العاملين. إننا نشكر الله تعالى على مننه الكبرى أن هيأ لنا في هذا العصر السعودي الرغيد أن نرى البعثات المتنوعة والمدارس العليا والثانوية والابتدائية والتحضيرية والمدارس العسكرية واللاسلكية والشرطة والمصانع والحقول والشركات وأن نستخدم (أجهزة الراديو) والكهرباء والسيارات والطائرات وكل ما يعد من مظاهر العمران الحديثة. ولا ينبغي أن نتجاوز موضوعنا قبل أن ننوه بالجهود الكبيرة والنتائج الطيبة التي قامت بها وحصلت عليها (دار الأيتام والصنائع) و (المدارس الليلية) التي أنضم إليها عدد عظيم من الطلبة الذين يعز عليهم أن لا تسمح لهم أوقاتهم بالدراسة خلال النهار وقيامها لهم بمهمتي التثقيف والتهذيب، وأنه لمشروع نافع مفيد يثاب عليه كل من فكر فيه وساعد عليه ودعا إليه. غير أنه على نفعه وفائدته لن يستوعب الجميع ولا يغني عما يجب أن يتحقق في حلقات المساجد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر آداب الدين وشريعة الإسلام وعقائد التوحيد وأحكام الحظر والإباحة وتعليم العامة وما ينبغي أن لا يجهلوه ويجب أن يعلموه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :456  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 621 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.