شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
3- الخطَابَـة في أدَبِ عَبد العَزيز الرّفاعِي
الخطابة فن أدبي نثري عرفه العرب في الجاهلية بصورة مغايرة لما كانت عليه الخطابة في صدر الإسلام. ثم توسعت وتنوعت أساليب الخطابة وأغراضها فبعد أن كانت تسير على نهج سجع الكهان اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بالخطابة فهي إحدى الدعائم لدعوة الناس إلى الإسلام، ووضع البراهين القاطعة أمامهم لإقناعهم وكانت الخطابة في صدر الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين وكذلك العصر الأموي والعباسي تقوم على الارتجال ولم يلجأ الخطيب إلى الخطابة المقروءة إلا في بداية العصر العباسي الثاني عندما ضعفت اللغة العربية بناء على ضعف ولاة الأمر في كثير من الأمم وبدأ الجهل يدب في جسد الأمة العربية وتمكن من الوصول إلى سدة الحكم، وكثر اللحن بين الناس وغلبت العجمة فاضطر أئمة المساجد إلى الاعتماد على الخطب المكتوبة أيام الجمع والأعياد والحج.
وفي عصرنا الحاضر تأخذ الخطابة طريقين: إحداهما الطريق الارتجالي ويعتمد على قوة لغة المتحدث وتمكنه من الطلاقة والبلاغة ومعرفة قواعد اللغة ويعتبر عبد العزيز الرفاعي أحد روّاد هذا الطريق فهو إن سار فيه لا تخيفه معوقاته، ولا ترهبه أكماته ولا أجماته يقود متلقيه بطمأنينة حتى يوصلهم شاطئ الأمان ملقين إليه أسماعهم وأبصارهم يرتوون مما يقول، ويهتفون لما يقول، لا يميل إلى الترداد والتكرار أو التنحنح والاعتذار، تنطلق كلماته من بين شفتيه هادئة نشوى بطيب أخلاقه، متلحفة بنصاعة بيانه عليها أكاليل من نور وكثيراً ما شهدته مرتجلاً في محافل عدة يطلب منه فيها أن يتناول موضوعاً من المواضيع في البحث والحديث عنه فيجيد ويقنع، ويروي ويشبع ويفيض ويبدع، ويسكر العقول والقلوب ويمتع.
والطريق الثاني لفن الخطابة في عصرنا الحديث، هي الخطابة المكتوبة ويندرج تحت لوائها المحاضرات المعدة سلفاً والتي يتناول فيها المحاضر موضوعاً بالدرس والتمحيص، والبحث والتنقيب عن كل ما يمت إليه بصلة مما يتطلب منه الرجوع إلى المصادر التي يمكنه أن يسترفد بها في بحثه وأغلب المحاضرين يميلون في هذا الجانب إلى المحاضرات المكتوبة ولا ننكر أن هناك قلة من المتبحرين في فن الخطابة قادرين على أن يحاضروا ارتجالاً لكن وقوع البعض منهم في دائرة الخطأ والخطل والحظر محتمل احتمالاً كبيراً فالألسنة ليس لها ألجمة تحول بينها وبين الكلام، ووقوع المتحدث في مثل هذه الأخطاء القاتلة قد تحقق صدق النصيحة التي
وردت في قول الشاعر:
مت بداءِ الصَّمْتِ خيرٌ لك مـن داء الكـلام
وتشهد كثير من المجتمعات والمنتديات أناساً يقفون للحديث ثم لا يلبثون أن ينفلت زمام ألسنتهم فتراهم يخبطون خبط عشواء يجمع بين الغث والسمين والصالح والطالح يبتعد عن الصواب ويقترب من مواقع الزلل.
وعبد العزيز الرفاعي يوازن قبل أن يباشر محاضرته إذا ما دعي إلى إلقاء محاضرة بين موضوع المحاضرة ومكان المحاضرة وجمهور المحاضرة ويختار عندئذ الطريق الذي يسلكه لكي يحقق من ورائه إعطاء الموضوع ما يستحقه من بحث ودراسة ووصول إلى الأهداف السامية المتوخاة من ورائه من غير إسراف ولا تقتير، وبأسلوب سهل يسير، ويحرص عبد العزيز الرفاعي على إخراج محاضراته في كتيبات صغيرة ولعله افتتح مكتبته الصغيرة بهذه الكتيبات التي يمثل بعضها محاضرات ألقيت في مؤتمرات أدبية أو في أندية أدبية ومن ذلك المحاضرة التي ألقاها في مؤتمر الأدباء العرب السابع الذي انعقد في بغداد عام 1389هـ وكان عنوانها "توثيق الارتباط بالتراث العربي" ومنها المحاضرة التي ألقاها في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين الذي أقيم في مكة المكرمة عام 1394هـ وتبنَّتْهُ جامعة الملك عبد العزيز بجدة حينما كان معالي الدكتور محمد عبده يماني مديراً لها وكان عنوانها الحج في الأدب العربي.
وقد صدرت تلك المحاضرة في كتيب احتل الرقم السادس عشر في سلسلة المكتبة الصغيرة. ومنها أيضاً المحاضرة التي ألقاها في نادي القصيم الأدبي التي أثمرت عن كتيب حمل الرقم التاسع عشر في سلسلة المكتبة الصغيرة ومن هنا نستشف أن عبد العزيز الرفاعي يسعى دائماً إلى توثيق محاضراته لأنه يبذل جهداً في موادها والتثبت من صحتها حتى لا يكون عرضة للنقد لأنه يحب دائماً الغوص في الأعماق لاصطياد اللآلئ والإتيان بالجديد وسأحاول إيراد مقتطفات من محاضراته لنقف عن كثب على الرسالة العظيمة التي تعهد عبد العزيز الرفاعي بحملها والدفاع عنها وهي حماية اللغة العربية من العبث بها ومحاربة أعدائها الذين يرومون النيل منها ففي المحاضرة التي ألقاها في المؤتمر السابع للأدباء العرب الذي أقيم في بغداد 1389هـ جاء في محاضرته ما يلي:
"لمن يكتب الكاتب العربي الحديث؟ أهو يكتب للمثقفين أمثاله؟ أو أنه يكتب للناس كافة. إن عامة الناس، أو بتعبير أدق الجمهور الذي يمثل القارئ العادي، لا يستطيع أن يدرك، أو أن يلاحق الكاتب الحديث الذي تشيع العجمة الجديدة في أسلوبه، ويدخل في هؤلاء، أولئك المثقفون الذين لم ينالوا حظاً من التعليم الغربي، فوقفوا عند حد الثقافة العربية المحضة.
أما إذا كان الكاتب العربي الحديث إنما يكتب للمثقفين الذين هم على غراره، فإن رسالته في هذه الحالة أصبحت محدودة في أضيق نطاق، ولم تؤد أهدافها كاملة.
ونتيجة لهذا الانفصال الفكري بين الكاتب وجمهوره، تعالت صيحات تدعو إلى علاج الداء الجديد، وكان اسوأ ما تنادى به القوم من علاج، الدعوة إلى الكتابة باللغة العامية.
إن دعاة العامية سواء أصدروا في دعوتهم عن قصد حسن، أو سيء، إنما يحاولون معالجة الداء بداء جديد أعم، وأطم . سيسبب انفصالاً فكرياً واجتماعياً بل قومياً بين المجتمع العربي كله.
إن أيسر من هذا جداً أن نعود إلى لغتنا العربية الواضحة الميسرة السهلة لكي نعززها ونحافظ عليها، ونقوي دعائمها وأن نحارب العجمة الجديدة في كتاباتنا ووسائل إعلامنا كلها.
إن لغتنا هي رأس مالنا الديني والقومي، فهي لغة قرآننا، ولغة تاريخنا، إذا فقدناها، فقدنا كل الأسس الدينية وكل الأسس القومية، وأصبحنا هلاماً يسهل ابتلاعه لكل من شاء".
وقد أشاد الدكتور عبد العزيز شرف بكتيب الأستاذ عبد العزيز الرفاعي – رحمه الله – الموسـوم بـ "توثيق الارتباط بالتراث العربي" وذلك في مقال له نشر بجريدة الأهرام في عددها 37836 تاريخ 11 يوليو عام1990م وقد ألمح الدكتور شرف إلى أن قراءته للكتيب في طبعته السادسة دفعته إلى كتابة ذلك المقال لما لمسه فيه من قيمة أدبية وقومية والتشبع بالانتماء العربي والديني فقال في بعض فقرات المقال "إن أية أمة تحرص على أن يكون لها كيان خاص بها، وشخصية بارزة المعالم لا بد وأن ترتكز على تراث تستمد منه عزيمتها وتلتف حوله، وتنطلق من مركزه، وتبلور مستقبلها على قواعده على حد تعبير الأديب الكبير الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في رسالته التي نعرض لها اليوم بعنوان "توثيق الارتباط بالتراث العربي" والتي كتبها في أعقاب نكسة 1967م ونشرت في طبعة سادسة مؤخراً يؤكد فيها أن عناصر القوة والاتحاد هي من دعائم النصر وفي المقدمة يقول: "إن حافزاً قوياً أشد ما يكون من القوة ليحفز الأمة العربية إلى أن تطلب النصر بعدما لحقها من هزائم.. وبعد أن تكالبت عليها غزوات السلاح، وغزوات الفكر... بيد أن الأمة الأصيلة لا تفل النكبات من عزمها، ولا تسلمها إلى اليأس القاتل، ذلك لأنها تستمد من تاريخها ومن أصالتها قوة للجلاد والكفاح وتاريخ الأمة العربية مليء بقصص الصراع والمقاومة والثبات.. وعلى سبيل المثال أذكر المحاولات الكبيرة التي بذلت للنيل من اللغة العربية، ولإبعادها عن دورها الحضاري، ولقطع الصلة بين الناطقين بها وبين ماضيهم، وبين تراثهم الإسلامي.
ويؤكد الرفاعي أنه لا يدعو إلى انعزال التراث العربي بحيث لا يستمد روافد فكرية جديدة، وبحيث لا يلاحق وجوه التطور الفكري في العالم، ويقول: إن دعوة كهذه إن قال بها قائل فإنما هي دعوة إلى تجميد الذات وبالتالي تجميدنا وفصلنا عن العالم لنكون أمة أثرية.
إن الرفاعي يؤمن بإيجابية التراث العربي، وأنه كان مطلاً على العالم ومؤثراً في التراث الإنساني وحسبه هذا دليلاً على عبقريته وأصالته وتوافر روح الإبداع فيه".
ومن الكتيب الثاني الذي تولد عن المحاضرة التي ألقاها عبد العزيز الرفاعي في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين عام 1394هـ وكان عنوانها "الحج في الأدب العربي" نقتطف الفقرات التالية:
"ارتبط نشوء اللغة العدنانية، أو اللهجة العدنانية، بتاريخ الحج، فمنذ أن استقرت "هاجر" مع وليدها "إسماعيل" في مكة وتفجرت مياه زمزم – أخذت مكة تتحول إلى حاضرة، نشأ عدنان فنشأت معه اللغة العدنانية التي أخذت تتطور مع الزمن، حتى استقرت على لهجة قريش. التي أصبحت فيما بعد لغة الحضارة العربية الإسلامية.
فاللغة العربية إنما هي مدينة لذلك الاستقرار الحضاري في أحضان شعاب مكة ووديانها، وهذا الاستقرار الحضاري في مكة إنما هو ثمرة من ثمار الحج، فبالحج عمرت مكة، وبه ازدهرت ونمت تجارتها القديمة.
وفي سبيل التجارة المرتكزة على تجمع القبائل العربية في الطريق إلى الحج أو في الطريق من الحج، قامت الأسواق التجارية.
اشتهر من هذه الأسواق سوق عكاظ، ذو المجنة، وذو المجاز. إذن فقد كان الحج محور هذه الأسواق، وظل عاملاً أساسياً لا في قيامها فحسب، وإنما في كل ما جلبته من الخير على اللغة، بل وعلى غير اللغة.
وفي العصر الجاهلي يبرز دور سوق عكاظ، بصفة خاصة في تطوير اللغة، وإنمائها وتغذية مفرداتها وبالتالي في تطوير الأدب العربي.
إذن فقد كان سوق عكاظ الميدان الأكبر، لما يصح أن نسميه التبادل الثقافي بين القبائل العربية.
هذه السوق كانت تقام بالطائف قبيل الحج، ومن أجله تقام، فكانت القبائل التي تقصد البيت الحرام، تمر بهذه السوق أولاً لتعرض منتجاتها، ولتعرض أيضاً مفاخرها وشعراءها.
وبرغم أن كل هذا التبادل الثقافي، إنما يتم في أسواق الحج وأخصها سوق عكاظ بالطائف، إلا أن العرب، كانوا يؤثرون أن يربطوا إبداعهم الفني، بذلك المحور الرمزي الذي يلم شتاتهم كل عام، أعني به الكعبة، رمز الحج. فقد تراضوا أن ينتقوا قصائدهم الجياد فيعلقونها في جوف الكعبة دليلاً على أنها فازت بالصدارة الفنية، وأنها أصبحت مؤهلة للخلود، وأصبح قائلها شاعر العرب كافة، لا لقبيلته فحسب.
ومن هنا كانت المعلقات، ولو لم يكن الحج لم تكن، ولست في حاجة أن أدلي برأيي الشخصي في صحة تعليق المعلقات داخل الكعبة، فإنه يبدو من تقرير في السطور السابقة أنني لا آخذ برأي المشككين في أمرها ولا آبه به".
ومن قراءة هذه الفقرات المختارة من محاضرة عبد العزيز الرفاعي عن "الحج في الأدب العربي" نلمس حرصه على الاستقصاء والبحث حتى يصل إلى النتائج التي يطمح في الوصول إليها ولا يجد حرجاً في أن يعلن رأيه صراحة فيما يؤمن به أو فيما يتأكد له صحته ومن ذلك قوله في قضية "تعليق المعلقات داخل الكعبة" حيث قال: إنني لا آخذ برأي المشككين في أمرها ولا آبه به". أي أنه مؤمن بصحة ذلك ويخالف كل من قال بغير ذلك لكنه ارجأ الإتيان بالأسباب التي استند إليها واقتنع بها ولعله أراد أن يحث القارئ على البحث للوصول إليها ليتيح فرصة شحذ همته في سبيل التنقيب عن الكنوز والفوائد التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالتشمير عن الساعد والعمل الجاد والغوص داخل المناجم للحصول على ما لم يكن من السهل الحصول عليه. وكأني به يقصد بالمشككين أولئك الذين يقولون: إن المعلقات إنما سميت معلقات لأن ملك الحيرة كان يقول لكُتَّابه: علقوا هذه في الخزانة أولئك الذين قالوا: إن المعلقات سميت السموط أي العقود النفيسة والتي من شأنها التعليق. أو كان يقصد به أولئك الذين قالوا: إنما سميت المعلقات لعلوقها بالذاكرة أو كان يعنيهم جميعاً.
وهذا الإصرار على الرأي عند الاقتناع به في مذهب عبد العزيز الرفاعي معروف، ويسير عليه، ويلتزم به ولا يحب الخوض أو المناقشة فمتى أيقن أن النهج الذي يتبعه هو الأقوم فإنه لا يجادل أحداً يحاول إقناعه بالتراجع عنه لأنه لا يؤمن بالشيء إلا بعد التأكد الذي لا مراء فيه ولا يقبل الجدل.
أمَّا المحاضرة الثالثة والتي ولدت ثلاثة كتيبات لا كتيباً واحداً فهي المحاضرة التي ألقاها في نادي عنيزة الرياضي بعنوان "ضرار بن الأزور رضي الله عنه". بتاريخ 1394هـ وقد تمحضت هذه المحاضرة عن ثلاثة كتيبات هي "ضرار بن الأزور" و "خولة بنت الأزور" و "ارطأة بن سهية" وقد حمل الكتيـب الأول "ضرار بن الأزور" الرقم 19 في سلسلة المكتبة الصغيرة، بينما حمل الكتيب الثاني "خولة بنت الأزور" الرقم 24 من السلسة ذاتها، أما الكتيب الثالث "أرطأة بن سهية" فقد حمل الرقم 28 من السلسلة وسأحاول أن أختار بعض فقرات من الكتيب الثاني "خولة بنت الأزور" لأن عبد العزيز الرفاعي في هذا الكتيب وقف أمام المؤرخين القدماء والمحدثين وفاجأهم بإصرار بأن خولة بنت الأزور شخصية أسطورية ليس لها مكان على سطح الواقع، وأن البطولات التي تنسب إليها إنما هي من نسج خيال المؤلفين الذين اقتحموا عالم الواقدي وزوروا تاريخه ونسبوا إليه قصصاً وحكايات لم يخطها قلمه، ولم يحفظها كتاب من كتبه، وكل ما نقل أو روي من قصص تضمنها كتاب "فتوح الشام" المنسوب إلى محمد بن عمرو بن واقد السهمي لم تكن إلا مما يرويه "الحكواتيه" رواة القصص الشعبي الذين يضيفون إلى القصص من خيالاتهم ما يضفون به على بطلهم من نماذج البطولة والجرأة والشجاعة ما لا يخطر ببال أحد وقد يتجاوز في كثير من الأحيان حدود الواقع.
ولقد وقع كثير ممن نقل عن كتاب "فتوح الشام" في خطأ كبير حين سطروا في كتبهم ترجمات لخولة بنت الأزور وقد بين عبد العزيز الرفاعي مواطن الخطأ الذي ارتكبوه ونسب ذلك إلى عدم توخي الدقة مع أن بعض هؤلاء عرف بدقته في النقل.
سنقتطف من هذا الكتيب فقرة أو فقرتين تساعدنا في إلقاء الضوء على جانب مهم من جوانب البحث العلمي وتقصي الحقائق عند عبد العزيز الرفاعي – رحمة الله عليه –.
جاء في الصفحة التاسعة عشرة من كتيبه "خولة بنت الأزور" عند الحديث عن مكانتها: "إن لخولة بنت الأزور، مكانة رفيعة في التاريخ الحديث، فقد احتفى بها الحفاوة كلها، وأشاد ببطولتها، ومجَّدها كل التمجيد.. نجد ذلك في الصحف والمجلات والكتب، والمقررات المدرسية التي تتحدث عن بطولة المرأة.. بل نجد كبار المؤرخين والكتاب قد اتخذوا من شخصيتها مثلاً رفيعاً للشجاعة وللخلق السامي، وللتضحية.
على أنني في الواقع ألتمس العذر للمتأخرين منهم، فإنما هم يتابعون في ذلك من سبقهم. أما كتَّاب القصص والملاحم فلا تثريب عليهم فهم ينسجون قصصهم وملاحمهم من الواقع ومن الأسطورة على حد سواء. بل ربما كانوا بالأسطورة أشد تعلقاً، وأكثر حفاوة لأنها غنية بالخيال، والخيال ألصق بالقصص والملاحم، وأكثر إمتاعاً للقراء.
وأنا إذ أعذر كتاب الملاحم والأساطير، أقف موقفاً مختلفاً تجاه الباحثين المحققين وتجاه واضعي المعاجم، وكتب التراجم، ودوائر المعارف. ذلك لأن مثل هذه الكتب مظنة للدقة والتمحيص والتحقيق.
من هاتين الفقرتين اللتين اخترتهما من الكتيب الموسوم بـ "خولة بنت الأزور" نستطيع أن نلمَّ بالجهد الكبير الذي بذله عبد العزيز الرفاعي في الرجوع إلى مختلف المصادر قديمها وحديثها ليثبت للقراء والكتاب والمؤرخين والباحثين والمدققين أن خولة بنت الأزور ليست شخصية فليست صحابية وليست لها صلة بضرار بن الأزور، ولم تحفظ كتب السير، وكتب التاريخ شيئاً عنها أو عن أخبارها أو حتى مجرد نسبها.
وقد أبدى دهشته من أن كثيراً من الباحثين والمحققين المتأخرين لم يبذلوا من الجهد شيئاً للتثبت مما يقع تحت أيديهم ويرغبون التحدث أو ترجمته ومن أولئك الأستاذ الكبير خير الدين الزركلي مؤلف كتاب
الأعلام الذي ترجم لخولة وزعم أنها شخصية حقيقية وأنها توفيت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأن مصدره الوحيد الذي استقى منه معلوماته هو كتاب "الدر المنثور في ذكر ربّات الخدور" للسيدة: زينب فواز يوسف العاملي.
لكن زينب فواز قالت عن خولة: إنها خولة بنت الأزور الكندي في حين أن ضرار هو ضرار بن الأزور الأسدي فهناك فرق كبير بين كندة وبني أسد فكندة قحطانيون وبنو أسد عدنانيون.
ثم ذكر الرفاعي رحمه الله الترجمة التي وردت في الموسوعة العربية الميسرة لخولة بنت الأزور وأنها كندية أي قحطانية معتمدين في ذلك على ما ورد في كتاب "الدر المنثور" للسيدة زينب فواز العاملي دون تمحيص ولا تدقيق ولا تتبع للمصادر القديمة.
وبالرجوع إلى الموسوعة العربية الميسرة لاحظت أن الموسوعة لم تعن إلا بترجمة خولة بنت الأزور بينما هناك أكثر من خولة لها مواقف إسلامية منهن من نزل فيهن قرآن يتلى تلك خولة بنت ثعلبة التي سمع الله لقولها فقال سبحانه قد سمع الله قول التي تجادل في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما وغيرها كثير ولكني أعتقد أن الحكايات والقصص والأساطير التي حامت حولها بهرت المؤرخين المتأخرين فنقل بعضهم عن سابقه بل في الواقع أنهم جميعاً نقلوا عن مصدر هو كتاب "الدر المنثور في ذكر ربَّات الخدور".
ولقد بين عبد العزيز الرفاعي في هذا الكتيب بعد استقصاء تام وبحث عميق شمل الماضي والحاضر أن خولة بنت الأزور حديث خرافة وأن الحكايات والأساطير التي تتحدث عنها ما هي إلا خيوط وهمية أوهن من بيوت العنكبوت وهكذا يثبت عبد العزيز الرفاعي مرة بعد أخرى وقوفه بصلابة أمام الحقائق ما دامت الدلائل التي تستند إليها قوية والبراهين قاطعة تدحض حجج معارضيه ولا ينثني عما يؤمن به ولا يتخلى عن ديدنه ما بقيت في عقيدته دعائم ذلك المبدأ ثابتة صلبة، لا تستطيع أن تؤثر فيها التغيرات والتقلبات المزاجية، في النقاشات والمحاورات الأدبية والثقافية. وهو بصريح العبارة لا يخشى في الحق لومة لائم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :864  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 94
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.