شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السفر خارج حدود المملكة
المرحلة الأولى:
لقد ترددت على سمعه، كلمات الإطراء والثناء من مصر وبيروت من أولئك الذين يحزمون حقائبهم للسفر إليهما، كلما أطلت عليهم أيام الإجازات الصيفية، ويسردون قصصاً تجتذب الشباب، لما تحمله من صور الاستمتاع المادي والمعنوي، لكن عبد العزيز لم تثر عواطفه من تلك القصص إلا ما كان له صلة بالعلم والثقافة والأدب، فقد كان يطمح أن يلتقي بأدباء مصر ولبنان والعراق، فقد كانت آثارهم الأدبية تحتل حيزاً كبيراً من المكتبة العربية، وكان أنداده وأساتذته وأقرانه الذين أتيحت لهم الفرص فزاروا مصرَ، والتقوا هناك بأدبائها، وحضروا منتدياتهم وندواتهم، وسطروا في أعماقهم وألبابهم، عن تلك الندوات والأمسيات الأدبية التي سعدوا بحضورها، صفحات من الذكرى الحسنة، سمحت لهم بأن ينثروها زهوراً عطرة الشَّذا تتلقفها أفئدة الذين لم تكن الحياة المادية - في ذلك الوقت - تسمح لهم بأن يحصلوا على فائض من دخلهم، يمكنهم من استغلاله في الترويح عن أنفسهم، بالقيام بمثل هذه الرحلات، ومن أولئك عبد العزيز الرفاعي.
لقد قضى عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله- أربعة وثلاثين عاماً من عمره لا يعرف غير مكة والمدينة والطائف وجُدة إذا استثنينا أملج والليث والقنفذة وينبع، والتي مرَّ بها طفلاً لا يملك من أمره شيئاً في تلك الفترة.
لقد كانت ظروف المعيشة الني مرَّ بها منذ وصوله مع والدته وأختيه إلى مكَة المكرمةِ وهو لم يتجاوز السادسةَ من عمره، حتى بلغ الثانية والثلاثين سنة، وهو يكافح ويجاهد في سبيل الحصول على لقمة العيش، وتوفير الأشياء الضرورية للحياة الكريمة، باذلا في سبيل ذلك الوقتَ والجهد والعزيمة.
ولم يكن للحاجات الترفيهية بند في ميزانيته الشهرية، ولم يكن هناك إمكانية وجود وَفْرِ في بند من بنودها، ليغطي العجزَ في بند آخرَ، بل ربما تعرضتْ أغلب بنودها للعجز خلال شهر من الشهور كشهر رمضان.
لم يفكر عبد العزيز الرفاعي خلال هذه الفترة في أن يقومَ برحلة إلى مصرَ أو لبنانَ أو أي بلد آخر، غيرَ ما أشرت إليه سابقاً، لأن ميزانية راتبه الشهري لا تسمح له بالقيام بمثل هذه الرحلات، لأن القيامَ بها قد يؤدي إلى وجود عجز في تلك الميزانية يصعب عليه سدِادُه، ولذا أجَّل التفكير في مثل هذا النوع من المصروفات الطارئة إلى عام 1373هـ وهو العام الذي عين فيه رئيساً للشعبة المالية الخارجية بالنيابة العامة، وارتفع راتبه دفعة واحدة من 355 ريال إلى 700 ريال وكان هذا الترفيع دليلاً قاطعاً على كفاءته، ورضى المسؤولين عنه، وشعر حينئذ أن الوقت قد حان لتحقيق هدفين رئيسين كانا يشغلان معظم تفكيره، أحدهما الزواج وثانيهما السفر إلى مصر ولبنان ليس للترفيه والمتعة، إنما لتعزيز روابطَ بدأها كتابة، ورسائلَ متعددةٍ إلى كثير من الأدباء المشهورين في هذين البلدين.
وجلس يحدَّثُ نفسه عن الهدف الذي يجدر به أن يبدأ به، فالعمر يحثُ الخُطا، وبعضُ لِداته رزقهم الله بنينَ وبناتٍ يُدخلون البهجةََ والفرحةََ إلى قلوبهم في غدوهم ورواحهم، كما أن أمه تُلِحَّ عليه صباحَ مساءَ أن يسمح لها بأن تبحث له عن زوجة من أسرة كريمة تتولى العناية به والوقوف من خلفه، سنداً وعوناً في كل خطوة يخطوها، وكان يؤيدها في مطلبها، ويَعدُها بأنه يسعى جاهداً لتحقيق رغبتها.
ومن جهة أخرى، كان الهدف الثاني يقف منتصباً أمام عينيه يذكره بأن زواجه قد يعوقه عن تحقيقه، فللزواج ارتباطات قل أن يتخلص الزوجُ منها ولا سيما في السنوات الأولى، وغالباً ما تُصر الزوجة على أن ترافق زوجَها في أية رحلة يقوم بها خارج المملكة إن لم تكن الرحلة ذات طبيعة رسمية ولفترة قصيرة، وأخيراً وضع النقاط على الحروف وقرّر السفر لأنه يؤمن بأن للزوجة حقوقاً لا يجوز للرجل أن يتجاهلها أو ينتقصَها حتى تظل عُرى الزوجية قويةً ومتينةً.
وفي نفس الوقت أضاء المصباح الأخضر لرغبة أمهِ لتقومَ بالبحث له عن الزوجة الصالحةِ التي يَسعدُ بها وتَسعدُ به.
في صيف عام 1371هـ قرر أن يحقق هدفه الثاني وهو القيام برحلة إلى كلَّ من مصرَ ولبنانَ للتعرفِ على جَهابذة الأدب والثقافة في هذين البلدين اللذين كانا يزخران بالنوابغ والأفذاذ، واللذين يطلق عليهما أم الدنيا (مصر) وسويسرا الشرق (لبنان). ولعله وجد من أمه المباركةَ والتأييدَ لكل ما يعتزم القيام به، ويراه ضرورياً لمسيرته العلمية والعملية، وقد كان هذا التشجيعُ من جانبها له هو الأمل الذي كان ينشده، بل كان الضياءَ الذي أثلجَ صدَره منذ الخطوة الأولى التي خطاها في درب الكفاح في طريق العمل والنجاح.
ولقد يدرك القارئ أن نفيسة بنت أحمد الرشيدي لو لم تكن واثقة من صدقه وخُلُقِهِ وعفَافه لما تركته يعتزم مغادرةَ المملكة دونها ولكنها تعلم مدى ما يتمتَّع به من الأخلاق الكريمة في عمله ومجالسه وبين الخاصة والعامة، وكيف لا؟ وهي أقرب الناس إليه؛ تولت تنشئته وتربيته، والرائد لا يكذِبُ أهلَه وهو في
تلك الفترة يعتبر رائداً لأسرته، وما عهدت فيه أسرتُه إلا كلَّ خُلُقِ جميلِ.
ولقد لمستْ هذه الخصالَ التي أدركها غيرُها، لمست منه تصرفاً كريماً في معاملته لها ليس براَ فحسب ولكنه يفوق البِرَّ ويفوق الاحترام فلم تسمع منه كلمة نابية، وكيف لها أن تسمع مثل ذلك؟ وهو لم يسمع منها ما يلوث سمعه ولم تره مكفهرَّ الوجهِ بل كان حين يأوي إلى فراشه يجمّله بالدعاء والاستغفار وينور ليله بالقيام.
كان يراقب الله في كل عمل يقوم به، ويحاسب نفسَه قبل أن يعمد غيره إلى محاسبته، ولذلك لم تره يرتكب خطأ أو عملاً يندم عليه بعد القيام به .
لهذا كله لم تزعزع ثقتها به أيٌّ من الضغوط النفسية أو الشكوك التي غالباً ما تراود الأم حينما يعلن ابنها رغبته في السفر إلى الخارج.
اختار عبد العزيز الرفاعي رفيق دربه في رحلته الأولى إلى مصر ولبنان إنه عبد الرزاق بليلة .. ثاني اثنين اتخذهما صديقين حميمين له أما الآخر فهو أحمد محمد جمال - رحمه الله -. ولقد كان للأستاذ عبد الله عبد الجبار مدير البعثات الخارجية بمصرَ فضل استضافتها والتعريف بهما إلى أدباء مصر شيوخاً وشباباً، ولا غروَ فقد كان أستاذهما، وكانا تلميذيه اللذين كان يلمح فيهما خلال دراستهما بالمعهد، النجابة والذكاء والرغبة في التزود من العلم والمعرفة.
لقد كانت رحلة بدايتها شوق، ودربها جسر من الطموح، ونهايتها عرى من الحب وثيقة، لم يكن للترويح عن النفس مكان في تلك الرحلة بقدر ما كانت الرغبة الجامحة في نفسيهما هي التعرف على أكبر عدد من الأدباء والمثقفين وسادات مصر ولبنان، ولعلنا نستطيع أن نجد مصداق ذلك فيما كتبه الدكتور مازن عبد الرزاق بليلة في جريدة عكاظ العدد 9904 تاريخ 28/3/1414هـ تحت عنوان "الحنين إلى عبق التراب" حيث ورد في ذلك المقال قوله: "كان طيش الشباب بعيداً عن الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، داخل البلاد وخارجها، في مرحلة الشباب أخطر سنوات الانزلاق والتهور، يحدثني الوالد - حفظه الله - الذي عاش الشباب والكهولة والشيخوخة مع الأستاذ، أن أول سفر لهما خارج المملكة كان إلى مصر في أوائل الستينيات الميلادية.
كانا شابين تجاوزا العشرين فطلبا السكن في شقة بالقاهرة، وعندما استقر بهما المقام في شقة مناسبة نظر إليهما صاحب العمارة وقال لهما: سوف أؤجر لكما الشقة بشرط عدم العبث والطيش، فاستشاط الأستاذ الرفاعي غضباً وقال له "نحن الذين نشترط عليك ذلك وليس أنت الذي تشترط علينا". ورفض أن ينزل عنده فقد كان - وهو شاب - مهذباً عفيفاً يكره أن يجرح إحدى المثاليات التي يؤمن بها ولو بالكلام".
وبعد أن اطمأن على تحقيق أمنيته من رحلته إلى مصر والمتمثلة في التعرف والالتقاء بأدبائها وشعرائها الذين كم سهر الليالي في التحدث إليهم بخياله، وجلس يناقشهم أو بالأصح يستمد الفائدة منهم عَبْرَ كتبهم ومقالاتهم التي يزينون بها صفحات المجلات الأدبية أو الجرائد اليومية، التي تصدر في مصرَ وتصل إلى المملكة عبر وسائل مواصلات بحرية، وكانت الموضوعات التي تملأ صفحاتِها تثير بقوة رغباتِ المتعطشين من عشاق الأدب والراغبينَ في التزود من المنابع.
حجز عبد العزيز لنفسه مقعداً إلى لبنان، ليكمل الجزءَ الثاني من رحلته الثقافية، وليقيم بينه وبين أدباء لبنان رابطة حب تثمر معرفة وأدباً وثقافة، ولم يكن يعلم أن اسمه قد طرق أسماع البعض منهم، وإن لم يلتقوا به، مؤكدين مصداقية الشاعر البحراني طرفة بن العبد إذ يقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار مـن لم تـزود
فما إن وطأت قدماه أرض لبنان وقابله من تعرف على شخصه حتى سرى حب ذلك البلد في شرايينه وأعجب به أيما إعجاب، وسجلت مشاهداته في ذاكرته صفحات رائعة لصور جميلة بديعة أخرجها بعد عودته إلى جدة مقالات تسيل عذوبة وتنساب رقة ثناءً وإطراءً، لما لمَسه من سمات الجمال وما لقيه من تكريم واحترام وتقدير من أدباء لبنان الذين تعرف عليهم، ولقد أشارت إلى ذلك مجلة الأديب اللبنانية لصاحبها ألبير أديب في عددها الصادر شهر ديسمبر عام 1951م حيث جاء في الصفحة الستين ما يلي: "كان للزيارة التي قام بها صديقنا الشاعر الأستاذ عبد العزيز الرفاعي للبنان في الصيف الماضي أجمل الأثر في نفسه المرهفة مما دفعه إلى إلقاء سلسلة أحاديث من محطة الإذاعة السعودية بعنوان "تعال معي إلى لبنان" كما نشر مقالاً في مجلة الحج الغراء التي تصدر بمكة، امتدح فيه لطف اللبنانيين، فنشكره باسم لبنان لا باسم هؤلاء الذين يكرمون من لا فائدة من تكريمهم، ويقصرون بحق الأدباء الذين هم أولى من غيرهم بالحفاوة وحفلات التكريم".
لقد استطاع عبد العزيز الرفاعي منذ زيارته الأولى للبنان أن يملك قلوب من جالسهم وحادثهم واستمع إليهم وأسمعهم فأمتعهم وأمتعوه وأصغى إليهم وأصغوا إليه حتى ملك زمام قلوبهم فعاشوا يذكرونه ويراسلونه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :594  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج