شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
موقف لا شاكياً وَلا مشكواً عَليه
لم تسجل يد الأحداث والوقائع في سجل الزمن، في صفحة من صفحات سيرة عبد العزيز الرفاعي سطراً يستشف القارئ من كلماته جملة في طياتها معنى الشكوى لغير الله، فلم تشهد عليه الأيام أنه وقف مرة أمام قاض أو ولي أمر شاكياً أو مشكواً عليه، لأنَّ الحياء والحلم والسماحة والنبل خصال كريمة جبل عليها، ومن جبل على خلق كريم فمن المستبعد أن يتخلى عنه إلى ضده. ولقد روى معالي الدكتور محمد عبده يماني في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريم عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - والذي أقامه النادي الأدبي بجدة يوم 12 شوال عام 1413هـ أنَّ صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة قال في معرض الحديث عن عبد العزيز الرفاعي: "لم يأتنا الرفاعي لا شاكياً ولا مشكواً عليه" وهذه شهادة صادرة من مسؤول، له مكانته ومنزلته العظيمة، فضلاً على أنه أحد أفراد الأسرة الملكية، والذين يعرفون رجال دولتهم، ويختارون منهم من يثقون به وبإخلاصه وتفانيه، بعد أن يعجموا عوده، وعبد العزيز الرفاعي أحد أولئك الذين وقع الاختيار عليهم، لما لمسوه فيه من خصائص، قل أن تتوفر في كثير من الرجال. فقد كان مطبوعاً على مكارم الأخلاق، لا متطبعاً، لأنَّ التخلق والتطبع عمل مكتسب قابل للتغير، أما الطبع في الإنسان فلا يتغير، ولقد قال المتنبي في مطلع إحدى قصائده.
لكل امرىء من دهرهِ ما تعـوَّدا
وعادة سيف الدولة الضربُ في العدا
وقال شاعر آخر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على مـا كـان عـوّده أبـوه
فالتعود اكتساب لما يتعود عليه الإنسان، والتعود لا يأتي تلقائياً، وإنما يكون مصدره خارجياً، يُوحَى به إلى الشخص الذي يرجى منه أن يتمسك بما يتطلب منه التعود، وقد يكون المصدر أبـاً، أو أستـاذاً، أو أخاً، أو أمّاً، فإذا نشأ الطفل ولم يجد حوله من يقوم بتعويده على شيء ما، وإنما وجد نفسه منسابة لفعل الخير، والالتزام بالسلوك الحسن، فإن ذلك فضل من الله، ونعمة منه، وهي سجية منحها الله له، ومن كان الله له ولياً فلن يضيعه، وهكذا نشأ عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - وحيداً لم يجد حوله أعماماً ولا أخوالاً وإن كان له أب افتقده ولم يفقده فقد تركه طفلاً صغيراً ترعى شؤونه والدته وأخته لأمه.
وهكذا زرع الله في قلبه خصائص تفرد بها، وعاش لها، ودامت له سراجاً يهتدي بنوره، تجنبه الوقوع في المزالق، وتقوده دائماً إلى مواطن الخير، وسأورد أمثلة كثيرة شاهدة على مبادئه الكريمة الخيرة التي تقف معلنة أن عبد العزيز الرفاعي لم يجنح إلى الشر.
قال الأستاذ حسن عبد الحي قزاز في مقال رثى به الأستاذ عبد العزيز الرفاعي ونشر بجريدة المدينة في 24/3/1414هـ: "صديقي الحبيب عبد العزيز الرفاعي رجل كالذهب في ميزان الرجال، وأديب كبير متمكن في ميادين الأدباء الكبار، ومكافح مجد منذ نعومة أظفاره، حتى انتقاله إلى رحمة الله. قال عنه الكثير من المسئولين الكبار لم يأت إلينا شاكياً ولا مشكواً قط. وهذه شهادة تعني الكثير وتدل على الكثير، إذ لا ينالها إلا النادر من الرجال، وعبد العزيز الرفاعي من هذا الطراز من الرجال. وصعب أن نعايش بديلاً عنه، في مثل خلقه وأدبه وتواضعه، رغم شموخه وعزة نفسه وسمو مكانته، فإن قلت عنه وفياً فإنه طراز وحده، وإن قلت عنه عف اللسان، وحلو الكلام ومهتماً بالآخرين، أو قلت عنه إنه نظيف القلب واليد واللسان، فإنه نادر في الرجال".
ثم يواصل الأستاذ حسن عبد الحي مقال رثائه لعبد العزيز الرفاعي بما يلي: "عندما حصلت على امتياز إصدار جريدة عرفات، قال لي الأستاذ طاهر زمخشري - رحمه الله -: حاول ضم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي ليكون كبير المحررين، فذهبت إلى مكتبه في ديوان رئاسة مجلس الوزراء، وعرضت عليه المشاركة فاعتذر برقة ولطف، وتذكرت الصهارة الكريمة بيننا، فقلت له: سأذهب إلى عمتك أشكوك إليها. فقال - رحمه الله - وهو يرجوني بحرارة: "لا تفعل، وسأنضم لأسرة جريدة عرفات منذ اليوم".
فإذا ألقينا نظرة إلى هذه الشخصية التي ترفض الوقوف مجرد الوقوف مشكواً عليها أمام أحد أصهارها، لتبين لنا أن هذه شخصية فريدة، يرعاها الله بعنايته، ويرشدها سواء السبيل.
وذكر الأستاذ محمد صلاح الدين في مقاله الذي نشره في ملحق الأربعاء الأسبوعي بتاريخ 29/3/1414هـ في رثاء عبد العزيز الرفاعي فقرة أكثر دلالة على إنسانية عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - ونفوره مما يمكن أن يجرح مبادئه النبيلة التي آمن بها فقال: "استعان بي - أي عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - مرة على صديق مشترك استغل ثقته، ونجدته، وسخاءه، واستولى على أكثر من ستمائة ألف ريال من أمواله، ثم تنكر له، فلم يعد يتحدث إليه، أو يقابله، بل يتهرب منه. وكنت أعجب في نفسي دائماً من سَعة صدر الأستاذ - رحمه الله - في مطالبته، وسماحته، وأدبه الجم في ملاحقته، وحرصه الشديد على عدم التشهير به، أو إيذائه، وعفة لسان حين يتحدث عنه وعن أفعاله، وتلك ذروة من رجولة الرجال، وأخلاق الكبار، لا يستطيعها إلا أمثال الفقيد العزيز - رحمه الله -".
عند قراءتي لهذه المعلومة، تمنيت أن يكون الحريري صاحب المقامات قد عاشر عبد العزيز الرفاعي وعاصره، لألغى من شعره ذينك البيتين الشهيرين اللذين يقول فيهما:
واعلم بأنَّـك إن طلبـت
مهذّبا رمتَ الشطط
من ذا الذي ما سـاء قـط
ومن له الحسـنى فقـط؟
لأن عبد العزيز الرفاعي أجمع من عايشه على أنه فريد في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته وطبيعته.
وهو لكي يتجنب الوقوع أمام المساءلة، يسعى دائماً إلى الحق، ويستظل به، ولا يحيد عنه مهما كانت الدوافع. ولقد أشار إلى هذه النقطة معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر حيث ذكر في مقاله الذي نشره بجريدة تاريخ 25/3/1414هـ ما يلي: "عرف عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - بالرزانة والعقل، وكان يلجأ إليه في أمور الصلح بين المتباعدين من الأصدقاء، لسبب أو لآخر، فكان لا يمشي في أمر من هذه الأمور إلا ويكون النجاح حليفه، لصفاء نيته في الاقتراب من الأمور التي يطلب منه أن يتصدى لها، وأقرب حادثة في ذهني، مشاركته في الستينات الهجرية في حفل تحضير البعثات الذي أقيم بمناسبة عودة أستاذنا الكبير أحمد العربي من رحلة علاجية إلى مصر، وقد قاطعها المعهديون لأنهم أرادوا أن يكون لهم حفل خاص بهم، وكانت بين الفريقين منافسة في سبيل الخير، لقد حضر الأستاذ عبد العزيز هذا الحفل، ولم يأبه بموقف زملائه غير الناضج، ومع هذا فقد حمد المعهديون له هذا الموقف، وهو يعرفه ولا يمكنه مجانبة الحق.
وانسجاماً مع هذا الموقف النبيل قرر الأستاذ عبد الله مراد - رحمه الله - أن يحضر حفل المعهديين في المدرسة الرحمانية، وهو من مدرسة تحضير البعثات، فعدَّلا بذلك كِفتي ميزان كاد أن يختل".
وهكذا وضع عبد العزيز الرفاعي، بإتباعه الطريق السوي، حدا للمنافسة والمشادة بين الإخوان في المعهد العلمي السعودي ومدرسة تحضير البعثات، فكان هو حاملَ غصن الزيتون. وإذا كان هرم بن سنان قد أطفأ نار الحرب بين عبس وذبيان، بماله وجوده وكرمه، فإن عبد العزيز الرفاعي قد أطفأ اشتعال الحماس الذي يلتهب في نفوس كل فريق من الفريقين، أطفأه بخلقه وحسن تصرفه، واتباعه النهج القويم، ومساندة الحق. وكيف لا؟ وهو الذي قرأ من الحكم ما يلي: "قل الحق ولو على نفسك". "قل الحق ولو كان مراً"، "قل الحق ولا تخف لومة لائم".
وقد يدخل في إطار هذا الموقف، أي عدم ميل عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - أن يقف موقف الشاكي أو المشتكى عليه، هو التزامه عند تعرضه لإساءة أحد زوار ندوته، أو ممن توسم فيه خيراً فأشهرته الأيام في صورة تناقض ما توسمه فيه، فيلزم حينئذٍ الصمت ويحمي أذنيه من سماع كل كلمة لا يليق به سماعها، ولا يحبذ أن تدخل قاموس حياته، ويترك قائلها يتمرغ في أدرانها، دون أن يوليه أي اهتمام، حتى إذا ما انتهى من كشف خبث نفسه أمام الآخرين، وبسط سجله الملوث لأعين المشاهدين، وأخذت العيون تتساءل، تحدث عبد العزيز الرفاعي برفق، وطرق موضوعاً بعيداً جداً عما تفوه به خصمه، كأنه لم يسمع شيئاً يمسه، وقد روى بعض الإخوة الذين حضروا ندواته الخميسية، أو محاضراته، أو حفلات تكريمه، وفيما يلي سأورد شيئاً من ذلك.
قال الأستاذ أحمد محمد محمود في رثائه الذي نشر بجريدة المدينة تاريخ 10/9/1993م: "القاسم المشترك بين الجميع هو ذكر مآثره، وفي مقدمتها أنه رجل لا يعرف عنه أحد إلا الخير، والكلمة الطيبة، والصمت الطويل عندما يخوض الخائضون فيما يحسن السكوت عنه".
وقال معالي الأستاذ محمد عمر توفيق - رحمه الله – في مقال له نشر بجريدة عكاظ يوم 15/9/1993م: "لقد عايشت الرفاعي وقتاً طويلاً من الستينات منذ تزاملنا بديوان النيابة أو هو "ديوان نائب الملك" حينذاك وكان التعايش على طول فترته سليماً لم يعكر صفوه قط ما يعكر صفو أية علاقة تطول على هذا النحو. وما أعرف أنه أساء لأي أحد أو أزعج أي أحد، وإن كنت لا أعرف ما إذا تلقَّى هـو أو لم يتلق إساءة أو إزعاجاً من أي أحد، فإنَّ من المتوقع أن يستقبل المحسن الإساءة أو التغاضي أو الجحود أو نحو هذا ممن لم يسد هو إليهم إلا الإحسان".
وذكر الأستاذ أسامة السباعي في مقال نشره في ملحق الأربعاء الأسبوعي الصادر بتاريخ 29/3/1414هـ: "لقد اكتسب الرفاعي سمعة حسنة، قل أن يكتسبها نظراؤه، فهو مثال للأخلاق الرفيعة والسريرة النقية، لا يحمل ضغينة لأحد ولا يضمر شراً، حتى لمن يسيء إليه. لم يعرف عنه أنه دخل في مزايدات كلامية، أو مهاترات نقدية".
وكتب الأستاذ عبد الله عمر خياط مقالاً يرثيه به نشر بالأربعاء الأسبوعي الصادر في 29/3/1414هـ جاء فيه: "وعلى مدى أربعين عاماً أو تكاد، لم اسمع كلمة شاذة أو تعليقاً نابياً من الأستاذ الرفاعي - يرحمه الله
في كل موقع وبكل مناسبة، هو الأديب الكبير بخلقه وتعامله وفكره وعطائه، حتى لكأنه رمز الأدب وعنوانه، وهو كذلك حقيقة لا تقبل الجدل، ودليل ذلك إجماع الناس عامة على محبته، والتأدب في حضرته، تأسياً به - رحمة الله عليه-".
وكتب معالي الدكتور محمد عبده يماني مقالاً بجريدة عكاظ بتاريخ 24/3/1414هـ عنوانه "الرفاعي صاحب القلب الكبير" جاء فيه: "ورحل الشيخ الأديب والأستاذ الجليل عبد العزيز الرفاعي عن هذه الدنيا الفانية إلى دار البقاء، رحل عنا رجل له قلب كبير وخلق كريم وعمل طيب وسيرة عطرة وكلمة طيبة، أحبه الناس وأعجبوا بأدبه في كل شيء وفي كل مناسبة، وقد سئلت عنه يوماً فقلت: هذا رجل كل ما فيه أديب، أديب إذا تحدث وأديب إذا كتب، لا يعرف الجفوة، ولا يتعاطى الأذية، بل طبعه الإحسان والإكرام، وكان يحرص على أن يسع الناس بأخلاقه وفضله، وكان أستاذنا حبيباً ومحباً ومحبوباً، وكان دائم العطاء، حريصاً على الوفاء، لا يعرف الخصام ولا يعاشر اللئام، لم يداهن ولم ينافق، ولم تفتنه الدنيا وقد آتاه الله منها حظاً كبيراً، ولم ينحن لأحد لينال متاعاً زائفاً، أو جاهاً عارضاً، وكان - رحمه الله - بعيداً عن التكبر، جم التواضع، وصاحب خلق رفيع. إنه رجل كبير فقدناه، فقد كان علماً بارزاً في دنيا الأدب، ورمزاً من رموز هذه البلاد الطيبة، ومصدر خير ونبع عطاء".
وقال عنه الأستاذ مسلم بن عبد الله المسلم في مقال نشر في جريدة الرياض بتاريخ 2/4/1414هـ ما يلي: "انثالت على ذهني مجموعة من صور الذكريات التي تربطني بهذا الصديق عبر فترة من الزمن، فقد كان الصديق الوفي، صاحب الخلق الرفيع والسمت النبيل.. كان كريماً بشوشاً باسم الوجه مشرق المحيا، كريم النفس نبيل الوجدان. لا يحمل الحقد لأحد، ويعامل الناس على اختلافهم على أنهم أصدقاؤه، فهو حلو المعشر يشد جليسه إليه بحسن حديثه، ويأسره بسمو خلقه من يعرفه، عايشته مدة طويلة لم أجده يوماً في صورة القانط البائس والمتجهم العاذل، وإنما كان شعاره الابتسامة الدائمة والخلق السمح".
وكتب معالي الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله السالم مقالاً بعنوان "الرفاعي علم يختفي من ساحة الأدب" جاء فيه: "هذه الكلمة ليست تأبيناً لفارس في حلْبة الأدب، ولكنها تقرير واقع تعايشت معه، فقد تفاعلت الذكريات في ذهني على شكل شريط حافل بالوقائع والأحداث، تتراءى لي من خلال صورة الفقيد العزيز في إطار المودة المتبادلة بيننا، فقد كنت - ولا أزال - أتمثله في ندوته الخميسية، وفي مجالسه الخاصة، ومن خلال أحاديثه الشائقة، كان كريماً بشوشاً، يتمتع برحابه الصدر، وكرم النفس، وسعة الأفق، والتسامي فوق الخلافات، حتى لو سمع أو قرأ كلمات استفزازية، فإنه لا يخرج عن وقاره، ولا يهبط إلى المهاترات، فهو يرتفع بنفسه فوق التفاهات، ويعلو بقامته على الصغائر، ولا يلتفت إلى ما يقال من نفسه أنه فوق ما يقال.
وأبرز خصائصه الخلق الحسن الذي اشتهر به وعرف عنه، فقد وهبه الله حسن الخلق، وأفضل ما يمنح الإنسان هذه السجية الرفيعة، فقد مدح الله رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه على خلق عظيم، وفي الحديث ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة.
ولم نشهد طَوال معايشتنا لهذا الصديق النبيل ما يمس حسن خلقه ولو من خلال إشارة عابرة، ففي الندوة التي كان يقيمها أسبوعياً، ويحضرها صفوة الرجال الكرام، من علماء ومثقفين وأصحاب رسالة فكرية، وكانت مفتوحة تماماً وأحياناً كان يقتحمها جهول مجهول من الثقلاء في بعض الأوقات - وهي فترات نادرة - وتكون أحاديث مثل هؤلاء الثقلاء مملة، خارجة عن إطار الندوة، وخارجة عن أسلوبها، ولكن أبا عمار - طيّب الله ثراه - يحتملهم بكل ما فيهم مما لا يحتمل، ولا يبدو عليه شيء من التبرم مما يقولون أو التجهم، وإن كان لا يقرهم على ما يقولون ولكنه يعمهم بحسن خلقه".
وكتب الدكتور محمد بن سعد الشويعر مقالاً عنوانه "فقيد الأدب" نشر بملحق الأربعاء بتاريخ 20/4/1414هـ تحدث فيه عن جوانب كثيرة مما يتميز به عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - ومن تلك الصفات النبيلة الحلم الذي يتمتع به، والذي يصون به لسانه ويده ممن يدنس نفسه وخلقه، فقال: "حدثني أحد الأدباء الكبار في الوطن العربي بعدما خرجنا من إحدى أمسيات أبي عمار الأدبية أن الرفاعي فريد من نوعه، يجذب الناس بخلقه الرفيع، ورصانته الأصيلة، لقد تمنيت يوماً أن أراه مغضباً، رغم ما يطرح في أمسياته من نقاش حار، فلم يتيسر ذلك، فهو في هذا الميدان عملة صعبة، قلما يجود الزمن بمثلها".
هذه شهادة منبعثة من إحساس عن معايشة، تعطي المستمع والقارئ فكرة عن هذا الرجل، والحمد لله أقول: لقد تابعته في جلسات أخرى، وحرصت على استجلاء الجانب الخلقي لديه، فرأيته كما قال ذلك الأديب، متواضعاً في الحديث، يستمع أكثر مما يتكلم، ينزل الناس منازلهم، لا يحب أن يغضب أحداً، ولذا فإنه يفرض شخصيته على جليسه، بألا يغضبه هو، من باب "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به".
وفضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل كتب مقالاً بجريدة الجزيرة بتاريخ 2/4/1414هـ عنوانه "أبو عمار الحلم والأناة" جاء فيه: "الحلم والأناة خَصلتان يحبهما الله ورسوله، وقد مدح بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وافد بني عبد القيس (1) .
ويذكر التاريخ أعاجيب من حلم قيس بن عاصم - والأحنف بن قيس ويكاد العقل لا يصدق كثيراً من تلك الأعاجيب، ولكن من عاشر أبا عمار عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - يصدق بكل تلك الأعاجيب، إلا أنه يعلم أن الحلم والأناة خصيصة نادرة في نوادر الرجال.
ولقد ضمنا مجلس سماحة الشيخ عبد الله بن حميد بمكة المكرمة بحضور عبد الرحمن عبد الكريم الخياط - رحمهم الله جميعاً- وكان في المجلس كبير سن فأمعن كثيراً فلا كلام يغيظ مثل أبي عمار، وكان سماحة الشيخ ابن حميد يتململ ويصرف المهرج برفق ثم أسكته، ثم التفت إلى أبي عمار وناجاه قائلاً: إن هذا رجل كبير مخرف لا يسلم منه أحد، وعجب من صبر أبي عمار وأنه لم يتحرك منه ساكـن ثم أعجب مـن ذلك
مشاركته في الحديث - لما أصبح الحديث مفيداً - وكأن شيئاً لم يكن.
ومرة أخرى لقيت معاليه في منزل الشيخ سراج إبراهيم في دعوة خاصة - أظنها مناسبة زواج - وكان فيه أحد الشباب المتحمسين، فكان كلامه موجعاً في حق شيوخ الصحافة والأدب، وتناول أبا عمار بأنَّ مساهماته ينقصها كيت وكيت. فما زاد أبو عمار على قوله: اذكر نموذجاً واحداً من أعمالي تعيِّنه لي وتعيِّن المأخذ عليه لنناقشه، فبجَم الشاب وقال: لا أذكر شيئاً الآن.
قال أبو عمار: إذا تذكرت فأخبرني. وكلما أعاد الشاب الأسطوانة أعاد عليه أبو عمار التساؤل ببسمة واثقة".
ولقد تعرض عبد العزيز الرفاعي لمواقف مماثلة، من أشخاص ما كان يعتقد فيهم أنهم يحملون بين جوانحهم قلوباً تنضح بالحقد والكراهية، ووقفوا يشحذون أنيابهم وأظفارهم ليخدشوا شموخَ وكرامةَ وكبرياءَ عبد العزيز الرفاعي، ولكنه لم يتلفت إليهم. ووقف صخرة صماء، تكسرت أمامها كل معاول الهدم والكراهية، وأصبحوا صورة صادقة لذلك البيت الشعري الذي يقول:
كناطح صخرةً يومـا ليوهنَهـا
فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوعـل
ولو حاولنا الاستمرار في سرد أمثال هذه المواقف، لاستغرق ذلك منا صفحات عديدة، ولكنني أكتفي بما ذكر، وأحيل القارئ إلى ما تكرمت بجمعه بعض المؤسسات مثل تهامة وعكاظ والمدينة، مما تم نشره من مقالات تأبينية، تناولت كثيراً من الجوانب المشرقة التي تملأ سيرته الذاتية، وسوف يلاقي القارئ فيها ما يروي عطشه، ويبل غليله، ويساعده على الوقوف عن كثب على مادة علمية، تبين له كيف تظل القمم شامخة تهزأ بالرياح، تهدي السائرين بما تشعه من أنوار، لا أقول كالمسلة، ولا أقول كالمنار أو الفنار، ولكنها أسمى وأعظم من ذلك كله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :655  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج