شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ب- "التوازن" في علاقة المسلم بالآخرين:
مما سبق توصلت إلى عناية المنهج الإسلامي -من خلال البيان النبوي- بتكوين المسلم في ذاته تكويناً "متوازناً" في مشاعره المختلفة وفي سلوكه اليومي، وهنا يعنيني في ضوء المنهج ذاته – أن أبين كيف أن علاقته بالآخرين أقيمت على المعيار نفسه.
فالمسلم في ضوء المنهج لا يقاطع ولا يدابر، ولا يعتزل الناس اللهم إلا إذا اعتزل حيناً، ليستعيد "توازنه" وليراجع علاقته بخالقه، ويتدبر سائر أموره، لئلا تستغرقه صوارف الحياة، فينشط دون أن يدري، لا سيما والاعتكاف في الأيام الأخيرة من رمضان مدعو إليه، ربما لهذا السبب.
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره (1) .
قد يجنح المرء في بعض الأحيان إلى الاستجابة لداعي العزلة، والفرار من الناس والانطواء على نفسه، وقد يتوهم في هذا الحديث ما يعزز ميله ويقوي انكفافه عن الناس.
لكن تدبر الحديث، وتأمل حالة السائل، وجواب الرسول (صلى الله عليه وسلم) له يُبعد هذا الوهم، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يراعي ظروف السائلين وأحوالهم، فيجيب كل سائل بما يراه شافياً له، ما لم يكن الاستفهام عن أصل ثابت.
فالسائل أعرابي، ويغلب على طبيعة بعض الأعراب الجفوة والغلطة ومتانة البنيان، ورجل هذا شأنه فإما أن يجاهد بنفسه وماله، وإما أن يدع الناس من شره، ويعتزل في شعب من الشعاب يعبد الله، فهذا التوجيه النبوي مناسب أشد المناسبة للأعرابي السائل ولمن كان على شاكلته، "متوازن" تمام "التوازن" مع ما يبدو منه.
فالعزلة في رأي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يندب إليها في بعض الأحيان، ولبعض الناس، ولنا في الإسلام صُوَىً نهتدي بها في العزلة والاختلاط، فقد ندب إلى العزلة في أيام معدودة في السنة بكاملها، حيث الاعتكاف في رمضان، لمراجعة النفس والعودة بها إلى "التوازن" ومع ذلك نجد القرآن الكريم يدعو إلى الاختلاط بالناس ليس على مستوى المجتمع الواحد بل بكل المجتمعات حيث قال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا (2) .
فالحديث السابق يقوم على توجيه كل فرد إلى ما يستطيعه من الأعمال وبذا يتحقق له "التوازن" مع نفسه ومع الآخرين.
هذا من جهة المضمون، أما الشكل فقد روعي فيه معيار "التوازن" حيث كانت الإجابة موجزة بليغة "تتوازن" مع المواقف ومع السؤال، وقد وصف "الرافعي" بلاغة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في تناسب مقدار كلامه مع كل موقف بقوله إنه كان "لا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه، ولا تستزله الفجاءة وما يبده من أغراض الكلام، عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد الناظر إلى كلامه طريقاً يتصفح منه صاعداً أو منحدراً" (3) .
وأظن أن الرافعي عنى بالنمط الغريب، ما أقصده بـ "التوازن" إلا أن المصطلح لم يتبادر إليه، وحبذا لو استشرف الأديب المسلم هذا النمط من الأداء فخاطب قراءه بما يتناسب وظروف حياتهم اليومية، إذاً لضمن التجدد والإقبال على أدبه، لأن الناس يقرأون لمن يخاطب عقولهم ويلمس مشاعرهم، ألم توصف البلاغة بأنها "إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم" (4) .
إذا كانت العزلة تمثل جانباً من حياة المسلم في بعض المواقف فإن الاختلاط بالآخرين، وإقامة العلاقات والمعاملات معهم هي القاعدة الأساسية لحياة الجماعة الإسلامية، بل المجتمع الإسلامي قاطبة.
ويتجلى منهج "التوازن" هنا مؤكداً أن الحياة الاجتماعية لا يستقيم طريقها، ولا يعتدل ميزانها، ولا تثمر إلا خيراً ما دامت في إطار هذا المنهج، بل إن الحضارة التي يقيمها المجتمع الإسلامي لنفسه لا يستقر بنيانها ولا يرتفع شأنها إلا إن قامت في ظل هذا المنهج، فشيخوختها وتحللها ووهنها مرهون بالاختلال في هذا المنهج، سواء في عباداتهم أو معاملاتهم أو حدودهم، ويقاس على ذلك الأدب بطبيعة الحال.
2- عن عبد الله بن عمرو قال: دخل عليّ رسول الله فقال: "ألم أُخْبرْ أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: بلى. قال: فلا تفعل، قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزَوْرك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإنك عسى أن يطول بك عمر، وإن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن بكل حسنة عشر أمثالها، فذلك الدهر كله، قال: فشددت فشدّد عليّ قلت: فإني أطيق غير ذلك، قال: فصم من كل جمعة ثلاثة أيام. قال: فشددت فشدد عليّ، فقلت: إني أطيق غير ذلك، قال: فصم صوم نبي الله داود، قلت: وما صوم نبي الله داود. قال: نصف الدهر" (5) .
فهذا الحديث والذي سبقه "متوازنان" معاً أتم ما يكون "التوازن" فبينما يوجه الحديث السابق إلى الجهاد بالنفس والمال، أو الإخلاد لعبادة الله في شعب، فإن هذا الحديث يمنع المسلم عن الانقطاع للعبادة وترك ما عداها. ففي هذا الحديث نجد الراوي كان منعزلاً عن الناس بسبب العبادة، فهل أقرّه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على شرف ما انقطع له؟.
لا. لم يُقرَّه الرسول (صلى الله عليه وسلم) "لما في التفرغ والعبادة والانصراف عن غيرها من شؤون الدنيا من إضواء للبدن، فلا يتقوى على العبادة عابد، وفيه اعتزال للحياة، ولو كثر المنقطعون للعبادة على هذه الوتيرة، وانصرفوا إليها عن غيرها من زراعة وتجارة وصناعة لمني المجتمع بالشلل والتدهور، واختل "توازنه" فوهن ومرض.
ومن هنا فلا أتصور أن من يصلي الليل أبداً، ويصوم ولا يفطر، ويعتزل النساء، فلا يتزوج يكون على الصراط المستقيم، وعلى سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إن الانقطاع لعبادة عن غيرها من أعمال الدنيا غلو ورهبانية يرفضها الإسلام، وجنوح قد يستعذبه من ضلت سبيله، وثقلت عليه وطأة الأيام في غمرة ألم أو محنة، وفيه إخلال "بالتوازن" على الرغم مما قد يجد من لذة الاستغراق والإيغال.
فالغلو: هوى يستعذبه أصحاب النفوس المعتلة.
والغلاة: في حقيقة أمرهم مختلون؛ أعداء أنفسهم وأعداء الحياة، ومن كان كذلك فهو على غير منهج الله ورسوله.
"فالإخلاد للعبادة من غير عمل للدنيا كالإخلاد للدنيا دون عبادة، وكلاهما يعكس الفرار وضعف الإرادة، والاستسلام لهوى النفس، لأن المجاهدة لا تكون بمحق الفطرة، وقتل الرغبات، بل تكون في الاختيار الواعي لما يحفظ على المسلم روحه العابدة، وبدنه القوي وعقله الناشط، وعلاقته بالحياة والناس.
وفي المقابل، فإن من خوت أرواحهم، وخلت من ذكر الله قلوبهم، وألهتهم الحياة بشواغلها، واستغرقتهم بأفراحها وأتراحها – قد اختل "توازنهم" وأصبحوا عرضة لرياح الرضى والغضب، وهم في عملية التدافع والانهماك لا يستبينون مرفأ وسرعان ما تحط قوافلهم على المرض، إن كان النفسي أو الجسدي" (6) .
وقد "وضح لنا عمر بن الخطاب" الطريقة المثلى في العمل حيث قال: "ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا، أو عمل للدنيا وترك الآخرة، ولكن خيركم من أخذ من هذه ومن هذه"، وإنما الحرج في الرغبة فيما تجاوز قدر الحاجة وزاد على حد الكفاية (7) .
هؤلاء رجال استوعبوا الإسلام حق الاستيعاب فتوازنت شخصياتهم خير ما يكون التوازن.
فمضمون الحديث يدعو إلى "التوازن" في إعطاء كل ذي حق حقه ابتداء بحقوق الجسد وانتهاءً بحقوق الناس.
ويستطيع الأديب القاص الاستفادة من هذا الحديث في رسم شخصياته وملابساتها وحوارها، فر يطغى عليها جانب اجتماعي معين على حساب الآخر، كل ذلك بشكل طبيعي غير مباشر وإلا كان في عمله الفني كسفينة بلا سُكَّان.
أما الشكل الذي صيغ فيه هذا المضمون فقد استعان بالطباق في بعض جمله كما في: قم ونم، صم وأفطر.
إلى ما تحمله ألفاظ الحديث من صدق الدلالة على معانيها بلا تزيد أو تنقص، وهذا بذاته يحدث شعوراً عميقاً في النفس بالسكينة والراحة وتأثراً بالجمال الذي لا صخب فيه.
وأنتقل إلى حديث آخر من الأحاديث التي تبرز فيها العلاقة الاجتماعية كعلاقة الإنسان بأبويه، فلا يخطئ فيه ملمح "التوازن" سافراً سفور الشمس في ضحوة صيف، فبر الوالدين، ورعاية حقهما أكثر الأمور تجنباً للاختلال، وانهيار الأسرة التي هي الخلية الأساسية لبنيان المجتمع، وترابطه وأي برهان أدل من الموازنة بين الجهاد في سبيل الله وبين الجهاد في الأبوين فيقدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الجهاد فيهما.
ونتبين مدى الخلل، وفداحة العواقب الاجتماعية لو فشا عقوق الأبناء للآباء، إنه ضد منهج الدين ومنهج الحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :464  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 79 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.