شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
27- عن أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بُدّ، نتحدث فيها، فقال رسول الله: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر، وكف الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) . وفي روايات أخرى: حسن الكلام (2) ، وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد (3) ، وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال (4) ، وأعينوا على الحمولة (5) ، وذكر الله كثيراً (6) واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم (7) .
والحديث الشريف يجمع آداباً جمة ذات دلالة واحدة ألا وهي العمل على كل ما يؤدي إلى تآلف المجتمع، لأن التآلف أهم وسيلة من وسائل قوة المجتمع، والبعد عن كل ما يؤدي إلى تنافره، فالتنافر ضعف والضعف قبح.
هذه الآداب يطالب بها المسلم وهو في الطريق، الطريق الذي يجمع فئات المجتمع الصالح والفاسد، القوي والضعيف، العالم والجاهل، الرجال والنساء، الصغار والكبار، وهو مطالب أن يعطي كل ذي حق حقه وإلا فلا يجلس.
فهو مطالب بأن يكون عالماً، ذا إرادة يقظاً، حراً يستطيع أن يتعايش مع كل المواقف، ولا أرى شيئاً يجمع كل هذه الصفات إلا أن يكون متوازناً، لأن جميع ما سبق من ملامح "التوازن".
فالرسول (صلى الله عليه وسلم) إذ يطلب من الجالس في الطريق أن يتجمل بهذه الآداب، كأنه يطلب منه أن يحتفظ بتوازنه طيلة جلوسه في الطريق وكأنه مركز لدائرة من الآداب الاجتماعية.
ولا أستطيع أن أتخيل إنساناً متصفاً بكل هذه الآداب دون أن أرى غلالة تعلوه من الجمال، الجمال الحقيقي الذي لا يستطيع أن ينكره إلا شاذ الطباع قبيحها.
أما الشكل الذي صيغت به هذه المعاني الجميلة، فأول ما يسترعيني فيه ذكاء الأسلوب، حيث اختار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) العبارة الذكية التي تقرع آذانهم لأول مرة، وهم في ميدان الأخذ والتلقي، وذلك بقوله: أعطوا الطريق حقه، بدلاً من أعطوا المجلس، فمن الجائز أنهم قد تلقوا آداب المجلس، والرسول (صلى الله عليه وسلم) من تربى على أسلوب القرآن الكريم حيث الدقة والجمال، لا يكرر العبارة إلا إذا لزم ذلك، لأن اللفظ عنده رسالة إلى أمة، فالجالسون في الطريق لم ينتبهوا إلى ذلك الفرق بين آداب المجلس وآداب الطريق، حتى تلفظ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: أعطوا الطريق حقه (8) لأنهم قالوا قبل ذلك: "مجالسنا نتحدث فيها" ومن هنا نجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يلفتهم إلى الفرق بين آداب المجلس وآداب الطريق. فهم في الطريق مشاهدون من قبل الغير، وكأنه بذلك يريد أن يوقظ في أنفسهم الشعور بالآخرين.
هذا الأسلوب عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث "التوازن" بين اللفظ والمعنى هو ما يجعلنا نتساءل عن مرد الجمال في البيان النبوي.
هل هو نابع من معاني الفضيلة التي يعبق بها؟ أم أنه نابع من الصياغة البديعة التي أظهرت تلك المعاني؟ وذلك أن اللفظ والمعنى عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متداخلان تماماً حيث لا يستطاع فصل أحدهما عن الآخر، أو تخيل أحدهما بمعزل عن الآخر.
وفي ميدان تربية المسلم التربية التي تنشئ الشخصية الجميلة المتوازنة، كان لا بد للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يبين حقيقة المسلم والمؤمن والمهاجر، لأن الإسلام لا يهمه إظهار الشعارات والألقاب التي يسعى لتحصيلها بعض الناس، قدر اهتمامه بتطبيق تلك الشعارات لذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
28- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. وفي رواية مسلم: والمؤمن من أمنه الناس (9) .
والنص السابق إذ يبين حقيقة المسلم والمؤمن والمهاجر فهو يدعو كل واحد منا إلى النظر في أعماق نفسه، ليرى هل هو ذلك المسلم الذي يسلم الناس من لسانه ويده، هل هو المهاجر لما نهى الله عنه؟ هل هو من يأمنه الناس؟.
فإن كان كذلك فإنه قد فاز بتلك الشعارات اسماً ومعنى، وإلا فليحاول أن يعالج الخلل الذي اعترى شخصيته مما جعل الاسم لا ينطبق على المعنى، وهذا يفقده الشعور "بالتوازن" النفسي المطلوب من أجل قوة الشخصية.
أما الشكل الذي أدى ذلك المعنى، فقد كان نموذجاً للأدباء المولعون بالفنون البلاغية. ونموذجاً للتوازن بين المتعة والفائدة فإن استخدام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لفن الجناس استخداماً رائعاً فيه المزاوجة التامة بين الزينة أو المتعة وبين الفائدة، فالجناس المستخدم في النص أتى لتأدية المعنى وتعميقه في نفس المتلقي، حتى ليشعر المتلقي أنه لخدمة المضمون أولاً وأخيراً. وهذا الاستخدام هو الذي امتدحه الجرجاني بقوله: "أما التجنيس فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان موقع معنيهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيداً.. إلى أن يقول فقد تبين لك أن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه إلا مستحسن، ولما وجد فيه معيب مستهجن" (10) .
إن الأحاديث الشريفة السابقة التي دارت حول آداب المسلم في ذاته، انطوت على قيم جمالية رفيعة، وكأن الإنسان فيها كالتمثال في يد النحات ما يزال يصوره ويهذبه ويجمله حتى ينتهي به إلى الشكل المناسب الجميل.
ثم إن تلك القيم لها أثرها الفعال للأديب القاص خاصة في رسم شخصياته، حيث يستطيع إبرازها عن طريق القصة، وليس معنى هذا بالطبع أن تبدو شخصياته كلها بالصورة المثالية التي تبعدها عن الواقع، وإنما يأخذ في اعتباره أن يصور الفضيلة والرذيلة والصفات والجميلة والصفات القبيحة، مع الإشارة بالجمال في مواطن الفضيلة، والتنديد بالقبح في مواطن الرذيلة، كل ذلك في إطار فني بديع بعيد عن أسلوب الوعظ والإرشاد التقريريين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :654  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 78 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج