شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
24– فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم):يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، وفي رواية أخرى ذكر: يسلم الصغير على الكبير (1) .
والحديث بهذا التفصيل يأخذ بعين الاعتبار عدة أمور:
قال "المهلب": تسليم الصغير لأجل حق الكبير، لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع، وقال "ابن العربي": حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل. قال "المازدي": أما أمر الراكب؛ فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطاً على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين. وأما الماشي: فلما يتوقع القاعد منه من الشر، فإذا ابتدأه بالسلام أمنه منه بذلك وأنس إليه.
... ولأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم، فسقطت البُداءة عنه للمشقة. أما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدأوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له (2) .
إذاً فالبدء بالسلام يكون دائماً للمفضل بشيء، فكان سلامه رفعاً لمن سلم عليه "فيتوازن" الاثنان.
فكل هذه التفضيلات لمن يبدأ السلام كانت آخذه بعين الاعتبار البعد عن الكبر، فما أجدر الأديب القاص أن يرعى هذه القيم في تناوله للشخصيات!.
والكبر – كما ذكرت سابقاً – فيه خروج عن منهج الاعتدال و "التوازن".
والمتكبر هالك لا محالة، إنه هالك في نفسه بفساد طويته وكبره وعُنْجهيته، وهالك فيما بينه وبين الناس ببغضهم إياه، ونَفرتهم منه، هالك فيما بينه وبين ربه لأنه لو كانت عقيدته الإيمانية بريئة من التكلف لما انتهى أمره إلى هذا التنطع والغلو.
فمضمون الحديث جعل من معيار "التوازن" معياراً أدبياً جميلاً يقوم عليه أدب التحية وقد صيغ ذلك المضمون بالشكل الذي يتناسب مع معانيه. وكان استخدام "فن الطباق" مناسباً تماماً هنا، وأظهر المعنى بشكل أبهى وأشرق، بما فيه من الجمع بين المتضادين:
- الماشي، القاعد.
- القليل، الكثير.
- الصغير، الكبير.
- المار، القاعد.
هذا الجمع بين الشيء وضده مما يقوم عليه معيار "التوازن" وهو في فن الطباق من الوسائل التي تجمل المعنى، إذا استخدمت دون تكلف كما في الأدب النبوي، حيث لا تكون الألفاظ هي الأساس والمعاني نافلة.
كما عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فالمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به" (3) .
ولذلك "ففصاحة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه ولا يتعلق بأسبابه متعلق" (4) .
لماذا؟ لأنها تقوم على ذلك المعيار – "التوازن" الذي كان عند رسول الله أسبابه الطبيعية، التي ساعدته على الاستمرارية، وطبعته دائماً بالجمال.
فإذا ما انتهى مشي المسلم إلى مجلس ما، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما يزال يؤدبه ويهذبه، فيعلمه كيف يجلس، ثم يعلمه كيف يتكلم وبماذا يتكلم.
25- فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه.
وفي رواية أخرى: ولكن تفسحوا وتوسعوا (5) .
قال "ابن أبي جمرة": "الحكمة في هذا النهي منع استنقاص حق المسلم المقتضي للضغائن، والحث على التواضع المقتضي للموادَّة، وأيضاً فالناس في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيء استحقه، ومن استحق شيئاً فأخذ منه بغير حق فهو غصب والغصب حرام، فعلى هذا قد يكون بعض ذلك على سبيل الكراهة وبعضه على سبيل التحريم" (6) .
فالنهي في هذا الحديث إذْ يقيم الرجُل الرجلَ ليجلس مكانه منصب كما شرحه "ابن أبي جمرة" على أمرين:
- إبعاد للكبر الذي قد يهيئ لصاحبه أنه أحق من ذلك الجالس.
- إبعاد للغصب الذي هو الاعتداء على حقوق الغير.
والأمران -كما هو ظاهر- مخلان بمنهج الصراط المستقيم وبالتالي فهما مخلان "بالتوازن".
والحديث على قلة ألفاظه لبنة من لبنات "التوازن" الذي يحرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على إقامته ما وجد إلى ذلك وسيلة، فهو حريص على جعل المسلم أنموذجاً للشخصية المتكاملة، فإن لم يتحقق التكامل التام، فيكفي استشرافه، وهذه العملية -أي توخي الكمال- ما هي إلا طلب "التوازن" الذي إن تحقق عكس جمالاً حقيقياً، وإن لم يتم بأن أصيب الشخص بالإفراط أو التفريط، كان قبح السلوك وذلك كما يقول "أبو منصور الفارابي": "متى زالت الأفعال عن الاعتدال.. لم يكن عنها خلق جميل" (7) .
ثم إذا انتهى به المجلس فجلس، ثم أخذ اكلام، نبهه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى أن يتدبر كلامه، ويختار ألفاظه، وحذره من مغبة الكلام دون وعي حيث قال:
26– عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم (8) .
والحديث بهذا الترغيب والتحذير يريد من المسلم أن يتدبر كلماته قبل النطق بها، فإن النطق بالكلمة قبل التدبر، قد يجر صاحبه إلى التهلكة وإلى الندم حيث لا ينفع الندم.
وكم من بيوت هدمت بسبب كلمة طيش، وكم من جماعات فرقت بسبب كلمة زلل.
والأمر للمسلم بالتدبر ووعي ما يقول، هو أمر لا يخرج عن معيار "التوازن" فالإنسان "المتزن" قلّ أن تسمع منه كلمة سوء. وهو الذي تخرج كلماته معبرة عن معانيه بكل دقة، فلا مجال لفهم شيء لا يراد فهمه ولا مجال عنده للتراجع عمّا يقول، فهو يعلم أنه: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (9) .
وحبذا لو أخذ الأديب المسلم من هذا الحديث درساً، فإن الفائدة ستكون طيبة بلا شك، حيث تعود الكلمة عنده مسؤولية ويعود يحكم بإرادته الكلمة، ولا تعود الكلمة هي التي تحكمه عندها فقط سيعود للأدب قيمته واحترامه ولا يدري فقد يتكلم بالكلمة يرفعه الله بها درجات.
إذاً فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعو المسلم "للتوازن" فيما يقول، ولذا فقد ساءه إفراط رجل في مدح صاحبه، فقال له: "ويحك قطعت عنق صاحبك مراراً، إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه إن كان يعلم ذاك كذا وكذا" (10) .
فالدعوة إلى تدبر الكلمة حتى تخرج طيبة، هي دعوة إلى جمال الكلام، وليس المقصود بالجمال هنا أن يتخير الإنسان ألفاظه متحلية بفنون البلاغة، معتقداً بذلك أنه يجمل ألفاظه، ليس هذا هو الجمال المقصود.
إنما الجمال هنا في اختيار الألفاظ التي تحمل معاني طيبة تخدم الغرض من الحديث، وتخدم الاتصال بالناس، بسهوله ويسر وأن تكون الكلمة تهدف إلى الخير، لا أن يُقصد بها شرّ.
والكلمة الطيبة لا بد أن يكون لها وقع جميل على النفس.
والكلمة الخبيثة لا بد أن النفس السوية تشمئز منها.
وقد اشترط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكلمة الطيبة للإيمان فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت (11) .
والحديث قد بني أسلوبه على المقابلة التي ترى الباحثة أنها تقوم على "التوازن". فقابل الذي يتكلم بالكلمة من رضوان الله، بحالة الذي يتكلم الكلمة من سخط الله.
فالحديث لا يخرج عن الدعوة إلى "التوازن" في المضمون وقد قام هو على "التوازن" في الشكل.
وقد أحدث ذلك "التوازن" جمالاً في النفس حبّب لها الكلمة الطيبة ورغّب فيها، والكلمة الطيبة فضيلة من الفضائل التي لها جمالها الذاتي، المنبثق عنها دون أي زخرف لفظي.
وقد تحدث عن جمال الفضيلة "د. عبد الله دراز" حيث قال: "إن مما لا ريب فيه أن لفكرة الفضيلة جمالها الذاتي، الذي تتذوقه الأنفس حتى عندما لا تستبي الأعين" (12) .
والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لا يكتفي بأن يذكر آداب المجلس فقط بل يبين حق أنواع مختلفة من المجالس، مثل الجلوس في الطريق رغم تحذيره منه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :520  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 77 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.