شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
22- فعن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف أو مخيلة، وفي رواية أخرى: فإن الله يحب أن يرى أثر نعمتِه على عباده (1) .
الإسراف: مجاوزة الحد في فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر، المخيلة: بوزن "عظيمة" وهي بمعنى: الخيلاء، وهو: التكبر.
وقال "الراغب": الخيلاء: التكبر، ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، و "التخيل" تصوير خيال الشيء في النفس.
ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة: أن الممنوع من تناوله أكلاً أو لبساً أو غيرهما، إما لمعنى فيه، هو مجاوزة الحد وهو الإسراف، وإما للتعبد: كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه.
قال الموفق "عبد اللطيف البغدادي": "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العُجْب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس" (2) .
وفي الحديث أمر بالاستمتاع بصنوف الأكل والشرب واللبس -وهذه من مقومات الحياة- فإذا بالإنسان يجد أن صنوف الطعام المتعددة مباحة، ويرى صنوف اللباس والزينة على كثرتها واختلافها مباحة.
- وذلك إذا استثنينا ما حرمه الشرع من الطعام واللباس، وهو بالقياس إلى المباح قليل لا يذكر، وقد قال "ابن عباس": "كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان سرف ومخيلة" (3) .
فهذه دعوة للاستمتاع بمباهج الدنيا -والنفس مجبولة على حب الدنيا- قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتيِ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (4) .
ولكن هذا الاستمتاع العام الشامل يظل مباحاً مهما كثر وتنوع ما لم يدخله: "سرف" أو "مخيلة".
والسرف: في الشريعة لم يقيد بمقدار معين، أو بطريقة ما. لأنه معيارٌ يختلف باختلاف الحالة المادية، فما يعد سرفاً وتجاوزاً للحد عند أسرة، ربما لا يكون كذلك عند غيرها، بل لو اتبع رجل ميسورٌ أسلوب الحياة عند فقير، لعد ذلك بخلاً، ولخرج بطريقته هذه من حدود المندوب إلى المحظور، لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
وعلى هذا فالأمر بالاستمتاع بما أحل الله من ألوان الطعام والشراب واللباس لم يكن مضبوطاً إلا بمعيار "التوازن".
وهنا قد يعترض معترض على ما ذهبت إليه من شرح الحديث السابق بالحديث الصحيح الضي يقول فيه (صلى الله عليه وسلم):
إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (5) .
فالحديث في الظاهر يدعو إلى عدم الاهتمام بالمظهر، بدعوة أن الله عز وجل لا ينظر إلا إلى قلوبنا.
وهنا أرجح أن الحديث الشريف يتوجه إلى من يتكالبون على المظهر فينفقون جلّ أموالهم عليه، وكأنهم في سباق مع غيرهم من الناس، ناسين حق الله عليهم في ذلك المال وفي تلك الأجساد -والحياة مليئة بتلك النماذج- لذا كان الحديث كالمعترض لهم في ذلك السباق اللاهث، يقول لهم: توقفوا، اهدأوا، فإن الله لن ينظر إلى تلك الأجساد والصور، التي أخذت أكثر من حقها من الرعاية والزينة.
و "الصدقة" في ذلك الحديث كانت كالمحطة التي يقف عندها المسلمون "ليتوازنوا" فيوازن كل منهم نفقاته فيضع مأكله ومشربه وملبسه في كفة وصدقته في كفة أخرى، ومن فضل الله على عباده، كان ما يطلبه منهم في الصدقة قليلاً بالنسبة إلينا، كثيراً عنده سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مَائَةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (6) وبذا تتعادل الكفتان.
إذاً فلا تناقض بين الحديثين، بل يعمل بها جميعاً، وهذا هو منهج الصراط المستقيم، ولو دققنا النظر في الأشخاص الذين لم يتخذوا ذلك المنهج، لوجدناهم صنفين:
الأول: ترك العِنان للأجساد أن تسرف في المأكل والملبس، فأثر ذلك على مظهرهم حيث ترهلت أجسادهم فخرجت عن مقاييس الجمال، وترهلت نفوسهم بالإسراف والاعتداء على حدود الله، فلا يُرى في تلك الأخشاب المسندة جمال.
والصنف الآخر: المتزهدون: أغلقوا أمعاءهم عما أحل الله، وألبسوا أجسادهم ما يستقبح من اللباس، بحجة قهر النفس وتهذيبها، فإذا بتلك الأجساد الضعيفة من سوء التغذية القبيحة من سوء فهم الجمال، تصبح عدواً لكل جميل.
والصنفان خرجا عن حدود الصراط المستقيم، وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيها ظفر زيادة أو نقصاً" (7) .
أما من اتبع قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير سرف ولا مخيلة فهذا هو الإنسان "المتوازن" الصحيح الجسد، الصحيح النفس.
ومن هنا استنبطت قيمة "التوازن" في تحقيق الجمال الجسدي والروحي فالوصول بالمسلم إلى أن يكون جميلاً هو الهدف المبتغى من وراء أمره بالاعتدال والتوازن.
أما عن ذلك المعيار، وما استفاده منه شكل الحديث "فالتوازن" بين اللفظ والمعنى، حيث بساطة الألفاظ توحي ببساطة الحياة وعدم الإسراف والتكلف. من مقومات الجمال في ذلك الحديث.. وإني لأجد من النقاد المحدثين من يعزز ما ذهبت إليه، ويؤكد ذلك، ومنهم د. "محمد زكي عشماوي".
الذي يقول: "وما نظن أن هناك اليوم من النقاد المحدثين من يجادل في أن الجمال ليس محصوراً في الزخرف أو الاستعارة، ومن البديهي أن يخلو بيت الشعر من الصور البيانية ويحقق قمة الجمال في التعبير الفني، بل إن من الشعر ما لا يعدو مجرد التعبير عن حالة نفسية تعبيراً بالغ التأثير قوي الإيحاء، وهو بهذا وحده قادر على أن يبلغ الجودة لسذاجته وصدقه"، يقول "كروتشه" في هذا: "إن التعبير المناسب إذا كان مناسباً، كان جميلاً كذلك، لأن الجمال ليس إلا القيمة المحدودة للتعبير وبالتالي للصورة" (8) .
يلفتنا الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى جانب آخر في سلوك المسلم، يعلمه فيه كيف يكون جميلاً، استتماماً لصورته "المتوازنة" فيقول (صلى الله عليه وسلم):
23–عن أبي هريرة رضي اله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعوْن، وائْتوها تَمْشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتمُّوا.
زاد مسلم في رواية له: فإن أحدكم إذا كان يَعْمدُ إلى الصلاة فهو في صلاة (9) .
فإذا كان الأمر هنا بالمشي بطريقة هادئة متزنة، وهو ذاهب إلى الصلاة، وما في الصلاة من الحرص على أدائها في جماعة، وفي وقتها، فكيف ببقية الأمور؟.
ألا ندرك من هذا الحديث، الحرص المستمر على ظهور المسلم في كل تصرف بشكل فيه وقار وسكينة وخاصة حين يقتضي المقام توقراً، كما في الذهاب إلى الصلاة.
إن ما نراه الآن من مظاهر ظالمة للإسلام، هي في الحقيقة من سوء فهم المسلمين لتعاليم الإسلام.
إن الرسول الكريم عليه "أفضل الصلوات والتسليم" وهو يعلم المسلم كيف يذهب إلى الصلاة، إنما يعلمه كيف تكون مشيته في بقية يومه، ويعلمه كيف يبدو وعليه الوقار والسكينة، لأنهما مبعث احترام الآخرين للشخص، بل ينهاه في حديث آخر عن أن يمشي في نعل واحدة حيث قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، ليحفها أو لينعلها جميعاً" (10) . قال "الخطابي": "الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك ونحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى فيخرج بذلك عن سجية مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار، وقيل: لأنه لم يعدل بين جوارحه. وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي أو ضعفه وقال "ابن العربي": قيل العلة فيها أنها مشية الشيطان، وقيل: لأنها خارجة عن الاعتدال".
وما يهُمني من كل الشروح السابقة هو الدعوة إلى "التوازن" لأنه سبب الجمال، فالإنسان مفطور على حب الاعتدال، فإن رأى ما فيه خلل أنف منه وأنكره، وإن رأى ما هو "متوازن" مستقيم رضي عنه وأكبره.
إذاً حتى المشية طلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ألا تخرج فيها عن الاعتدال الذي هو سمة التناسب والجمال.
فالمضمون كان شريفاً، والشكل كان بليغاً، وهذا يذكرني بقول "الجاحظ" في الكلام الجميل: "وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه.. فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً من الاستكراه، ومنزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة" (11) .
ثم يوجهنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أدب آخر هو أدب التحية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :632  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 76 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.