شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
19–عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إذا أتيت مضْجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شِقِّك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة (1) .
هذا الحديث يتناول طهارة الإنسان كله جسداً وروحاً، فالدعوة للوضوء قبل النوم دعوة للطهارة حتى في ساعات النوم، حيث يصبح النوم بهذه الصورة كأنه تلبس بالعبادة لأن الجسد يجم بالنوم من هناء اليقظة فيقوى على مواصلة العمل والعبادة في اليقظة. وفي الوضوء وإسلام الوجه لله، وتفويض الأمر له، فيه معنى اللياذ إلى الله وحده فهو المنجى والملجأ.
كما أن طهارة الروح، وتخليصها من الشوائب التي تعلق بها من ممارسات الحياة قبيل النوم فيها استعادة للتوازن الذي ربما تأثر قليلاً أو كثيراً أثناء السعي بالنهار، والسعي والزحام والمصادمة كلها خليقة – أن تزلق الإنسان في هنة من الهنات في قول أو فعل أو حتى في خاطر يلم له...
ومن هنا تعدل طهارة الروح قبل النوم طهارة الجسد، فيكون المسلم بهذه الطهارة متوازناً روحاً وجسداً، بريئاً من القبح الذي يحدث خللاً.
فمضمون الحديث تحقق فيه معيار "التوازن" بين طهارة الجسد وطهارة الروح، فكم من شعوب تتخذ من أدب الغسل، أو الاستحمام قبل النوم عادة لها، ولكني لا أتصور أن أياً من آداب الأمم اهتم بطهارة الجسد والروح على هذا النحو الذي حفل بهما الإسلام والطهارة في حد ذاتها من أهم وسائل الزينة والجمال، ولا أحد ينكر ذلك.
فالدعوة إلى الطهارة هي دعوة إلى التجمل حتى في ساعات الليل، وأي جمال؟ الجمال الحقيقي الذي "يوازن" بين جمال الروح وجمال الجسد، لا يطغى فيه جانب على جانب آخر هذا من جهة المضمون.
أما الشكل فقد تحقق فيه "التوازن" في استعانته ببعض الفنون البلاغية:
-التي أرجح أنها تقوم على التوازن بناء على ما فصلته في الفصل الثاني – مثل: الطباق في: رغبة ورهبة، منك وإليك. "التوازن" الموسيقي الناتج عن "توازن" مقادير الجمل: "فأسلمت وجهي إليك" يتوازن مع: "فوضت أمري إليك..." الخ.
وساعد في "توازن" النغمة استخدام السجع غير المتكلف، وحاشا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يتكلف قولاً وهو الذي يقول: هلك المتنطعون قالها ثلاثاً.
أما ما يلاحظ من سجع في بعض كلامه (صلى الله عليه وسلم) فهو ما يجيش في صدره فيقذف به على لسانه، دون إعمال الخاطر، أو كَدَّ القريحة.
ثم التوازن في النص السابق يتجلى أيضاً في إيقاع الحديث الهادىء، وسكون الليل، وهدوء نسماته، فإذا بذلك الإيقاع يأخذ شكل التنغيم الذي ينغم به لطفل قبل نومه، فما يكاد يصل الإنسان إلى آخر لفظة في ذلك الدعاء إلا ويشعر بالسكينة، فينام قرير العين طيب النفس.
وهكذا ألحظ أن معيار التوازن حقق جمالاً في الحديث السابق من جهة المضمون، ومن جهة الشكل.
وما الجمال الفني في أبسط صوره إلا التناسب بين اللفظ والمعنى "فالأثر الأدبي أو الفني لا يكتمل خلقه ولا ينهض بمهمته إلا إذا تم فيه "التوازن" بين القوة المعبرة والقوة المفسرة" (2) .
فإذا كان المسلم يستقبل ليله قبل النوم بهذا التهيؤ، فكيف بيقظته وهو يعلم أن الله ما خلقه إلا لعبادته. ومن فضل الله عليه جعل هذه العبادة متعلقة بكل ما يقوم به من عمل أو قول.
فإذا ما استقبل الإنسان يومه وهو يدرك أنه يعمل عابداً لله ويعبده عاملاً، اختفى من حياته الفراغ والعبث، وهما الآفتان التان تقضيان على عمر الإنسان.
الفراغ هو الوقت الذي يضيعه الإنسان دون عمل، والعبث هو الوقت الذي يضيعه في عمل لا جدوى فيه.
أما أن يعمل الإنسان ثم يعطي نفسه قسطاً من الراحة، فإن هذه الراحة لا تعتبر فراغاً، بل هي الوقود الذي يشحن به جسد ذلك العامل.
كما أن لهو الإنسان بنوع من أنواع الهوايات على تنوعها لا يعتبر شيئاً بل هو من الترويح للنفس ومن باب "التوازن" بين الجد واللهو اللذين يحتاجهما المسلم لمواصلة السعي على الصراط المستقيم.
ونتأمل الحديث الشريف التالي فنقف منه على هذه المزاوجة المعجبة بين الحياة والموت، والصحة والقسم، والفراغ والشغل، والغنى والفقر.
20- فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لرجل وهو يعظه: اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سِقَمِك، وفراغك قبل شُغْلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك (3) .
أي أن المسلم هو من يتذكر الفقر في وقت الغنى، والهرم في وقت الشباب فيعتدل ميزانه ولا يستغرقه الزهو بما هو فيه، ويتقي بهذه اليقظة الإفراط والتفريط.
ألا يتضمن هذا الحديث الشريف تنبيهاً متصلاً أن يكون المسلم في يقظة مطردة، ولا يغفل بالحاضر عن الماضي ولا بالذاهب عن الآتي، ولا بالصحة عن السقم ولا بالراحة عن الشغل؟.
إنه يقتضي من المسلم أن يكون من كل أموره كَرُبَّان سفينة يقدر ويتوقع ويتهيأ لجميع الاحتمالات وهو يمخر عباب البحر إلى أن يصل إلى شاطىء العمر.
أي أن يكون في حال من "التوازن" فإن غفا أو غفل ضل عن الصراط، واستحال عليه الوصول.
فمضمون ذلك الحديث هو أن يستغل المسلم وقته وظروف حياته بما يجعله "يتوازن" دائماً مع تغير الزمن وظروف الحياة.
واستغلال الوقت والظروف بالطريقة التي أرادها الرسول (صلى الله عليه وسلم) لن يثمر إلا خيراً والخير جمال في كل الأديان والمعتقدات والمذاهب.
وعدم استغلال الوقت والظروف بما يرضي الله سيعود بالشر، والشر خلل وقبح.
أما الشكل الذي صيغ فيه هذا المضمون فيقوم على "التوازن" أيضاً، ومن دلائله الطباق والسجع اللذان اقتضاهما المعنى.
والإنسان وهو يسعى في الحياة قد يعتريه في غفلة من غفلاته شعور بالظلم، فهو يرى غيره أغنى منه أو أعلم منه، أو قد ينظر إلى غيره على أنه أجمل خلقاً أو أكمل، وهو إذ يعتريه هذا الإحساس يشعر بخلل التوازن النفسي داخله، مما قد يجعله يشعر بالحقد على هؤلاء الذين فضلوا عليه، لذا ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا أن يرشده إلى تصحيح هذه النظرة فيما روي:
21- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه (4) .
وفي رواية مسلم: "انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" (5) .
والمقصود في (المال والخلق): "أي الصورة" ويحتمل دخول الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا.
قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير، لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبداً في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على جال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه، فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر.
وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسداً، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعياً إلى الشكر.
وقد وقع في نسخة "عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" رفعه قال:
"خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به" (6) .
ومن هنا تظهر قيمة "التوازن" في مضمون الحديث فتوجيه النظرة إلى الحياة على تلك الشاكلة التي عرضها الحديث الشريف يضمن للإنسان حفظ توازنه النفسي.
كما أن مخالفة ذلك المنهج في النظر إلى أمور الحياة يمني بالإسراف عملاً وسعياً للاستزادة أو الإسراف قنوطاً ويأساً.
والاثنان خارجان عن منهج "التوازن" المقصود.
فألفاظ الحديث الشريف تشعر المرء إذا كان مفضولاً عليه في المال أو الخلق، فهو مفضول على غيره في أشياء أخرى لا يعدم وجودها وهذا الشعور كافٍ لتحقيق التوازن النفسي الذي يزيد الإنسان ثقة وقوة.
أما قوله: "ألا تزدروا نعمة الله" فهو تركيب وافٍ لتصوير حالة من فقد القدرة على تقييم ما عنده من نعم الله، فهو شبيه بمن يزدري هذه النعم جهلاً بحقيقتها.
و "التوازن" الملحوظ والمنشود بين عمل الجسد وعمل الروح، وبين اليقظة والنوم، والصحة والسقم كما جلته الأحاديث السابقة أجد مثله توجيهاً إلى "التوازن" في ممارسات يومية أخرى قد تظن صغيرة لكنها في الحقيقة إكمال لصيغة "التوازن" في تكوين المسلم، كآداب الطعام والشراب، والمشي والجلوس والسلام.. الخ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :630  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.