شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
16- وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهْدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً (1) .
فالصدق دليل على "التوازن" النفسي المنعقد على صحة معرفة الله، تلك المعرفة التي تجعل المرء يسير في الحياة وهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه لذا فهو صادق دائماً.
الكلمة عنده لها احترامها ولها حقها، وهي التزام، لذا نراه بموجب صدقة في كل ميدان، وفي كب درب يعطي كل ذي حق حقه من المحيطين به، كيف لا يكون كذلك، وهو لا يكذب ولا يعتذر بالأكاذيب، فإن رزق أخوه المسلم نعمة هنأه عليها، وإن مرض عاده وإن مات اتبع جنازته، وإن طلب منه شهادة أداها له، وإن استجار به أجاره إلى غير ذلك من حق المسلم على أخيه المسلم، كل ذلك يفعله بما يدفعه له صدقة، وهذا معنى: إن الصدق يهدي إلى البر، فإذا كان البر: كل ما يحبه الله من قول وعمل، كان الذي مر من أداء حقوق الغير، هو من البر الذي يحبه الله، فلا شيء يهدي إلى ذلك البر كالصدق.
يقابل الصدق الذي يثمر خيراً، بما يضع صاحبه على طريق الاستقامة ويجعله من الناس جديراً بالتقدير والمحبة، يقابله الكذب الذي لا يثمر إلا شراً، بأنه يفضي بصاحبه إلى الازدراء، فلا يعول عليه أحد، ويصير بذلك كَلاً على نفسه وعلى الناس.
فأي جمال ورضى قلبي في صدق الصادق، وأي قبح وسقم في اختلال الكاذب.
ومن هذا المنطلق ذاته يتجلى لنا جمال الكلمة الصادقة في العمل الفني بكل ضروبه ومذاهبه، وما أعنيه بالصدق هنا هو صدق الأديب الفنان في نقل مشاعره وأحاسيسه، بحيث "يتوازن" مع هذه المشاعر ليناً وشدة، وسخطاً ورضى... إلى آخر ما يعتور المشاعر من أحوال.
وكما أن المؤمن لا يكون كذاباً، فالفنان الموهوب لا يكون إلا صادقاً بالمعنى الذي أشرت إليه "والصدق في الفن جوهر بلاغته وسر دوامه، وهو في البيان وضع اللفظ في موضعه، ووصف الشيء بصفته ومطابقة الكلام لمقامه" (2) .
أما الأديب الذي تختل رؤيته فيسمى الشح اقتصاداً، والتهور شجاعة، أو يداجي فلا يصف ما يشعر به فهذا أكثر بعداً عن الصدق، وفنه زائف لا يخفى قبحه على ذوق الناقد البصير.
ومع المنزلة الرفيعة التي ينزلها الصدق من آداب المسلم فينبغي أن يكون التجمل به مثل غيره من الآداب منسجماً مع الموقف، "متوازناً" مع ما تقتضيه المقامات.
فهناك من المواطن والحالات موطن قد يضر فيه الصدق، فلكل سلوك وقته، ولكل كلمة أيضاً مقامها.
روى عبد الرحمن بن عوف أن أمه "أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي"، أخبرته؛ أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيراً وينمي خيراً. قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها (3) .
فكم من كلمة قيلت ظن أصحابها جهلاًُ أنهم مطالبون بالصدق فيها فقطعت بها صلات، وأغلقت بها بيوت.
وكم كلمة كذب ابتغي بها وجه الله وصلت بها روابط وعمرت بيوت وقد جاء في تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إن نَسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا (4) .
وعند "ابن تيمية" كلام يتفق وجهل المسلمين في المواطن التي يجوز فيها الكذب، فقد قال: "تبين أن المقصرين في طاعته -أي الله عز وجل- من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان، من غير نسخ بعد الرسول، لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير، ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك..
فمنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التي بعضها مباح بالاتفاق، وبعضها متنازع فيه، لكن الرسول لم يحرمه، فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله، وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصراً، ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها، ولكنهم لم يعلموها" (5) .
فهذا الكلام يقال عن الذين لا يعلمون المواطن التي يجوز فيها الكذب فيقعون بجهلهم في مشاكل جمة.
وقصارى ما أقول إن الصدق فضيلة نفسية واجتماعية، ومقوم أساسي من مقومات الشخصية القوية "المتوازنة"، امتدحه الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كما أشادت بقيمه وآثاره أحاديث شتى.
إن كل ما يناقض الصدق ويمحو أثره في بناء الشخصية الإسلامية مرفوض لأنه خلل وقبح وضعف يصادم منهج الإسلام، ومن ذلك مثلاً النفاق بصوره المختلفة، وهو داء أشد فتكاً بالفرد وبالمجتمع من آفات كثيرة، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) – في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:
17– أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها! إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (6) .
فخيانة الأمانة، والكذب، والغدر بالعهد، والفجور في الخصام كلها من النفاق وهو نقيض الصدق، وبقدر ما في الصدق من جمال لأنه يحافظ على "توازن" الفرد وانسجامه مع نفسه، وعلى "توازن" المجتمع وقوته فإن النفاق بصوره المتعددة لا تقوم به صحة عقيدة، ولا صواب رأي، أو سلامة نية، وإذ ذاك يكون وجود المنافق وسط الجماعة، وبالاً على نفسه وعلى مجتمعه، ويكون فقده أجدى من وجود.
ويقول "ابن حجر" رضي الله عنه تعليقاً على هذا الحديث: "أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية. فدل على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف" (7) .
فالحديث إذاً بهذه القيم التي يتضمنها ركن أساسي في تكون الشخصية المسلمة المتوازنة، وحجب أسباب الخلل والقبح عنها.
فإذا انتقلنا إلى الجانب الشكلي لأداء هذه القيم، أي للألفاظ والجمل ألفينا فن التقسيم ماثلاً، وهو لون بلاغي يبرز جماله بـ "التوازن" وبسلامة القسمة من الزيادة والنقصان.
ومن ثم يصدق القول بأن المباني لا تنفك من معانيها، فهي صورة ما فيها من قوة ولين، ومن تناسب أو تنافر، ومن وضوح أو تعقيد، "تتوازن" معها لا سيما في حالة صدق التعبير عنها.
وأتقصى أحوال النفس وما يصلحها ويكونها على هدي من منهج "التوازن" الذي هو ملاك القوة والصحة والجمال في الأرواح والأبدان كما هو ملاك القوة والصحة والجمال في الأداء الفني – فتبرز أمامي شيمة الحياء.
وقد يظن ظان أن الحياء انكفاف عن كل شيء، وتورع مطرد، وهذا؛ وهم فالحياء في مقامه لا يتذوق جماله الأفدام، غلاظ الأكباد، يحسبونه وهناً، وما هو كذلك، إنه في المسلم تورع عن المحارم، وعن التطاول إلى ما ليس له فيه حق، إنه انكفاف محمود حين يكون الانكفاف تسامياً وتعففاً عما يخدش الفضيلة.
قد يقول قائل: فما بالك به في الأدب؛ في الشعر وفي النثر وفي القصة؟.
وأجيب السائل: إن روعة الحياء في الفعل مثلها مثل روعته في القول، فقد يكون اللفظ ذاته حيياً خفراً أكثر ما يكون الفعل، وقد تكون العبارة مدثرة بغلاله شفة من الحياء تمنع المعنى أن يكون مبتذلاً وقحاً فجاً فما أجمل الحياء في قول النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
فجملتا "لم ترد إسقاطه" و "اتقتنا باليد" آيتان من آيات الحياء في العربية وفي العربي، عززه الإسلام بقوله (صلى الله عليه وسلم).
18- عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الحياء لا يأتي إلا بخير (8) .
والحياء كما وصفه بعض العلماء بقولهم: "حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.. قال أبو القاسم الجنيد -رحمه الله- الحياء رؤية الآلاء -أي: النعم- ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى حياء" (9) .
وأرجح أن الحياء: خلق تغذيه مراقبة الفرد لله، فمتى ما استشعر الإنسان هذه المراقبة استحى من الله حق الحياء.
فالحياء إذن بهذا المعنى عون للإنسان على مداومة السير على الصراط المستقيم -الذي وصفته الباحثة "بالتوازن"-.
فكلما استحى الإنسان من الله استقام على الصراط، وكلما خف حياؤه من الله خرج عن حدود الاستقامة.
و قد روى الترمذي: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: اسْتَحوا من الله حق الحياء، وقالوا: إنَّا لنستحي من الله والحمد لله، قال: ليس ذاك، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحْفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء (10) .
إن قيمة الحياء من صميم منهج "التوازن" في تربية النفس المسلمة حين يكون الحياء في مقامه، وتظهر قيمة الحياء بضدها حين يكون امرؤ وقحاً بليد الحس، وذلك مستقبح ومنفر وكريه لأنه خلل يخرج بصاحبه عن الاستواء، وكل ما يخرج عن "التوازن" والاستواء، فهو قبيح لا جمال فيه، في الأشياء أو الأحياء في المعاني أو المباني.
ألا ترى أن العبارة الأدبية تسقط فنياً بقدر الخلل الموجود فيها، سواء من حيث صحة الألفاظ والتراكيب والأوزان العروضية، فكل ما قدره البلاغيون والنقاد من جهة الألفاظ والجمل إنما هو سبيل استوائها وجمالها، وكل ما يخرج عن ذلك إنما هو قبيح لأنه خلل وفقدان "للتوازن" الذي ينفر العقل والحس والذوق.
وعودة إلى ألفاظ الحديث السابق، أجدها جمعت أكثر المعاني في أوجز الألفاظ دون خلل يلحق بالمعنى، وفي هذا الإيجاز المتمثل في البيان النبوي يقول "الرافعي": "إن اجتماع الكلام وقلة ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف ومع إبانة المعنى واستغراق أجزائه، وأن يكون ذلك عادة وخلقاً يجري عليه الكلام في معنى معنى وفي باب باب شيء لم يعرف في هذه اللغة لغيره (صلى الله عليه وسلم) لأنه في ظاهر العادة يستهلك الكلام، ويستولي عليه بالكلف، ولا يكون أكثر ما يكون إلا باستكراه وتعمل، كما يشهد به العيان والأثر، فكان تيسير ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) واستجابته على ما يريد، وعلى النحو الذي خرج به – نوعاً من الخصائص التي انفرد بها دون الفصحاء والبلغاء، وذهب بمحاسنها في العرب جميعاً" (11) . وهذه الخصائص التي تمكن "الرافعي" من الوصول إلى كنهها دون اسمها هي معيار التوازن.
نعم التوازن المطرد الذي أشرت إليه سابقاً، والذي يصعب اطراده إلا على من أدبه ربه فأحسن تأديبه.
وقد كان ذلك جواب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما تعجب أبو بكر -على فصاحته- مما يسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال له مرة: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي (12) .
يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (13) .
فجوهر كل دين من الأديان السابقة إنما هو مكارم الأخلاق، يضيف كل دين بقدر ما يطيق مجتمع من الناس في زمنه، فلما جاء الإسلام كانت البشرية كافة قد تهيأت عقلاً وروحاً وسلوكاً لاستقبال ما يتمم لها هذه المكارم، وتصير بها جديرة بمقام التكريم، واستخلاف الله لها في الأرض، وهو استخلاف يقتضيها أن تتأدب بآداب الشريعة، وأن تستهدي دائماً بصراطها المستقيم الذي لا أمت فيه ولا عوج.
فمكارم الأخلاق التي بعث محمد (صلى الله عليه وسلم) ليتمها هي: عنوان شرف المسلم، ودليل كرامته، ومبدأ: "توازنه" ومنهاج قوته، ورابطته بإخوانه فإن عاش عاش عزيزاً راضياً مرضياً عنه من ربه لأنه وعاها وتخلق بها، حتى صارت جزءاً من ذاته، بقدر ما يطيق وتمكنه بشريته من التأسي بها.
هذه الآداب التي تخص المسلم في ذاته وتمس علاقته بالآخرين يضمها البيان النبوي ليتأسى بها المسلم على مر الزمن، ويفيء إليها كلما امتد به الطريق وأجهده السعي والأحاديث السابقة كانت تدور حول علاقة المسلم بربه، وما تعكسه تلك العلاقة على تكوين شخصيته تكويناً داخلياً متيناً، ولكن علاقة المسلم بالله تمتد لتشمل جوانب أخرى غير الجانب الداخلي، إنما تمتد لتظهر في آداب المسلم في ذاته، يتمثلها في نومه ويقظته في مطعمه ومشربه، في حله وترحاله، فيما يأخذ به نفسه وفي سائر شؤونه فهذا حديث يهتم بآداب النوم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :485  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 74 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج