شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
13 – فعن أنس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه (1) .
أن يحب الإنسان غيره شيء عظيم، ولكن أن يصل به ذلك الحب إلى أن يساويه بنفسه، فلا يحب له إلا ما يحب لنفسه، ولا يكره له إلا ما يكره لنفسه أمر يحتاج بلا شك إلى قوة نفسية كبيرة لماذا؟ لأن الأنانية، وحب الامتلاك صفتان مزروعتان في الإنسان منذ نعومة أظفاره فالأطفال يغارون على والديهم من إخوانهم، بل يغار الطفل من أبيه على أمه، ومن أمه على أبيه، ويرفض الطفل إعطاء ألعابه أو ممتلكاته لغيره من الأطفال، وهكذا يظل حتى يكبر، ويظل والداه يعلمانه العطاء، ومحبة الغير منذ الصغر.
لذا كانت الأنانية وحب الامتلاك، تحتاجان إلى قوة نفسية كبيرة تشق من ذلك النهر جداول طيبة تسقي بها محبة الغير وحب الخير لهم.
فالأثرة، والنفور، وانكفاء المرء على نفسه والتدابر كلها مظاهر قبح وخلل، من شيم الطبع الفاسد، والأواصر الممزقة، تخرج صاحبها عن الانتظام في إطار الجماعات القوية العاملة.
إن حب الآخرين من حب الله لأنه قوام النفس الراضية، والشخصية "المتوازنة" والجماعة المترابطة، والحياة الناشطة، وأحرى بجميع الفنانين على اختلاف وسائلهم أن يجعلوا من هذه القيمة نبراساً، إذن لبرئ الفن من تحرفاته التي تسقم النفوس، وتدمر العلاقات، ولمشت الفنون في إطار منهج الإسلام "المتوازن" فاستقامت بها الحياة، ونعمت بها الأرواح.
وليس معنى ذلك أن يتعفف الأديب عن إضاءة مثل هذه المقابح في النفس البشرية نفرة منها، بل يعرضها في ملابساتها إمعاناً في تهجينها وتقبيحها.
أما الألفاظ والجمل التي استوعبت هذه القيمة العظمى، فهي على وجازتها أصفى وأدل ما تكون الألفاظ والجمل، فلا تقعر ولا تعقيد، ولا تمحل كأن المعاني في ألفاظها ماء صاف في بلَّور.
يقول "الرافعي" عن ذلك الأسلوب: "أما القصد والإيجاز والاقتصاد على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه، ومن طبيعة الألفاظ في معانيها، ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيه (اللفظية والمعنوية) فذلك ما امتازت به البلاغة النبوية، حتى كأن الكلام لا يعدو فيها حركة النفس وكأن الجملة تخلق في منطقه (صلى الله عليه وسلم) خلقاً سوياً أو هي تنزع من نفسه انتزاعاً وهذا عجيب" (2) .
نعم عجيب أن يظل ذلك المعيار مستمراً في كل ما ينطق به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع صعوبة استمراره عند غيره من الأدباء مهما استشرفوه.
بقليل من الفطنة والروية يدرك المتأمل أن الآداب التي يؤدب البيان النبوي بها المسلم تعمل عملها في كل ناحية من فطرته التي فطر الله عليها بشريته، من عقله وروحه وجسده وسلوكه حتى تنتهي به هذه الآداب إلى الصبغة "المتوازنة" التي تليق بكرامته وخلافته في الأرض.
فإذا كانت محبة الغير سجية إيجابية تضعه على طريق الخير والجمال والاستقامة فثم رذائل كثيرة سلبية تفضي به إلى القبح والاختلال وتنقيتها من النفس وتخليصها من أوضارها كتخليص الزرع من الحشائش الضارة التي تعوق نموه.
ومنها الظن السيئ بالآخرين، ومنها التجسس والتحاسد والتباغض والتدابر إنها جميعاً آفات متشابهة من حيث النتائج الوخيمة التي تضر بالفرد في ذاته، وتفتك بالروابط الاجتماعية فتك السوس بالخشب.
14- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إياكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً (3) .
فكل خلة من هذه الخلال جديرة أن تحيل حياة صاحبها إلى جحيم، وأن تحيل حياة الناس معه إلى مستنقع آسن لا يطاق، وناهيك بذلك قبحاً وخللاً ومجافاة لطريق الاستقامة التي تحفظ على الحياة قوتها وجمالها.
فالظن السيئ والتحسس والتجسس، والتحاسد والتباغض والتدابر كلها تمزق الأواصر، وتقطع التواصل، وتجعل المجتمع الذي تشفو فيه هذه السوءات مثل بيت متصدع، ولا يقوى على مقاومة أي طارىء يتهدده في الداخل أو الخارج.. وناهيك بمجتمع على هذه الحالة من التداعي والتنافر إنه قبح معنوي يزكم الأنوف بأنفذ روائح العفن.
هذه كلها أسباب تفضي إلى القبح، فانظر إلى جانب آخر حيث تفضي قيمة التآخي إلى التساند والتضافر والقوة.. في الأولى مقابح الخلل ومستكرهاته، وفي الثانية قوة التوازن وجماله، ألا ما أروع هذين المتقابلين في هذا البيان النبوي وأجملهما مضموناً وشكلاً.
إنني أحسب أن معيار "التوازن"هو الذي يدل على هذه الأعمال أكثر من سواه ولو أغفلناه في هذا الحديث لتمحلنا في إظهار سر جماله.
ومن بين آفات النفس البشرية التي حرصت أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على استئصالها واستبدالها بآداب صحية تغذي الجسد والروح معاً آفة البخل.
15- فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثُديْهِما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَتْ، أو وَفَرَتْ على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفوَ أثرهُ، وأما البخيل، فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لَزِقَت كل حَلْقة مكانها، فهو يوسِّعها فلا تتَّسع (4) .
قال الخطابي: "وهذا مثل ضربه النبي (صلى الله عليه وسلم) للبخيل والمتصدق فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستتر به من سلاح عدوه، فصبها على رأسه ليلبسها، والدرع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله: حتى "تعفو أثره" أي يفضل عنها فتمحو أثره على الأرض وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه، كلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته.. والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسخ لها صدره وطابت نفسه فتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه" (5) .
وإني لأتصور أن البخل والكرم صفتان موجودتان في كل إنسان ولكن على درجات متفاوتة، وقد يعترض معترض على هذا التصور بقوله: إن هناك من البخلاء من لا يتخيل منهم العطاء البتة حتى ضرب بهم المثل.
وهناك من الكرماء من أدى به كرمه إلى التهلكة.
و أرد على هذا بأن النموذجين السابقين: البخيل المقتر والكريم السفيه نموذجان للإسراف – إسراف في البخل وإسراف في الكرم – والاثنان خارجان عن الجادة، بدليل أن الله عز وجل امتدح الصنف الثالث وهو غير البخيل المقتر والكريم المسرف بقوله: وَالَّذينَ إِذَآ أنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (6) .
هؤلاء الممتدحون في الآية السابقة هم المتوازنون المتصفون بالصفتين الإمساك والإنفاق، كل يؤدي وظيفته تبع الموقف والظروف، لأن النفس إذا تركت على هواها دون توازن ركنت إلى صفة واحدة منها إما إمساك فقط، وإما إسراف فقط؛ والإسراف في الكرم كالإسراف في البخل، كلاهما مميت، يميت الأول غرقاً، ويميت الثاني عطشاً.
والحديث الشريف يعرض الصورتين: البخل والكرم، لينفر من الأولى ويدعو إلى الثانية بأسلوب التشبيه متخذاً من أسلوب القرآن الكريم موجهاً له، فصورة المنفق يعرضها بقوله: "فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت" مهتدياً بذلك بقول الله عز وجل: وَمَآ أَنفَقْتُم من شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ (7) .
وصورة البخيل يعرضها بقوله: "وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها" وكأنه يذكرنا بقول الله تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ (8) . فاستخدم هذا الأسلوب وعرض المعاني فيه بشكل متقابل ساعد على تعميق قيمة "التوازن" في الإنفاق.
وإذا كانت الدعوة إلى القوة والحفاظ عليها، وتجنب ما يوهنها أمراً ظاهراً فيما سقت من أحاديث سابقة، فإن فضيلة الصدق من أظهر موجبات القوة، بحيث يقتضي من الصادق مقاومة مغريات كثيرة قد يجر المرء إليها هواه وشهواته ولذائذه وما يتوهمه موافقاً لمصلحته، وبذلك يتردى في مهواة الكذب، ولا يلبث يزاوله حتى يصير عند الله وعند الناس كذاباً، فيصبح مبغضاً من الله ومن الناس، ويفقدون الثقة به، ويتعذر عليه أن يحتفظ "بتوازنه" ويصير كرقعة خلقة في ثوب قشيب، يتقزز منه الآخرون ويتجافونه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :364  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 73 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج