شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
11- عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له (1) .
يشير الحديث الشريف إلى أمرين لا يحصلان إلا للمؤمن، ألا وهما: الشكر، والصبر.
فالشكر حيال المنعم ما هو إلا اعتراف وتقدير للمنعم، وعدم الشكر جحود وكفر، وقد اقترنت صفة جحود النعمة في القرآن بالكفر فمن ذلك قول الله تعالى: وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فإِنَّ ربِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (2) ، وقوله: وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (3) ، قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أكْفُرُ (4) .
أما الصبر: فهو حبس النفس وكفها عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش.
فالصبر في اللغة هو: الحبس ولا يتأتى حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى إلا بقدرة قادر، وإرادة عاقلة، واختيار لما عند الله، وبدون هذا يكون الصبر خللاً وعجزاً، ولا يسمى بالصبر أساساً.
وحصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الخير للمؤمن فقط، جعلني أنظر إلى صفات المؤمن الحق، فوجدته لا بد أن يكون جامعاً لملامح "التوازن".
فالإيمان معناه: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
ومن متطلبات الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله: العلم والإرادة.
ومن متطلبات الإيمان باليوم الآخر: العمل لذلك اليوم، والتوكل على الله.
ومن متطلبات الإيمان بالقدر خيره وشره: السكينة، أي سكينة النفس لما ينزل به القضاء.
فالخير وقف على المؤمن الذي تجتمع فيه ملامح "التوازن".
والحديث الشريف يصف موقفين من المواقف التي قد تخرج الإنسان العادي عن التوازن الموقف الأول: حالة حدوث نعمة ما، وما يعقبها من الفرح والسرور الذي قد ينسيه شكر المنعم، وهذا كفر والكفر قبح.
والموقف الثاني: حالة سقوط المصيبة وما يعقبها من الحزن واليأس اللذين يوصلان الإنسان إلى السخط والشكوى وربما إلى الكفر وهو كما ذكرت قبح.
فهاتان الحالتان قد تهزان الإنسان هزاً عميقاً، أما المؤمن فلا، لأنه كما وصفه الرسول (صلى الله عليه وسلم):أمره كله خير.
فوقت نزول النعمة يفرح ولكنه لا يفرط في هذا الفرح لكونه عالماً أن الذي أنعم عليه بهذه النعمة يستطيع سلبها متى شاء، لذا فهو يقدم حق المنعم عليه -وهو الله سبحانه وتعالى- فيشكره ويحمده على إنعامه، فيصبح أداؤه للشكر جميلاً. ووقت سقوط البلاء نجده صابراً محتسباً، لأنه يعلم أن الذي ابتلاه قادرٌ على رفع ذلك البلاء أو تخفيفه، وهو في الحالتين مأجور على صبره، فهو لا يتأفف ولا يسخط ولا يشتكي إلا لله وحده وهذا هو الصبر.
فمن ذلك ما حكاه لنا من قول يعقوب لأبنائه عندما أخبروه باختفاء يوسف حيث قال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ (5) ، وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا (6) ، ومنه توصية الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) بالصبر حيال كفار مكة حيث قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (7) .
وقال المفسرون: الصبر الجميل هو: "الذي لا جزع فيه" (8) وكأن الجزع وما فيه من مظاهر الضعف والاضطراب قبح، وكأن الصبر وما فيه من ضبط الانفعال والهدوء النفسي جمال، وأياً ما كان فالجزع -كما أعتقد- خلل في "التوازن" النفسي، والصبر: قمة التوازن النفسي، وهذا يعني أن معيار التوازن معيار جمالي سواء كان في الماديات أو في المعنويات.
وهذا الذي يدعو إليه الحديث الشريف السابق، وينبه إليه هو خلاصة ما يحتاج إليه المسلم في تعامله مع الحياة، في سرائها وضرائها، وفي جميع ملابساتها، فهو منها بين حالين إما خير فيشكر الله عليه، وإما شر فيصبر عليه كلا الأمرين الشكر والصبر هنا أكثر ما يعين على التوازن واستدامته، لأن جحود النعمة قبح وخلل يخرجان الجاحد إلى درك الأشر والبطر، والجزع عند المصيبة قبح آخر يفقد النفس تماسكها، ويوهن من قوتها، ويذل صاحبها، فيقل نفعه ويصير كَلاً على سواه.
وما أحوج أدباءنا إلى التأسي بهذا الحديث، سواء منهم الشاعر والمقالي والقاص، فيجعلون من شكر المنعم أدباً يتجمل به الشاكر، ويشيعون هذه القيمة في صورهم وعباراتهم وحوارهم.
كما يتورعون عن الجزع في المواقف المختلفة، فيربأون بالذوق الفني عن التهالك القبيح والضعف المزري في المواقف السوية.
ألا ما أروع قيمة التوازن في هذين الموقفين، شكر المؤمن على النعمة وصبره على المنحة، الشكر يكفه عن البطر، والصبر يمنعه من التهالك، فهو على حال من "التوازن" الذي يحدث في النفس جمالاً يتجدد وقوة لا تنتهي.
وإذا انتقلنا إلى شكل الحديث ألفينا التناسب ما بين المعاني والألفاظ، فكل لفظ على قدر معناه، بلا زيادة ولا نقصان يشف عنه ويوحي بما وراءه.
فالمقابلة بين "سراء وضراء"، وبين "شكر وصبر"، وهو مأجور على الشكر والصبر معاً.
وهذا: "الرافعي" رحمه الله يحاول تبيان السر المستكن في مثل هذا الجمال فيقول: "لو نظرت إليه من وجه الصناعتين اللفظية والبيانية، رأيته في الأولى مسدد اللفظ، محكم الوضع، متين التركيب، متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات، واضح الصلة بين اللفظ والمعنى، واللفظ وضريبة نسقاً وتأليفاً، ثم لا ترى فيه حرفاً مضطرباً، ولا لفظة مستدعاة لغير معناها، أو مستكرهة عليه، ولا كلمة غيرها أتم منها أداءً للمعنى، وتأتياً لسره في الاستعمال، ورأيته في الثانية -في جهة البيان- حسن العرض، بين الجملة، واضح التفصيل، ظاهر الحدود، جيد الوصف، متمكن المعنى واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة.
غريب اللمحة، ناصع البيان، لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً ولا اضطراباً أو خطلاً ولا استعانة من عجز، أو توسعاً من ضيق، ولا ضعفاً في وجه من الوجوه.
فإذا أنت أضفت إلى ذلك ما هنالك من سمو المعنى، وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنو المأخذ، وإصابة السر، وفضل التصرف في كل طبقة من الكلام وما يلحق بهذه الصفة وأمثالها من مذهبه (صلى الله عليه وسلم) في الإفصاح ومنحاه في التعبير مما خص به دون الفصحاء، وكان له خاصة من عظمة النفس، وكمال العقل، وثقوب الذهن، ومن المنزعة الجيدة، واللسان المتمكن – رأيتَ من جملة ذلك نسقاً في البلاغة قلما يتهيأ في مثول أغراضه، وتساوق معانيه لبليغ من البلغاء، إذ يجمع الخالص من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة – بعضها إلى بعض.
وأين من ذلك الفصحاء والبلغاء وأنَّى لهم؟ وما قط عرفنا بليغاً سلمت له جهات الصنعة في كلامه -من اللغة والبيان والحكمة- على أتمها، بحيث لم يزغ عن قصد الطريقة، ولا تحيفته إحدى هذه الثلاث بإدخال الضيم على أختها واستبانة أثرها فيه وغلبتها عليه" (9) .
هنا أشعر أن "الرافعي" قاب قوسين أو أدنى من التعبير عن معيار "التوازن"، فإن الرجل يلاحظ ذلك المعيار في مقارنته بين فصحاء العرب وفصاحة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث لا يتم للفصحاء استمراريتهم على المنهج، بينما يتم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) "فيتوازن" أدبه دوماً بحيث لا تتحيفه إحدى هذه الثلاث – أي اللغة والبيان والحكمة – بإدخال الضيم على أختها، وهذا نتيجة استحكام ذلك المعيار عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ومن ثم كان الغضب قبحاً لأنه اختلال يفضي إلى مزيد من الاختلال، والرفقُ جمالاً لأنه يصون النفس ويقويها في مهب المبيرات.
وإذا كان الشكر على النعمة والصبر على المصيبة مالاً لأنه يجعل المسلم في أتم حالات "التوازن"، وإذا كانت كل هذه القيم تتصل بأسباب كثيرة للقوة، فإن خلة التواضع من أسباب القوة أيضاً خلافاً لما يظنه صاحب النظرة العجلى الذي يشتبه عليه التواضع بالذل، فالذل قبح وتهالك وعجز، أما التواضع فقوة وجمال و "توازن" لأنه يمنع النفس من الكبر وهو قبح وخلل.
12- فعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يَبْغِي أحد على أحد (10) .
يحث الحديث الشريف على التواضع، والتواضع خلق لا يطلب إلا من الذي فضله الله على غيره من العباد بمميزات، مثل المال، والحسب والجاه والسلطان والعلم والدين، فهذه المميزات قد تؤدي بصاحبها إلى الكبر، والغرور، والكبر ينسي صاحبه أن ما به من فضل منة من الله، كما فعل الكبر بقارون فظن أن ما عنده من المال نتيجة تعبه وعلمه حيث قال: قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي (11) .
لذا كان "التواضع" لا يكون إلا بقوة النفس، وحيث إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، يوسوس له ويزين له نفسها يعظمها مع تغير كل شيء حوله، كانت قوة الشيطان تحتاج إلى قوة أخرى تضاهيها بل تفوقها، هذه القوة تظهر في مقاومة الكبر.
فالتواضع إذاً لا يكون إلا مع القوة، القوة التي تغلب هوى النفس والتيه والإعجاب بها، فإذا به يحول هذه النفس المفرطة إلى نفس "متوازنة" ترد كل ما بها من فضل إلى صاحب الفضل والمنة.
بقي أمر دقيق يحتاج إلى إيضاح.
هل تصغير النفس وازدراؤها تواضع؟
وهل علو الهمة ومحاولة السمة بالنفس كبر؟
هنا يبدو الخيط الرفيع الذي يفرق بين التواضع والذل، وبين علو الهمة والكبر، هذا الخيط الرفيع لا يتضح إلا بالأخذ بمعيار "التوازن"، "فالتوازن" هو الذي يأخذ بالنفس إلى أن "تتواضع" هنا وأن تزهو هناك.
وأن تترفع عن الدنايا هنا وأن تقف دون الكبر هناك.
فالكبر على كثرة التحذير منه، قد يندب إليه في بعض المواقف، كما أن للتواضع حداً إذا تجاوزه كان ذلاً ومهانة.
وقد أثنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم على مشية الخيلاء ففي يوم "أحد" قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجل فأمسكه عنهم: حتى قام إليه "أبو دجانة" -سماك بن حرشة، أخو بني ساعدة- فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال أن تشرب به العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه وكان "أبو دجانة" رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا حارب أعلم بعصابة له حمراء، فاعتصب بها على الناس (علم أنه سيقاتل)، فلما أخذ السيف من يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخرج عصابته تلك، فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفين... قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رأى "أبا دجانة" يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن (12) .
فالكبر هنا تخطَّى حدود الرذيلة إلى حدود الفضيلة "توازناً" مع الموقف، ويعزز ذلك حب الله عز وجل لهؤلاء "المتوازنين" الذين يقدرون الموقف ويتحكمون في انفعالاتهم وأخلاقهم فيوجهونها الوجه الصحيحة بما يرضي الله حيث وصفهم الله بقوله: يأّيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواَ مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (13) .
فالتفضيل لأنهم جمعوا الخلقين جنباً لجنب، التواضع والكبر مع توجيه كل منهما الوجهة الصحيحة.
وعودة إلى ألفاظ الحديث حيث النهي عن أمرين: الفخر بالنفس وهو الكبر، والبغي، هذان الأمران خروج عن "التوازن".
فالكبر بغيض ومنفر، لأنه خروج على منهج الاعتدال، والتوازن، ومن جرائره أنه يجعل صاحبه بين جماعته كالدمل الممد في الجسم يتحاماه رفاقه، وقد يفرون من التعامل معه.
والبغي: إسراف عظيم، وهو أيضاً تجاوز لمنهج "التوازن".
وبهذا لا يخرج الحديث الشريف عن الدعوة إلى "التوازن" وإعادة النفس المفرطة إلى حدودها في كل شيء.
ولا شك أن التواضع بما فيه من رقة ظاهرية، وقوة داخلية خلق جميل دعت إليه جمع الأديان، كما نوهت به جميع الآداب في كل العصور.
ولا شك أن الكبر قبح يعكس مقدار الضعف والعجز الداخلي للمتكبر، وأحفظ قولاً للأديب الفرنسي "لافونتين" يصف به المتكبر بقوله:
"إنما المتكبر مثل الطائر كلما زاد علواً زاد صغراً في نظر الناس".
وبهذا تكون الدعوة إلى "التواضع" وما فيها من دعوة إلى "التوازن" هي دعوة إلى الجمال.
وهكذا تكون ألفاظ الحديث الشريف باستيعابها ذلك المعنى دون خداج أو اضطرب، جميلة مع بعدها عن وسائل الزينة بل قد يكون عدم تكلفها وسيلة من وسائل الزينة الخارجية هو سر جمالها.
لا تنتهي القوة المطلوبة للمؤمن عند الصور والجوانب التي تضمنتها الأحاديث السابقة، فثم جوانب أخرى كثيرة ترفد نفس المؤمن بأسباب القوة، وكلها تهدي إلى الصراط المستقيم، وتعين على "التوازن"، وتكتمل بها آداب المؤمن، وهي الآداب التي يتألف منها مجتمعة منهج "التوازن" من هذه الآداب: الحب في الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :434  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 72 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج