شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
9- ليس الشديد بالصُّرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
وفي رواية أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم): مرّ بقوم يصطرعون فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان ما يصارع أحداً إلا صرعة، قال: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجلٌ فكظم غيظَه وغلب شيطانَه وغلب شيطان صاحبه (1) .
الصُرعة: بضم "الصاد" المهملة وفتح الراء: الذي يصرع الناس كثيراً بقوته، والهاء للمبالغة في الصفة.
والحديث الشريف فيه تحذير من الغضب. والغضب انفعال حاد يسيطر على الإنسان تجاه موقف معين، وهذا الانفعال له علامات ظاهرية وأخرى باطنية.
فالعلامات الظاهرية ما يظهر على وجه الغضبان من احمرار الوجه واتساع حدقة العينين، وقد يصاحب ذلك حركات باليدين أو ما إلى ذلك من تصرفات تصحب ذلك الانفعال.
أما "الباطن فقبحه أشد من الظاهر، لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أول شيء يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه، وهذا له أثره في الجسد.
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل، ويندم قائله عند سكون الغضب" (2) .
والمتأمل في تلك المفاسد التي وردت في الغضب، يجد أن الغضب خلل يطرأ على الإنسان يفقده "توازنه"، وإذا ما فقد "التوازن" قبح سلوك الغضبان، ونجم عنه ما يفقده الانسجام مع من حوله.
لذلك حرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على تحويل مفهوم القوة العضلية إلى نفسية، تمسك بزمام النفس أمام ذلك الانفعال الفتاك. فتعقيبه (صلى الله عليه وسلم) على من رآه يصرع الناس بقوته، يرشدنا إلى ذلك المنحى الدقيق في مفهوم القوة.
وبما أن المجتمعات البدائية تميل إلى تربية القوة العضلية، لأنها في طورها الأول تتمثل بعالم الحيوان حيث البقاء للأقوى. كان حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) -وهو أول من أخذ بيد البشرية إلى مدارج الرقي والتطور- أن يعمل ما استطاع على تحويل مفهوم القوة من القوة العضلية البحتة إلى القوة النفسية، بالطبع دون إهمال للقوة العضلية، فما يمنع أن يكون الإنسان قوياً في جسده قوياً في روحه؟ وقد كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) كذلك، وكان عمر بن الخطاب كذلك وبهم تأسى كثير من الصحابة والتابعين.
لكن العضب مع بشاعته يبقى انفعالاً غرزياً، لا ينبغي للشخصية المسلمة "المتوازنة" إلغاءه، فبالإلغاء تختل تلك الشخصية، ولا تستفز النخوة والشهامة والمروءة، وهذه خلال لا بد من وجودها في الشخصية المسلمة، فمن لا يغضب أبداً، لن يغضب إذا ما انتهكت محارم الله، وبالتالي فهذا لا يمكن أن يرضي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو من عرف عنه الغضب الشديد في مواقف معينة.
فمثلاً عن أبي مسعود رضي الله عنه: قال: أتى رجلٌ النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلانٍ مما يُطيل بنا، قال: فما رأيتُ رسولَ الله قط أشدَّ غضباً في موعظةٍ منه يومئذٍ. قال: فقال: يا أيها الناس إن منكم منفِّرين، فأيّكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة (3) .
فالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) عرف عنه الغضب في موقف كهذا، لكنا نلحظ أن غضب الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشديد مساوٍ لا محالة للموقف، لا يزيد عنه ولا ينقص، أو بعبارة أخرى متوازن معه شأنه عليه الصلاة والسلام في جميع أموره، وعلى ذلك فالانفعال الشديد هنا يوحي بخطر المخالفة وفداحتها؛ مخالفة من يطيل بالناس وفيهم المرضى والضعاف، فهو دليلنا على مقدار التحرف الذي حدث، وعلى البعد عن منهج "الصراط المستقيم" منهج "التوازن" لأن تقدير الخلل هنا مرهون بعواقبه وبما ينشأ عنه من تهديد.
إذاً فالتوازن هو المعيار الصحيح الذي يوجه به الغضب الوجهة الصحيحة، بل إن التوازن هو المعيار الوحيد الذي يجعل للغضب قيمة فعالة، فجميل أن يغضب الإنسان عندما تنتهك محارم الله وإذ ذاك يكون إظهار الغضب وإعلانه في الموقف الذي يقتضيه، وعلى قدر هذا المقتضى - إذ ذاك يكون الغضب والإعلان عنه باعثين لراحة النفس، وللشعور بالجمال.
أما شكل الحديث فقد كانت ألفاظه وجيزة، عبرت بالقليل من الكلمات عن الكثير من المعاني، في وضوح وبساطة أكسبا الحديث جمالاً آخر إلى جانب جمال معناه.
إن بداية الحديث بالنفي: "ليس الشديد بالصُّرعة" بداية مقصودة لإثارة انتباه الحاضرين، والذين -ربما- كانوا لا يتوقعون هذا التغير في مفهوم القوة، لذلك كان لا بد من إثارتهم مباشرة وبدون مقدمات، حتى إذا ما لاح على وجوههم نظرات التعجب. قال لهم: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" لقد كان استخدام الرسول الكريم لهذا الأسلوب استخداماً جميلاً يناسب الموقف ويخدمه؛ فالموقف الآن موقف تغيير لمفاهيم قديمة لها جذورها العميقة في نفوسهم؛ فمنهم أشداء أقوياء، عرفت عنهم الغلطة والقسوة أكثر من الرحمة لذلك لم يلغ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لفظ الشديد عندما غير المفهوم بل أبقاه: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وكل الذي فعله هو توجيه هذه الشدة من الأجساد إلى النفوس.
وبذلك يكون التوازن المتجلي في هذا الحديث مضموناً وشكلاً من أهم مصادر إحساسنا بجماله، وتفوقه البياني.
إذاً فالبيان النبوي الشافي يحضنا على التوازن والاستقامة وجمال الاستواء وينفرنا من قبح الخلل، والغلو في الغضب، ويصون نفس المسلم من جهة ثانية، من الانزلاق في مهواة شط آخر، فيضع موضع الغضب قيمة جليلة استتباباً "لتوازن" النفسي هي قيمة العفو – فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يريد على ضوء المنهج الإسلامي الذي يربي عليه أمته أن تكون نفس المسلم حية، متكاملة، منتظمة في انفعالاتها وعواطفها، كل عاطفة بمقدار الحاجة إليها، مرهونة بظروفها ومناسباتها، أما الانفعالات العالية المدمرة فتستأصل بالإرادة المستهدية بمنهج الإسلام، لتخلي مكانها لانفعال آخر لأن سواه (صلى الله عليه وسلم) من أصحاب البيان يعجز عن مراعاة "التوازن" باطراد في جميع الحالات والملابسات.
10 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه (4) .
ومع أن الحديث الشريف يتكلم عن عدة آداب؛ الصدقة، العفو والتواضع، إلا أنني سأحصر حديثي هنا على العفو.
وفي الحديث السابق، يبيّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن القوة الحقة لا تتجلى إلا في كظم الغيظ، فحينما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة فهو إذن قريب من: العفو، هذا الخلق الذي امتدح الله عز وجل أصحابه بقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (5) .
والعفو عن الغير لا يعود أثره الطيب على العافي فقط بل يتعداه إلى المعفو عنه الذي قد ينظر إلى من عفا عنه نظرة تقدير واحترام، وينظر إلى نفسه خجلاً مما قد يكون قد ارتكب في حق الآخرين، وربما ندم، وأصلح ما كان، فالفوائد جمة وعظيمة وليس معنى هذا الحديث أن العفو يعمل به هكذا دون قيد أو شرط، أو هو مندوب إليه دائماً، لا بل يجب النظر في حال المعفو عنه وتقدير الإساءة، ولا مانع من المبادرة بالعفو وإعطاء فرصة للمعفو عنه، فإن لم يُجدِ كل ذلك وجب أن يتوقف ذلك المدد وإلا تحول العفو إلى ضعف وعجز، فإن للعفو طيشاً كطيش القسوة والله تعالى يقول: وَجَزَآؤُا سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (6) . فالتوازن وحده هو الذي يحدد الموقف، ويحدد نوع السلوك، فإذا كان العفو يتوازن مع الموقف كان العفو كما قال الشاعر: "والعفو عند لبيب القوم موعظة" وإذا كانت العقوبة أجدى وأنفع، عمل بها، وبدون التوازن مع الموقف لا يصبح للعفو تلك القيمة الجميلة التي نستعذبها ونستعذب الألفاظ التي تؤدى بها.
أما عن الأسلوب الذي صيغ به هذا الحديث فإنه أسلوب جميل به تناسق لفظي بديع فالتأثير الإيقاعي بين الجمل الواردة في الحديث، حيث تربط بينها نغمة صوتية متشابهة، ناشىء عن التقارب في الوزن بين كثير من الألفاظ: ما نقصت، ما زاد، ما تواضع، هذا التأثير مرده في تقديري هو وجود "التوازن" بين مفردات الجمل.
كما أن "التوازن" في معنى الحديث أكسبه جمالاً آخر.
فـ "التوازن" بين ما يقدمه العبد وبين ما يكافئه به الله، غلف تلك القيم الواردة في الحديث بالجمال.
فالصدقة أصبحت لا تنقص المال.
وبه أصبح العفو وما يظن به من الضعف أصبح عزاً، والتواضع وما قد يشوبه من الشعور بالذل أصبح رفعة.
وبهذا التغيير في تلك المفاهيم، يغلف كل منها بنفحة من الجمال، وتصبح تلك المعاني -الصدقة والعفو والتواضع- قيماً جميلة يحاول الفرد المسلم التجمل بها.
والجمال الفني في هذا الحديث الشريف وغيره من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) له مقياسان يقاس بهما: المقياس البلاغي الذي يقاس به الكلام البليغ، والمقياس الخاص باعتباره أثراً من روح صاحبه (صلى الله عليه وسلم) ومؤثراً في الناس يذهب مع القلوب والأنفس والحقائق في كل زمان ومكان.
تبين لنا الأحاديث السابقة آثار القوة النفسية على الفرد، وما زالت تلك القوة المضبوطة تمدنا بأخلاق جمة، وما زالت أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) تشذب وتهذب نفس الفرد.
فمن الأخلاق التي تحتاج إلى القوة النفسية المتزنة: الصبر.
ومن الأحاديث التي تنوه به قول النبي (صلى الله عليه وسلم):
 
طباعة

تعليق

 القراءات :392  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.