شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ألوان وألحان
شعر تقليدي رجعي
فيه كل عيوب الشعر القديم
زكي قنصل
* * *
في الشعر
تكاثَرَتْ الآراء وتعددت مذاهب القول في تعريف الشعر وتحديد رسالة الشاعر، ولكني أعتقد أن الجدل لم ينته إلى نتيجة حاسمة بعد، والنظريات لم تستقر على وجه معلوم. ذلك لأن الشعر كالمرأة يستعصي على الأفهام ويَشْمُسُ على المقاييس البشرية. وكلما ازداد فيه المرء إمعاناً ازداد غموضاً وتوارى خلف ألف حجاب وحجاب.
ومع ذلك فلو سُئلتُ أن أدلي برأيي، لما ترددت في القول -وأنا أعلم أني لن آتي بجديد- أن الشعر هو ما يعبّر عن خَلَجَات النفس، ويستنطق هواجسَ الضمير، ويغوص إلى أعماق الوجدان، بلغة صحيحة خالية من الشوائب، وأداء سليم يحسن اختيار الألفاظ، وأسلوب أصيل لا تعقيد فيه ولا إبهام؛ إلاَّ ما يقتضيه ترف الفن وشرف البيان. وإذا أردنا أن نختصر قلنا: إن الشعر هو المعنى النبيل في اللفظ الجميل، كالطائر لا ينهض إلاَّ بجناحين .
ولن أزعم أن القوالب العروضية رِجْس من عمل الشيطان، فلا يمكن للشعر أن يستغني عن الوزن والقافية، ومن الجناية أن نُشعل فيهما النار بحجة أن الموسيقى الداخلية تقوم مقامهما وتُغْني عنهما. إن الموسيقى الداخلية أسطورة لا تثبت للامتحان، وفي يقيني أنها على طريق الإِفلاس إن لم تكن قد أفلست وانتهى أمرها. وقد رأينا أنّ كثيرين من الذين ثاروا على قواعد الخليل ودَعَوا إلى الخروج على سنن الشعر وقوانينه، قد عادوا آخر الأمر إلى ظل هذه المناهج، وغسلوا أيديهم مما كانوا يصنعون.
والحفاظ على مقوِّمات الشعر لا يمنع من تنويع القوافي والتنقل بين الأوزان، ولكن على أن تراعى شروط الذوق السليم، ويواءم بين الأنغام وتُربط الخيوط بلباقة. ولشعراء المهجر في هذا المجال اختراعات طريفة تَقَرُّ بها العيون وترتاح إليها النفوس، جرى على نهجها شعراء الوطن العربي، ولعل إيليا أبو ماضي أذكى الروّاد في تصريف والتلاعب بالأوزان.
صحيح أن الشعر شعر سواء انتهى إلى هذه المدرسة أو إلى ذلك، وسواء جاء في الزيّ الحديث أو الزي القديم، ولكن هل يجوز أن نستنفد طاقات القارئ في الطَلاسم والأحَاجي، ثم نزعم أننا نكتب للعامة؟!
الشعر لا يعيش في الكهوف المظلمة، بل هو في حاجة إلى النور والهواء، وأنا أفهم أن يتبرقع بنقاب شفاف فذلك أوقع في النفس وأنبه للذهن، ولكني ضد "قبّعات الإِخفاء" وضد أساليب المشعوذين في استخراج الأرانب من الأكمام. وإذا صحّ أنّ قليلاً من الخمر تفرح قلب الإِنسان، فإن كثيرها يجعله موضع الهزء ويورده موارد الهلكة. الغموض مستقبح إذن حين يكون مرادفاً للتعمية ومقصوداً لذاته، وما أصدق من قال: لو كان الغموض شعراً لكان الصمت أعلى مراتب الشعر!
ويخطئ من يسوم الشاعر أن يتقيّد بالظروف الطارئة، أو يفرض عليه مواضيع معيّنة ويلبسه مسوح الواعظين والمصلحين، فالشعر ليس بوقاً للدعاية والتهريج، أو عَرَبة تشدها خيول الأعراف والتقاليد، أو أداةً لحلّ مشاكل السياسة والاجتماع والاقتصاد، بل هو طفل غرير يبني النفوس فيما هو يبني بيوت الرمل على الشاطئ، ويرود آفاق الفكر فيما هو يرسل طياراته الورقية في الفضاء. إنه نفحة تهبّ من القلب، ونور يتدفق من الوجدان يضيء مسالك القلب والوجدان. إنه رسالة روحية لا ترتبط بحواجز الزمان والمكان.
والشاعر الحق هو الذي يصدر عن ذات نفسه، ويجري مع سجيته، ويسمو بروحه وخياله عن تُرَّهات التراب وسفاسف القيود والحدود. ولا يعني ذلك أن عليه أن ينفصم عن هموم مجتمعه ويتحلل من واجباته القومية والإِنسانية، ولكني أرى أن الالتزام بأية فكرة أو قضية يجب أن ينبع من أعماق نفس الشاعر، وينسجم مع رأيه وذوقه ومعتقده، لا أن يأتيه قَسْراً من الخارج، فالإِجادة لا تتوفر إلاَّ على مقدار إيمان المرء بالدور الذي يؤديه أو الرسالة التي يحملها.
وفي تاريخ الأدب شواهد لا يحصرها العدّ على أن الحرية هي المناخ الطبيعي للشعر، فهو لا يتنفس إلاَّ برئه سليمة، وليس من يجهل أن ما يُسمّى بأدب الانحطاط لم يفرّخ إلاَّ في الأجواء المخنوقة. وهذه النظرة لا تقتصر على الشعر السياسي، بل هي تنسحب على سائر فنون الشعر وأغراضه.
بَلى ليس مفروضاً في الشعر أن يرتبط بمبادئ الفضلية والأخلاق – وإن كنتُ شخصياً من دعاة هذه المبادئ – فقد كان أبو نواس إمام الفاسقين والمتهتكين، ومع ذلك فهو شاعر عصره ونابغة زمانه، وكان كبلنغ شاعر الاستعمار البريطاني، والاستعمار – كما هو معلوم – عدو الفضيلةوالأخلاق، وظل كبلنغ من أعلام الشعر العالمي. ومع العلم أني احب الأدب القومي فأنا أعتقد أن الشعر غير مطالب أن الشعر غير مطالب بأن يشايع الحركات القومية سواء كانت على حق أو على باطل، فإن الشعراء الشعوبيين – كما نوّهنا – يملأون تاريخ الأدب ولم يخطر لأحد أن يطردهم من ملكوت الشعر.
إن ألف شاعر وشاعر جلسوا على مائدة فلسطين يأكلون ويشربون، ثم قاموا يضربون بسيفها، بينهم عشرات وعشرات من قلب فلسطين بالذات، ولكن كم هو عدد الذين نظموا فيها شعراً؟. لن أتورط في إحصاء الذين سقطوا في الامتحان فذلك أمر يطول، ولكني سأعدّ الذين نجحوا. وإذا كان النقد – أو معظمه – قد صفق للقافلة أو وقف يتفرج بصمت ووجوم، فإمّا لأنه يرى أن طبيعة الموضوع تشفع بالمساوئ وتعلو على ما سواها من الاعتبارات الفنية، وإمّا لأنه يتهيب الموقف ويخشى عواقب الصراحة. وهو في كِلاَ الحالين قد خرج على وظيفته، وأساء إلى الأدب، وأسهم في إفساد الذوق الشعري العام، وهيّأ لهذه الفوضى الأدبية التي ضاعت فيها المعالم واختلطت المفاهيم.
صَفْوة القول: إن الشعر نشأ أساساً للمتعة، بدليل أن الغناء لازمه منذ الأزل وسوف يظل رفيقه إلى الأبد، ثم طرأت عليه عوامل سياسية واجتماعية أضافت إليه عنصر الفائدة، وقد يستطيع أن يستغني عنه متى أراد، ولكنه أبداً لن يستغني عن وظيفته الأساسية.
ومن قُدِّر له أن يجمع بين هذه وتلك ويزاوج بين الغاية والواسطة كان فضله مزدوجاً وضمّ المجد من طرفيه.
هكذا أفهم الشعر حراً من كل قيد ترابي، نظيفاً من كل دَرَن وراثي، أفهمه قَيْثارة مختلفة الأوتار متعددة الأصوات، تتماوج بألحان ندية وأهازيج الحياة، يبكي إذا تألم، ويضحك إذا فرح، ويهدر إذا غضب، ولا يرتبط بعجلة إنسان أو فكره إلاَّ إذا كان هذا الارتباط من وحي عاطفة وبدافع خالص من شعور وإيمان. وقد يبدو هذا الرأي غريباً للذين تتبعوا نتاجي الشِعْري، ورأوني أتفاعل مع أحداث الوطن العربي وأتلاحم مع تطلعاته، وكلن لا مَدْعاة للغرابة فأنا لا أريد لغيري ما أكره لنفسي، وليس أشد عليّ وأضنى لقلبي من أن أحمل على النظم في موضوع لا أومن به.
ولا أذكر أني قلت بيتاً واحداً عن رَهْبة أو رَغْبة أو مسايرة، وإذا بدا شيء من التناقض الفكري في شعري فمردّه إلى أن ظروفاً خاصة تطرأ أحياناً على بعض المفاهيم فتنقلها من حال إلى حال، أو على بعض الوجوه فتغيّر في الملامح وتعبث بالسمات. المهم في نظري أن يتحرك الشعر في إطار من الحرية والأصالة لا يشوبه وجل أو خجل. ومتى أعرب الشاعر عن ذاته نفسه بإخلاص وصدق وأمانة فقد أحسن التعبير عن خواطر مجتمعه وخوالجه، لأن الشاعر هو البشرية مختصرة.
زكي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :527  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 126 من 665
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.