شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أولاًً: ملحَمة قرطبَة
نرى في الملحمة -التي بلغت مائتين وأربعة عشر بيتاً- اثني عشر قسماً أو مشهداً ويمكن تقسيمها على الشكل التالي:
الأول: وصف الرحلة- (الطريق والقطار) من: [1- 24].
الثاني: وصف معالم قرطبة (الجسر، والوادي الكبير، والقصور، والشرفات) من: [25- 23]
الثالث: الوقوف أمام الجامع الأقصى والصلاة فيه من: [34 - 41].
الرابع: وصف موكب أمير المؤمنين في الجامع من: [42 - 52].
الخامس: الشاعر وصقر قريش من: [53- 67].
السادس: حلقات العلم في المسجد - الشاعر وابن حزم. من: [68- 80].
السابع: الشاعر وابن رشد. من: [81- 90].
الثامن: الشاعر ورفيق رحلته ابن قزمان من: [91- 137].
- مشهد زرياب من: [96-113].
- مشهد ابن زيدون. من: [114-130 ].
- مشهد رومانسي على شاطىء النهر. من: [131-137].
التاسع: الوقوف على الأطلال- من: [138- 163].
العاشر: المأساة - غروب الأندلس من: [164- 174].
الحادي عشر: المأساة والحاضر من: [175- 200].
الثاني عشر: دعوة إلى بعث التاريخ العربي الملحمـي المشـرق مـن: [201-214].
***
من هذا التقسيم، ومن خلال قراءة نص الملحمة، علينا أن نجاري الشاعر بثقافته التاريخية على نحو ما، ونتقمص بعض معالم شخصيته الوجدانية والتراثية.. كي نتحسس تلك الأفاق البعيدة التي رسمها لنا بكل مكونات أبعاد شاعريته. فعلينا -على الأقل- أن نلم بطبيعة أوروبا وبخاصة الطريق الجبلي الأسطوري ما بين باريس وإسبانيا، ونعرف تاريخ الأندلس، وأيام الفتح الأولى، وتأسيس الدولة الأموية المستقلة، المتمثلة بإمارة قرطبة، التي أسسها عبد الرحمن الداخل، الذي لقبه أبو جعفر المنصور بـ (صقر قريش)، وقد قطع الخطبة عن بني العباس، ودعا له على المنابر، و، بنى المسجد الجامع في قرطبة، وجعل بلاطه يماثل بلاط (لذريق) في العظمة والبهاء. ثم قدوم المغني (زرياب) تلميذ إسحاق الموصلي من بغداد في عهد عبد الرحمن الثاني، والحركة الفنية والأدبية والاجتماعية التي رافقته من الشرق، وكانت سائدة في البلاط العباسي (1) . كما علينا أن نعرف تاريخ قرطبة خلال عهودها الأخرى والأخيرة مع ملوك الطوائف.. وأبرز الشخصيات الفكرية والأدبية التي مرَّت وعاشت فيها.. علينا أن نعرف شهرة وفكر وشعر وفن كل من: ابن حزم، وابن رشد، وأبي بكر بن قزمان، وابن زيدون وغيرهم، كما علينا أن نسترجع ونتمثل المواقف البطولية التاريخية في مختلف عصورها (2) علينا أن نعرف الحياة الحضارية لقرطبة من كل جوانبها الفلسفية والفكرية والاجتماعيـة والسياسيـة والأدبية، والفنية والموسيقية، لأن هذا هو الجو الثقافي الذي تشيعه ملحمة قرطبة.
وإن التاريخ لم يكن عند الشاعر عبد الله بلخير أعلاماً ميتة جامدة منسية.. وإنما أعلام رجال أفذاذ، وأعلام أمكنة حية بأولئك الأفذاذ. العلم التاريخي شخصية وحدث.. فاحتشدت في أندلسياته -كدأبه الدائم الأصيل- أعلام تشكل ملحمة التاريخ العربي الإسلامي. فأصبح بريق الأعلام: أعلام الشخصيات التاريخية والفكرية، وأعلام الأمكنة الجغرافية والحضارية، يشع في مخيلة ونفس القارئ العربي المثقف، لأن كل علم في القصيدة أو في البيت الواحد، هو مفتاح تشرع به أبوابٌ واسعة تطل منها على التاريخ فتتنسم عبيره وأريجه، وترى وتحس بصفائه وإشراقه وتألقه.
ومن هنا يمكن أن نقول: إن وصف الحماسة البطولية والحربية قد خفت في ملحمتي عبد الله بلخير (قرطبة وغرناطة) وقد ترك أصداء الحماسة لمخيلة وثقافة القارئ العربي، فهو الكفيل باستشفاف وقعها وآثارها بحسه التاريخي، وثقافته التاريخية الملحمية التي تتجاوب مع أعلام شاعرنا. أي إن شعر عبد الله بلخير في الملحمتين هو شعر الملاحم البطولية والحربية من منظور ثقافي معاصر، لا من منظور شعبي جماهيري، لأن هذه الشعبية لا تصفق إلا لقصص البطولة الفردية التي نجدها في خوارق عنترة وأبي زيد الهلالي وفي ملحمة طارق كما سنرى. وفي ملحمة مؤتة كما رأينا. ولكن ذلك لا ينفي تجاوب القطاعات الشعبية مع شعر عبد الله بلخير، ولا سيَّما في مواقفه العربيـة الأصيلة التي تذوب فيها الفواصل الزمنية بين الماضي المشرق، والحاضر الأليم المظلم.
إذاً ملاحم الشاعر عبد الله بلخير (في قرطبة وغرناطة) هي ملاحم الأعلام التاريخية. لأن كل علم حين يشرق في وجدانه، إنما يشرق مشحوناً بكل دلالاته الروحية والفكرية والتاريخية والبطولية.. لأن شاعرنا قد تشبع بروح التاريخ، وامتزج به، وأضاف إليه الكثير من ذاته وثقافته، فلا بد إلاَّ أن يتراءى لنا العلم في مكانه المشع، المتمم للمسيرة الملحمية الفذَّة. عندئذٍ –كما قلنـا- لا يحس بتلك الشحنات الوجدانية والفكرية إلاَّ من عاش تجربة الشاعر مع التاريخ والدين والتراث والأصالة بعمق الاطلاع، عبر الكتب والأصقاع.
تبدأ ملحمة (قرطبة) برحيل الشاعر البطل ليلاً من باريس إلى قرطبة، فيقطع القطار جبال (البيرنّيه)، حتى يحطه بأندلس الإِسلام، بقرطبة الفتح، فأبصر جسرها ونهرها وقصورها، وفاح العطر من شرفاتها.. ثم توصل إلى (الجامع الأقصى) وأوشك أن يقبل ركنه، وصلى فيه.. وطال مكثه، وهاجت به الذكريات، وراحت صور من أجواء ذلك المكان تتراءى أمامه، وإذ هي صورة أمير المؤمنين عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) في موكب رسمي ديني، تحف به كراديس الفوارس، وتحمل الرماح، والسلاح -حول المصلى- وأدى الأمير الصلاة، صلاة العيد (جمعة الصوم)، وخطب الخطيب. وما زالت للموكب هيبته وجلاله، وما زال بطلنا مع شجون ذكرياته، ويتجه إلى دار الخلافة وقد تزيّا بالعباءة المرفرفة، والعقال المقصب، ويدخل القاعة الكبرى في أبَّهة ووقار، ويستقبله أمير المؤمنين، ويسلم عليه، والطيب يفوح من مفرقه، وأجلسه على يمينه، وراح يسأله عن مكة، فأفاض له بحديث شائق حبيب. ثم بعد أن يطيب له البقاء في دار الخلافة، يزور حلقات العلم في المسجد، وكان مكتظّاً بطلبة العلم، يحيطون بمعلمهم ابن حزم الذي تعالى صوته بإيقاع مؤثر في السامعين، وبخاصة حين ينشد الشعر الغزلي، الذي نجده في مختاراته (طوق الحمامة). ثم يبصر شيخاً، أيضاً تحلق حوله المريدون، وإذ هو ابن رشد فيلسوف زمانه، فكان يملي أفكاره الفلسفية على طلابه. ولكن يبدو أن بطلنا كان مغرماً بالشعر الغزلي ووصف الطبيعة والغناء الذي أُثر عن الأندلسيين، فلا بدَّ له من دليل خبير، وشخصية فكهة من أهل البلد ويميل للمرح والطرب والغناء والشعر الشعبي.. فلم يجد أفضل من (ابن قزمان) إمام الزجالين، دليلا في تجواله ونزهاته.. وبدا لنا كابن القارح في رسالة الغفران، أو فرجيل في الملهاة الإلهية. فيقوده إلى زرياب مغنِّي الشرق، وقد تجمهر حوله المستمعون والعاشقون.. في مشهد عابث راقص صاخب بالغناء والتواشيح والأهازيج.. وقد انتشى الحضور من السمار طرباً بغناء زرياب وعزف عوده.. ثم تفرقوا، ولم يبق لبطلنا إلاَّ ذكرياته مع زرياب وما خلفه من آثار فنية وموسيقية في بلاد المشرق. وبعدها يسير به ابن قزمان إلى مكان آخر فيه (ابن زيدون) وسط الفتيات المليحات متخفياً في جلبابه وأردانه.. في مشهد شاعري.. ولكن بطلنا الشاعر، لم يطلب من رفيقه أن يغني.. مع أنه من المغنين، وحين غنى كان بناء على رغبة المحتشدين، فأطربهم، وتعالى صوته، وبلغ مسامع الفتيات في شرفاتهن، وتمايلن بنشوة وطرب.. ويتابع سيره وصاحبه حتى يقعا على مشهد رومانسي، لفتى عاشق يغنِّي على شاطئ النهر بصوتٍ شجي:
أصاخ له في شرفة سمع مدنف
به هزه لما رنا.. مترقبا
شجاه بما غنى، فأصغى لما شجى
وكان الهوى في ما تكتم واختبا
وغاب رقيب قد ينم بما رأى
وأزكى الهوى ما قد يكون مكذبا
ويستيقظ بطلنا من رؤاه، ويعود لواقعه، واقعه مع الأطلال، وما آلت إليه الأماكن المقدسة في قرطبة مصير التاريخ - أين المساجد والمصلون؟.. ولفَّته موجةُ حزن عاتية، كحزن العاشق حيال أطلال الحبيبة:
إلى مسجد لم ألقَ فيه مؤذناً
يؤذن، أو ساعٍ يلبي مؤدبا
أفقت، فألفيت السواري يلفها
من الحزن، ما قد لفها منه مرهبا
حبيسات ماضٍ مرّ يخشاه حاضر
إذا ذكروا ما كان فيه تهربا
تماسكن في ذعر من الصمت مرجف
كأن خيالاً مدَّ ناباً ومخلبا
أحطن بمحراب الصلاة ومنبر الـ
إمامة، فعل المستجير قد أرعبا
وقد أوصدت من حولهن نوافذ الـ
مصلى، فأمسى كل نور محجبا
فلا يُرشد الزوار في جنباتها
نهاراً، سوى ضوء الشموع مذبذبا
ويخرج من المسجد كئيبا ويحس كالجمر تتلظى في أحشائه وكأنه قد فقد قرطبة (سلطانة المدن) على التوّ. وأخذ يعزِّي نفسه ويخفف من وقع المأساة، بالعبر والحكم، وإن كان غير مصدق لما آلت إليه أمته من انهيار كامل لأمجادها:
تهاوت صروح المجد فيك ودمرت
ذراه السواقي، ثم راحت به هبا
كأن لم تكن تلك القرون مواكبا
من المجد تترى، موكب أمّ موكبا
هو الدهر دولاب يدور وهذه الـ
حياة صراع ما تعمَّر، خُرِّبا
توالى بها كرُّ العصور، ولم تزل
تدور وتُطوى كل. ما اخضر أجدبا
فويل لمن لم يتعظْ من تقلب الـ
ـزمان، ومن لم يتخذ منه مشربا
ولا غالب إلا الله.. عروة واثق
لمن كان مغلوباً، ومن قد تغلَّبا
وأينما اتجه في أنحاء قرطبة باحثاً عن بقايا أمجادها، فلا يحظى بطائل، ولا يرى إلا الأطلال، رغم أن الآثار ما زالت قبلة السياح، إلا أنه يبحث فيها عن الإشراق القديم للحضارة العربية:
تجولت في أرباض قرطب باحثاً
بها عن بواقي المجد فيها منقبا
وقفت على أطلالها، فإذا بها
بلاقع قد جفَّ الذي اهتز أو رَبا
وإذ بتلك الأطلال لا تظل مجرد بلاقع جافة، وإنما يستحيل وقوفه إزاءها إلى ثورة على التاريخ الأسود في صفحة الأندلس المشرقة الناصعة، ونقمة على من كان سبب البلاء، وإذ ببطلنا الملحمي يقف حيال أطلاله وقفة مسؤولة ملتزمة جادة، وقد جسّد لنا المأساة، مأساة الغروب من خلال روحه ووقدته وعاطفته، بَلوَر صورة المأساة التاريخية، حين صبَّ في الأذهان أن أفول التاريخ وأسباب الضعف والهزائم، ما هو إلاَّ في الخروج عن الدين، والتنازع على السلطة، والانغماس في الملذات، وإذا بالمأساة تمتد وتكبر، فيسقطها بطلنا الملحمي على خارطة أوسع وأكبر.. خارطة تحتوي الأمة العربية بأسرها، في مواجهة مصيرية مع أعدائها.. فيقول محذراً منبهاً لما تعانيه من دمار:
ألا أيها النوام، والشر محدق
بأوطانهم، أودى بها حين أرعبا
تفجر في أقطارنا، وكأنه الـ
ـبراكين تدوي بالدمار توثبا
تجمع فيه الأقوياء تحالفوا
علينا، عداء منهم وتصلبا
تجمع فيه الشرق والغرب كلهم
يحارب من منّا لسلطانـه أبى
وما اجتمعوا عبر القرون جميعهم
إذا اجتمعوا، إلا علينا تعصبا
ويضع البطل الملحمي أمامنا صورة للحقيقة العربية، على شكل حكمة جميلة بصياغة تجمع التصوير والمَثل والمفارقة اللفظية بين (النمل والرمل)، لواقع عدد العرب والمسلمين الكبير كالنمل والرمل.. ولكنهم لم يكونوا مثل جهاد النمل في الصراع مع الحياة، وإنما مثل الرمل في ضعفه حيال الرياح التي تذروه:
ملايين مثل النمل، لا في صراعها الـ
ـحياة، على جهد الضعيف تدربا
ولكنه في العد، كالرمل تعبث الـ
ـرياح به عبر الفيافي تقلبا
تموج به كثبانه في زعازع
يسمونها فيما تهب به الهبا
ويطالب بطلنا الملحمي العرب والمسلمين -الحكام والمسؤولين- أن يتَعظوا، ويتعلموا دروسهم من التاريخ لا سيَّما بعد أن جثت إسرائيل فوق صدورنا، وتاريخنا مع الغرب يعيد نفسه.
ثم أخيراً يدعو إلى بعث الأمة العربية والإسلامية من جديد.. بتاريخها الملحمي المشرق.. وذلك بعرض لشخصيات تاريخية فذَّة، لتهز وتحرك الضمائر والأفئدة، عسى أن يستوحوا منهم الإِباء والصدق والحمية والشرف.. عسى أن يسيروا سيرة المنصور، والداخل، وموسى، وطارق، وعقبة وخالد، وسعد بن أبي وقاص، وابن الزبير.. وغيرهم.
لقد كان شاعرنا في هذه الملحمة - يمثل تجربة العربي الثائر المعاصر.. في خضم العالم والحضارة، وعبر رحلات يطوف بلدان أوروبا، ليحط رحاله على تاريخ العرب في أزهى عصورهم وحضارتهم ومجدهم في الأندلس. فالتجربة جد قاسية وعميقة، والمهمة صعبة ليكون جسراً ممتداً -عبر مئات السنين- وموصلاً بين عهدين طويلين مختلفين في الإِشراق.
لذلك فقد كان بطلنا هو السندباد المعاصر في هذه الرحلة التاريخية الحضارية.. كان البطل الملحمي الذي نرى في وجهه كل التاريخ.. نقرأ صفحات التاريخ المضمخة بالأمجاد عبر هذه الرحلة الملحمية.. ولقد خُيِّل إلينا، والبطل السندباد يقطع مئات الأميال في القطار من باريس إلى إسبانيا، أننا إزاء فارس من فرسان المعلقات الذين وصفوا مطاياهم ورحلاتهم الصحراوية، خيل إلينا والشاعر يمتطي قطاره السريع عبر الجبال والمنحدرات، أننا نشهد امرأ القيس يمتطي صهوة حصانه الذي يعدو بسرعة قيدت الأوابد، وفي كل الاتجاهات في الكر والفر والإِقبال والإِدبار، وكجلمود صخرٍ حطه السيل مـن علِ. نحس ونحن نشهد بطلنا مع انسياب قطاره، وعبر محطاته.. أننا أمام مطية صحراوية حضارية.
ويبدو كذلك أن الشاعر، قد ترسم نهج فرسان المعلقات، في وضع مستمعهم في جو نفسي مشبع بالعواطف والخواطر والذكريات من خلال مقدماتهم الطللية والخيالية -قبل أن يصلوا إلى مقاصدهم وأهداف رحلاتهم- أي أنهم كانوا يتعاملون مع الأطلال كرمز له دلالاته الوجدانية في صياغاتهم الشعرية (3) . وكذلك كان شاعرنا بلخير قد تعامل مع مطيته وأطلاله بمنظوره الحضاري المعاصر.
وإذا كان شاعرنا قد حدد لنا هدف رحلته منذ البداية بقوله:
ترامى بي الشوق الملح مغربا
لعاصمة الإِسلام في الغرب (قرطبا)
سرير ملوك العرب في فجر مجدهم
على الأرض لما شعَّ شرقاً ومغربا
تركت بباريس المقام ميمماً
حماها، وقد نادى هواها ورحبا
فإن الحالات النفسية التي ستمر به -من مسرة وبهجة أو كآبة وشجن- هي غاية أخرى يهدف التعبير عنها.. ليغمر القارئ في أرجاء تجربته، وحالاته وانطباعاته ومشاعره.. وهي تمثل لنا قمة شاعريته وإبداعه.. وإلا لما تعاطفنا مع حالاته النفسية، وانطباعاته الإِنسانية حين يقول:
تخيَّرت أن أسري إليها ومركبي الـ
قطار اتَّخذنا منه للشوق مركبا
كأنك في مسراك فيه برفرف
من الخلد ما أبهى سناه وأرحبا
أو أنك في أرجوحة تتلقف الـ
ـمحطات مسراها الرتيب توثبا
تطيل بك الأسفار عمرك أنت في
ذراعيه هادي البال إن خبَّ أو حبا
تمر بك الدنيا، وأنت ممتع
بها تجتلي منها العجائب معجبا
وكذلك مع وصف القطار في الليل.. فقد تضافرت لشاعرنا عناصر إبداعية منها الوصف الحسي الدقيق -مما يرى ويسمع- والوصف الخيالي، الذي استحضر له بعض المشاهد الأسطورية التاريخية.. حتى تختلط الصور الحسية بالأسطورية، والواقع بالتاريخ.. في انسجام وتألق وجمال وشفافية وجدانية. فنراه يصف القطار ومقطوراته ومقصوراته.. وأضواءها، إما من خلال مركبه الطويل الذي له أن يراه جيداً في منعرجاته، أو ربما من خلال قطار آخر كان قابله أو قد رآه.. أو من خلال وقدة خياله يقول:
ركبنا قطار الليل، والليل مشرق
بباريس في أضوائها قد تجلببا
تطاول منساباً بنا، وكأنه الـ
ـشهاب هوى بين النجوم مذنبا
مقاصيره مثل القناديل نورت
دجى الليل، تطوي مشمخراً وسبسبا
تراءت على الأفق البعيد كأنها الـ
ـكواكب تهوي، كوكبٌ جرّ كوكبا
تلوت على قضبانها، وتأودت
تُراقص في مجرى تعاريجها الربى
فإذا كانت رؤيته للقطار استحالت إلى شهب وكواكب هاوية من السماء وقناديل نورت الليل،.. ومقطوراته راقصة تتلوى على سكته، فإن ما يسمعه هو صورة أخرى من الصور القديمة الأسطورية، صورة مجتمعات بلادٍ وقبائل (وبار الأسطورية) البائدة في جنوب الجزيرة العربية من عبقر والربع الخالي. وهم يمارسون طقوسهم وأغانيهم مع الجن والنار والشعوذة.. يقول فيما يصغي إليه بهمسٍ رومانسي:
يموج رسيس الشجو حول انسيابها
كهمس العذارى العاشقات إذا نبا
يخيل للمصغي إليها، وهمسها
يلي صمتها.. خفق الفؤاد معذبا
أو أن الذي يصغي إليها، وقد سجا
به الليل، في ما قد نأى أو تقربا
معازف جن في (وبار) تلاحقت
ودقات طبل خلف نيرانها اختبا
ترامت إلينا من مراقص (عبقر)
على (الربع الخالي) تهب بها الصبا
ويعود بنا من رحلته الأسطورية، إلى واقع قطاره، ولكن القطار ما زال متجاوباً مع أنغام الجن في اندغام غريب:
أراجيز، قد خبَّ القطار مسابقا
صداها المدوي راجزاً متعقبا
يلف جبال (البيرنيه) ويعتلي
شماريخها بين السحاب تحسبا
تحدر من صعب منيف من الذرى
إلى مثله، إن لم يكن منه أصعبا
إذا ما هوى ينساب بين هضابها
تخيلت ثعباناً قد انساب مُرْعبا
تلوى على حافاتها مترنحاً
يحاول من تلك الشماريخ مهربا
على ضوء بدر ضاحك سار حولنا
يطل علينا مسفراً.. لا محجبا
ومن هنا يظل شاعرنا مشدوداً بأجواء الصحراء، والتاريخ القديم، عبر مرئياته وأحاسيسه وخياله، وعبر مطيته المعاصرة، التي نجد فيها من جديد، راحلة العربي القديم في رفقته وسفره وتعاطفه مع ناقته وسفينة صحرائه. كما هو الحال مع شاعرنا في تلك الرحلة، التي كان فيها قطاره رفيق دربه، رفيق رحلته.. فألبسه أحاسيسه، وخلع عليه الكثير من وجدانه. فحين كان شاعرنا في خياله مع الماضي السحيق وأجواء الصحراء، كان كذلك القطار يعيش ذات الإِحساس، فحلت فيه بعض تجربة الشاعر..
وتبرز شخصية بطلنا ساعة يصل قرطبة، وإذ هو أمام التاريخ، لم يكن شخصية عادية أو هامشية، وإنما هو رجل تاريخ وحضارة وأصالة.. رجل يحمل عروبته وصحراءه ودينه وتاريخه في روحه. وإحساسه بالمرئيات قد تغير. عين بصره تحس وتشاهد، وعين بصيرته تشف وتستوحي، من بطون التاريخ والماضي التليد، وكلها تشكل لديه حساً تاريخياً مجنحاً بوجدانه وروحانيته وعروبته. فحين يبصر قرطبة المدينة المعاصرة، ويبصر جسرها، وشاطئها، وقصورها التي راح يفوح من شرفاتها الأريج المعطر.. فإن تلك النفحات ليست إلاَّ من طيب وطنه الصغير والكبير:
يعطر ما فاحت به شرفاتها
من الروض، ما فيه الندى قد تسربا
كأن به من عرف (طيبة) نفحةً
من الطيب، ومن (وادي العقيق) ومن (قبا)
أو (الغوطة الفيحاء) رفرف حورها
بما لاح فضي الأفانين، أشهبا
أو (النيل) يا ما أروع النيل وهو في
مواكبه يختال في (مصر) مذهبا
كما يتألق حس بطلنا التاريخي وهو حيال موضع القداسة والتقديس، والعبادة والصلاة.. وقد طالعه (الجامع الأقصى)، فإنه مع كل مساجد الأندلس، يتعامل معها بحسٍّ ديني جليل، يستلهمه من دنيا بلاده، وأماكنها المقدسة.. فكثيراً ما ينسى نفسه، ويظن أنه في داخل الحرمين الشريفين.
ونرى بطلنا الشاعر في مواقف الذكريات، أو وقدة الانفعال والتخيل، يعاني عملية مثيرة في الإِحياء، واستجماع كل راقد في رحم التاريخ، وإذ هي لحظات المخاض قبل الولادة. عبَّر عنها بقوله:
تخيل لي منها رؤاها كأنها
أمامي، يرى فيها خيالي المغيبا
يمر على ذهني الكليل هواجساً
تفشت يقيناً شعَّ فيها مكهربا
وبعدها تحين الولادة الإِبداعية، فتبين عن مشهد أمير المؤمنين (صقر قريش) في موكبه الرسمي بالجامع الأقصى ليؤدوا صلاة الجمعة بعد الخطبة الوعظية. ويستمر المشهد الحي، ولا ينتهي إلاَّ بعد زيارة بطلنا لدار الخلافة، وبعد لقاء حميم بين بطلين.. بطل تاريخي صنع الأمجاد، وبطل معاصر جسَّد بملاحمه تلك الأمجاد. فكان حديث بينهما يدور عن أحوال العرب والمسلمين في تاريخهم المعاصر، ويظل لحديثه مع رجال التاريخ النكهة التي يبديها لذوي الشأن في العصر الحديث:
فسلمت تسليم الخلافة لاثماً
به فوق عينيه الجبين المعصبا
يفوح بعرف الطيب مفرق رأسه
وفي كفه السيف الذي قط ما نبا
وملنا إلى صدر المكان، فمالت الـ
ـعيون علينا، هيبة وترقبا
وأومأ لـي فـي أن أكـون يمينـه
وكرر لي ترحيبه حينما احتبى
يسائلني عن (مكة) وديارهم
بها، وهو يستقصي لما كنت مطنبا
وكان لنا فيما أفضنا بذكره
حديث ترامى في المسامع معجبا
وهكذا نرى الشاعر لصيقاً بمشاهده التاريخية، فيحتل مكان البطولة التاريخية وهو يتنقل في بلاد الأندلس العربية، في تفاعله وحركته ومحاوراتـه ومشاهداته مع مجموعة من النماذج الأندلسية في قرطبة تمثل كل وجوهها الحضارية السياسية والدينية والاجتماعية والفكرية والفنية والأدبية. فهو في تلك النقلات الحضارية، يقف عند شخصيات ترمز إلى أوجه الازدهار والتقدم. فحين ينتهي من لقائه بصقر قريش يكون قد بلور لنا ذروة التألق السياسي في الحكم والسلطة والقوة. كما يكون في لقاءاته الأخرى مع أعلام أندلسية فكرية وفنية وشعرية، قد جسد لنا قمة النهضة الأدبية والغنائية والفلسفية والاجتماعية.. مع كل من ابن حزم، وابن رشد، وابن زيدون.. ومع رفيق رحلته التاريخية ابن قزمان، الذي كان هذا رمزاً لشيوع الفنون الجديدة من موشحات وزجل. كما أن زرياب يمثل روح واستمرار العلاقة وتأثير المشرق بالمغرب.
وكان بطلنا يهدف من كل ذلك العرض الحضاري، أو الزخم التاريخي، إلى إبراز قيمة ومكانة الكنز الأندلسي الذي افتقدناه في مأساة لا تُنسى، وأصبح بطلنا -في الوقت نفسه- وكأنه يريد أن تسمع العرب كل العرب، أن هذا هو التاريخ العظيم الذي أضعناه، نحن الأحفاد.. وأن المأساة مستمرة في تاريخنا المعاصر..
ومن هنا كنا نسمع عبر تلك الملحمة الأندلسية صرخات مدوية، يتردد صداها في أرجاء الوطن العربي الكبير:
ألا أيها المجد الذي انهار صرحه
وأصبح ذكرى تبعث الغم مكربا
تعالى به الأجداد حتى سما بهم
وضيعه الأحفاد حتى تخربا
أو نسمع:
ألا أيها النوام، والشر محدق
بأوطانهم، أودى بها حين أرعبا
تفجر في أقطارنا.. وكأنه الـ
ـبـراكين تدوي بالدمار توثبا
أو يذكرنا بإسرائيل، الوجه الأخر لعدو العرب والمسلمين.. الذين ما زالوا يتجرعون المرارة والقهر على يديها.. وما زالت تذيقهم المآسي.. فهي استمرار- المأساة. فلماذا لا يتَّعظ الحكام؟!
فيا ويح من لم يتعظ بمصيرهم
سيلقى الذي لاقوا، ويكبو كمن كبا
وها هي إسرائيل فوق صدورنا
وعما قريب، سوف يبلغك النبا
وهكذا يبدو لنا الشاعر عبد الله بلخير بطلاً ملحمياً معاصراً.. لأنه هو بطل الملحمة يحمل عمق الحضارة وأبعاد التاريخ، ومأساة الحاضر: بقهره وانكساره. يحمل كل جذور التاريخ العربي: قديمه وحديثه. يتذوق حلاوته، ويتجرع مرارته.. يعيش إشراقه وإظلامه.. يتلذذ بخيره، ويشقى بشره، يزهو بقوته، ويذل بضعفه..
فهو دائماً يتأرجح في عالمين: عالم الأمس، وعالم اليوم. وتتوزع شخصيته بين واقعين: قديم مشرق حافل بالمثل والأمجاد، وحديث مكفهر متلبد بالضياع والقهر والضعف.
إن تلك الازدواجية الوجودية، هي مصدر الروعة الملحمية في شعر بلخير ولا سيما حينما يطيل في رؤاه الماضية، وذكرياته القديمة، مستحضراً أحداثاً ومواقف ومعاني متعددة من الماضي التاريخي الدفين، وقد أحياها بكل قيمها الروحية والدينية والفكرية والحضارية.. وتظل وقفته طويلة حتى يكون قد استجمع لنا كل معالم التاريخ وصوره.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1178  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.