شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثانياً: حلم ليلة ربيع في ضَيافة الأعشى بالدهنا في نجد
هذه القصيدة الطويلة -مائتان وأربعة وخمسون بيتاً- تذكرنا برسالة الغفران للمعري، والملهاة الإلهية لدانتي.. كرحلة خيالية في العالم الآخر في مواجهة مع الأموات، واستنطاقهم شعراً، وتصوير حالهم ومصيرهم في الجحيم أو الفردوس.. ولقد كان دانتي -مثلاً- يقف على تجارب كثيرة لمجموعة من البشر: حكام وفلاسفة وقساوسة وأدباء.. من خلال مصيرهم في الآخرة: في العذاب أو النعيم.. على حسب ما كانت عليه حياتهم ومواقفهم في الدنيا: من خير أو شر.
وقف مثلاً عند: هوميروس، وسقراط، وأفلاطون، وابن سينا، وابن رشد.. وأتباع أبيقور في اللذة، والعشاق الآثمين، والغرقى من الطغاة في نهر يغلي، والرهبان الذين آثروا المال على التقوى، وإبليس بوجوهه الثلاثة، وقديسين يسألون عن الإيمان والأمل والمحبة.. وتائبين يأملون الفردوس ويرى هؤلاء وغيرهم عبر الرحلة الخيالية مع دانتي ورفيقه (فرجيل) الذي يظهر له في أول الرحلة في الغابة المظلمة. وذلك باختراق الكرة الأرضية -أو الكون- من نصفها الأعلى إلى الأدنى.
وإن أثر الإسلام بادٍ على أجواء هذه الملحمة، وبخاصة في تلك الصور المتنوعة عبر العالم الآخر عن مشاهد الجحيم والعذاب والإسراء والمعراج كما جاء في القرآن. لأن تراث المسلمين، وترجمة القرآن إلى اللاتينية، قد انتقل إلى أوروبا عن طريق الحروب الصليبية والأندلس وصقلية، وفي عصر دانتي الذي اطلع على ذلك التراث الديني، بالإضافة إلى رسالة الغفران للمعري التي عرفت قبل دانتي بحوالي قرن ونصف، فقد قرأها وتأثر بها.. وإن كان ثمة بعض الاختلاف بينهما من حيث تصوير العالم الآخر وأناسه، وأهداف وغاية وروح كل منهما، وطريقته الفنية.
ولقد كان رفيق المعري في رحلته هو (ابن القارح) معا صره، ودافعه إلى الرسالة.. لذلك فإن المعري يختفي من الرحلة، ويظل ابن القارح هو الذي يرى ويصور ويحاور الشعراء واللغويين فكانت مساجلات شعرية ولغوية.. وربما كان هدف المعري من رسالته -أو رحلته- هو إبراز مقدرته وثقافته الشعرية واللغوية لابن القارح ومعاصريه.
وإن المعري استطاع أن ينقل لنا تراثنا الشعري واللغوي والأدبي عبر تلك الرحلة الخيالية.. فقد كنا نرى في الجنة كلاًّ من: زهير بن أبي سلمى، وعبيد بن الأبرص، والنابغة بن جعدة، والأعشى، وحميد بن ثور، وحمدونة، وآدم (1) والخليل بن أحمد، وعدي بن زيد (وإن كان مسيحياً)، وحسان، ولبيد، والخنساء. كما نرى في النار عدداً يساوي أهل الجنة تقريباً وهم: أوس بن حجر، والشنفرى، وطرفة بن العبد، والهذلي، وامرؤ القيس، والمهلهل، وعنترة، وبشار، وتأبط شراً، وإبليس، والأخطل. بالإضافة إلى ملوك وملكات طغاة ماجنين. وقد وردت في رسالة الغفران العديد من أعلام الأماكن. كل ذلك بأسلوب شعري قصصي شائق في حواره وحركته ومشاهده وشخصياته.. مما جعل طه حسين يقول: "إن هذه الرسالة هي أول قصة خيالية عند العرب". وقد استبعد بعض النقاد عنها أن تكون قصة أو ملحمة لخلوها من أجواء الملحمة من حماسة وبطولة حربية.
والرحلة في عالم الخيال، مع الأموات، وبعثهم، ومحاورتهم، وتقويمهم.. عملية إبداعية لا يقوى على تناولها إلا قلة من المبدعين.
وإذا كان دانتي في ملهاته، وملتون في فردوسه، والمعري في رسالته.. ينطلقون في إبداعهم عبر العالم الآخر من جحيم وفردوس، فإن شاعرنا عبـد الله بلخير في حلمه والأعشى، ينطلق في رحلته الخيالية عبر العالـم التاريخـي
الماضي.. في عملية إحياء للتاريخ الشعري العربي القديم بكل شعرائه وبيئتهم، وأحداثهم، وأمجادهم، ومعاناتهم وتجاربهم.. إحياء الأموات وتحسسهم، ومرافقتهم، ومحاورتهم، والتعرف على محنهم، ليس في العالم الآخر، ولكن في عالمنا المعاصر، وكأنهم لم يزولوا، أو يندرسوا ويندثروا.. أحياء بيننا، لأن ثمة بطلاً حياً عصرياً بينهم.. لأن الشاعر بلخير ذاته بحسه وأبعاده وحرارته وثقافته وفكره وعقيدته معهم.. وهذا ما أكسب حلمه المبدع فنّاً متكاملاً. وفعلاً فالقصيدة عمل فني متكامل، لأنها حققت: وحدة في الموضوع، ووحدة في الأحداث، ووحدة في المشاعر، ووحدة في الانطباع، ووحدة في الأهداف...
كلها تناسقت في شعر قصصي متسلسل متدفق، وفي حركة تزداد تموجاً، ونمو يزداد تطوراً ونفاذاً، لتنتهي تلك الوحدات الفكرية والشعورية والوجدانية في أعماق النفس بانسجام فني غريب.
وعلى قارئ هذا الحلم الربيعي الصحراوي، أن يتسلح بذات سلاح شاعرنا، ولكي يلامسه، عليه أن يستوعب التاريخ الأدبي العربي وفي مختلف عصوره، ويعرف البيئة الصحراوية ومجتمعها وعاداتها وتقاليدها، وأنسابها ومعجم أماكنها. لأن الشاعر بلخير كان يعانق ذلك التاريخ عناقاً حاراً.. فقد لاحقه حتى أصبح أحد رجاله وأعلامه.
يبدأ الشاعر رحلته من الرياض إلى روضتي (التنهات) و (الخفس) حول (الدهناء) في أحد أيام الربيع من عام 1400هـ - 1980م، وكان معه أهله وصحبه. ويصف مشهده الأول، بسرد قصصي، من النزول على التنهات، وما أعقبه من مراحل حتى أقبل الليل وسمروا، واستقبلوا ضيوفاً من مختلف البطون العربية.. وكان جل حديثهم عن أخبار الربيع. وتتجلى في هذا المشهد الروح العربية النقية، وقد استطاع الشاعر عبر الواقع المحسوس للرحلة، أن يمدنا بحس صحراوي بدوي، وقد تقمص شخصية ابن البادية، فنقل لنا لوحة عربية أصيلة للبادية، بجوها الطبيعي من غيوم وطيور وطيـوب ونسائـم وأنفـاس.. وجوها القبلي في صورة المجتمع البدوي من نصب الخيام وإسراج الفوانيس وإيقاد النار.. وكرع الماء من الغدران الصافية، وصبِّ القهوة وافتراش الرمل والسمر وأحاديث البادية، واستقبال الضيوف.. إلى آخر ما هنالك من عناصر حسية تكمل تلك اللوحة الصحراوية.
وفي المشهد الثاني نرى الشاعر ينفرد بذاته، ويعيش مع خواطره وعالمه وتجلياته، وهو نائم على الرمل المبلل بالندى، ويعيش خلوة نفسية فتجره الذكريات إلى الأمس القريب والبعيد، مع اليمامة يوم سلخ من عمره مع آل سعود ثلاثين عاماً في العمل والبناء.. إنها أيام ماثلة في خاطره، مشرقة في قلبه، وبكل أمجادها المضيئة. ثم يتغلغل في بطون التاريخ القديم.. إلى ما قبل بعثة الرسول، وما بعدها ببضعة أعوام.. وتختلط الذكريات والرؤى في عالمه. ويمتزج القريب بالبعيد، والحاضر بالماضي، والواقع بالخيال.. ثم يلتبس عليه الحال، أهو في يقظة أم حلم؟! ولكن يخيل إليه أنه يسمع صوتاً بين الدوي والهمس ينهي إليه نبأ نزول (الأعشى) في (الخفس). فينادي من حوله من جماعته وخلاَّنه، وييممون وجوههم صوب مضاربه، يقودهم الشوق إليه.. حتى نزلوا عليه.
وفي المشهد الثالث يصف لنا الأعشى (الشيخ الكبير) وصفاً دقيقاً تناول الكثير من هيئته وعمره ومجلسه وموقفه وسلوكه وحفاوته وأمور كثيرة، ترسم لنا شخصيته بوضوح وحيوية:
رأينا به الأعشى يهتز قارب الـ
ـثمانين عاماً، وهو شيخ معمر
وقد صبغ الحناء هامة رأسه
ولحيته، فالشعر بالصبغ أحمر
يحف به جمع تناثر حوله
وما منهم إلا سميع، ومبصر
وقفنا، فسلمنا، فقام مرحباً
فقام لمن قد قام، جمع ومعشر
يعدل ما قد لفه حول رأسه
على عجل يبديه، وهو يكور
ويصلح أطراف العباءة ممسكاً
بيسراه عوداً كالعصا يتأطر
تطاول في ما امتد من طول فرعه
وناف على من حوله وهو محور
فقبلت من عرنينه ما بدا به
كمنقار صقر قد تطاول يصفر
وعرفته باسمي، فأمسك كفه
بكفي، وفي عيني عيناه تنظر
وقال على رحب القرى يا ابن عمنا
فنحن لمن حلوا بنا اليوم نشكر
وسميت من جاؤوا معي، فتهللت
أساريره، يرنو لهم حين يذكروا
وأجلسنا يمنى، ويسرى قد احتفى
بنا وعلى كتفيه برد محبر
ويميل الأعشى بدوره ليعرفهم بمن حوله من القوم، ورفاق الشعر.. وراح يقدمهم واحداً واحداً مشيداً بشاعريتهم، أمثال: الحارث بن حلزة شاعر اليمامة، وزهير بن أبي سلمى، وأوس بن حجر رائد الوصف والتصوير..
ويحدثه طويلاً عن ضيوفه الشعراء، وحياتهم البدوية المتنقلة عبر الجزيرة العربية وفي كل الأصقاع.. فترد على لسانه أماكن كثيرة في نجد والحجاز واليمن، ويعرج على العراق والشام.. ولكن حبه لوطنه نجد، كان يستأثر اهتمامه، ويتعرض لقرابة المصاهرة مع (كنده)، فيمدح ويفاخر بانتماء قبلي محبب.. وبخاصة حين يصل إلى (ملك كندة آكل المرار) وابنه امرئ القيس.. في رحلاته المستمرة من منفوحة بنجد إلى (دمون) بحضرموت ويشيد بامرئ القيس وشعره الذي ذاع صيته بـ (سوق عكاظ). وفي مشهد آخر: ينبري زهير بن أبي سلمى ويشارك بالحديث والمفاخرة ببعض الشعراء المنتمين لهم أمثال: عنترة، والنابغة الجعدي، والنابغة الذبياني، وذي الرفة، وجرير والفرزدق.. وقد كان (سوق المربد) منبر شعرهم في موسم البلاغة والشعر للعرب جميعاً. وكان شاعرنا بلخير طيلة المشاهد مستمعاً، ولم يسمع ذكراً للهوى، ولم تستثرهم أحاديث الغزل.. وكأن صبا نجد وفتياتها، وتاريخ الحب لم تمر في ذاكرتهم.. وكأن شعار حياتهم في الحب أصبح لا يتعدَّى حب الوطن والحرب:
نحب بوادينا، ونهوى ديارنا
على أن حب الحرب والذكر أكثر
لذلك راح بطلنا بلخير يشارك في الحديث، ويخرج عن صمته، ويثير موضوع الهوى فيقول:
وأسألهم: أين الغواني، وما الهوى
بنجدٍ! سوى أخبارهن تنشر
تغنت بهنَّ البيد، والغيث، والحيا
عليها بساط يبهر العين، أخضر
ويقرؤون ما يدور بخاطره، وقد أعجب زهير بتلك الالتفاتة من بطلنا، فيدعو. أهل الهوى ليشاركوا ضيوفهم فرحهم وسمرهم.. فأقبل العشاق وأهل الصبابة من كل حدب وصوب.. والملهمات الفاتنات.. فذاك قيس وليلاه، وغيلان (ذو الرمة) وميَّتُه.. اجتمعوا في مهرجان من الطرب والسمر والحب.. واستحالت الدهناء إلى محفل غنائي شعري.. تشيد بدور نجد! في الصبابة والحب.. فاستأنس الأعشى بتلك الأجواء، وأخذ يسأل بطلنا عن الهوى في الحجاز.. فأفاض له عن شعراء الغزل العفيف والمادي، وانتشار وأماكن شعرهم. كشعر كثير، والعرجي، وابن ربيعه، وليلى الأخيلية..
ويستمر عبد الله بلخير في حديثه عن أخبار الحجاز في الحب والطبيعة والجمال.. ويطرب الجمع، وتصيح واحدة متجاوبة مع حديث بطلنا، وتطلب المزيد من الهوى الحجازي.. ربما هي (أميمة) صاحبة الأعشى:
وصاحـت فتـاة في الجموع كأنني
أثرت شجاها بالذي كنت أنثر
تقول: لقد أبدعت، زدنا عن الهوى الـ..
حجازي، وكرر حيث يحلو المكرر
فما الحب إلا للحجاز، كما الهوى
لنجد، وهذان الطهور المطهر!
فقال لي الأعشى: أجبها فإنها
(أميمة) شببنا بها، وهي معصر
شدى باسمها الساري بنجدٍ تردد الـ
ـيمامة ما يشدو به حين تذكر
كأن حنيات الصدور بحبها
تلظى بنيران الصبابة مجمر
فيستجيب بطلنا لرغبات مضيفيه وسمَّاره، ويسترسل في حديثه عن الحجاز وطبيعتها ومعالمها وخصبها وغيثها ومياهها، وقد استحالت إلى جنة عمت الكثير من مواقعها وأمكنتها، فيذكر لهم أعلاماً كثيرة لوديان وروض وربى منها: السراة، والظفير، والمع، وفيف عسير، وتهامة، وبطحاء مكة، وخيف منى، والمنحنى، والمحسر، ودج، والعقيق، ووادي حنين، والهدا، وذات عرق، وغيرها من الأعلام.. لينتهي قائلاً:
على تلكم الوديان، والروض، والربى
تربى الهوى طفلاً، وما زال يكبر
وفاح الشجا، والعشق بين هضابها
بما يملأ الآفاق حباً ويسكر
إلى أن تلقت نفحة الأرض عابقاً
تضوع به في ما تضوع، وتزخر
وما أسرع ما يأخذ القوم الطرب والحبور لما يسمعون، فيضجون في نشوة وإعجاب. ولكن بطلنا العصري التاريخي، لا يريد أن يظل فـي سـيرة الأعشـى -وقومه- الجاهلية، وما شاع حولها من حرية وتفكير ولهو وعادات بدائية، وإنما يريد أن يستدرجه إلى نقطة هامة كانت تمثل له مفترق الطرق بين الاستغراق في حياته الجاهلية الحسية، وبين طموحه لحياة الإسلام الجديدة الروحية وذلك من خلال إثارته بلباقة وذكاء، كي يفجر كوامنه، ويعترف بصدق، في تحديد موقفه من الدعوة السماوية الجديدة. التي نادى بها محمد، أراد بطلنا من الأعشى أن يجعله يبوح بمعاناته وتجربته.
ومن هنا جاءت تتمة القصيدة أو القصة الشعرية الخيالية رائعة، وتجسد قمة الصراع النفسي والوجودي والعقدي.. لتجربة إنسانية عميقة إزاء مفترق الطرق في اتخاذ الموقف والقرار النهائي، الذي يحدد فيه الإنسان مصيره من الدنيا أو الآخرة. يقول بطلنا:
وملت على الأعشى أناجيه هامساً
فأصغى لهمسي، منصتاً، يتفكر
يزخرف بالعود الذي في يمينه
على الرمل، أو يلهو به، وهو يحفر
فقلت: لعل الشيخ قد سمع النبا
الذي هزَّ أطراف الحجاز يبشر
بأن نبي العرب قد قام داعياً
بمكة والدنيا به تتخبر!!
ويسرد الأعشى قصته مع الإسلام منذ تناهى إليه نبأ حدث النبوة وبعثة محمد ونظمه قصيدة نبوية وإزماعه الرحيل إلى يثرب كي يستمع للرسول ويصغي لآيات القرآن، رغم أن ذهابه سيغضب أصدقاءه من قريش وعلى رأسهم أبو سفيان. وسيتخذ دربه عبر (نجران)، وسيلتقي بـ (قس بن ساعدة الأيادي) ويستشيره بأمر دعوة محمد.. طالما أنه سمع به خطيباً حكيماً وقد استمع إليه في سوق عكاظ يدعو العرب إلى التوحيد. ويستهزئ بمعتقدات قريش وأصنامهم، ويستمر في رواية قصته على هذا الشكل من الخواطر قبل أن يصل إلى مرحلة التنفيذ والممارسة الفعلية من تجربته مع الدين الجديد.
ويبدو أن الأعشى وهو يسرد قصته يريد أن يعترف -كما قلنا- بما أحسه حيال تلك التجربة الجديدة من تردد، وضعف في اتخاذ الموقف، فهـو مـوزع الإرادة بين الذهاب إلى قس بن ساعدة كمحرك لاستمرار العزم إلى الرسول... وبين تخوفه وتهيبه من قريش، التي يرى فيها -ضمنياً- ذاته وعقليته ورغباته. على أنه بدأ رحيله إلى الحجاز، وراح يمر إلى قبائل عديدة في دربه، وقد تناهت إليهم قصيدته قبل وصوله، وعرفوا قصده من السفر إلى الرسول، فأنكروا عليه موقفه، وتجنبه البعض خوفاً من قريش ويحاول الأعشى وهو يروي قصته أن يعزي ذاته، ويستلهم الشجاعة من قصيدته النبوية، التي راحت تشع ضياء في صدره، كي يتغلب على أي ضعف وتردد قد يستقران في قلبه نتيجة نفسه الأمَّارة بالسوء أو الرعب الذي قد يصيبه من صولة قريش وهيمنتها، ولذلك فتمثّل تلك القصيدة وقد تردد صداها عبر الجزيرة العربية، ولهج بها سمارها:
فصعرت خدي فوق رحلي أحثها
ليثرب لا أرثي لها، وهي تزجر
وملء فؤادي كالشعاع قصيدتي
تضيء. بصدري، فهي حرزي المحرر
ستملأ أجواء الجزيرة بالصدى الـ
ـمدوي، يهز الأبطحين فتذعر
تغني بها أسمارها حين تلتقي
على وهج النيران في الصيف تسمر!
ولا يدوم هذا العزم في نفس الأعشى، ويخفت فيه صوت الهدى، وتتلاشى دفقات الإيمان.. حين تنتابه الخواطر والهواجس السوداء، المتمثلة في سطوة قريش، وأنانيته ورغباته المادية..
فيقف الأعشى في سرده عند قمة التأزم النفسي والفكري والمادي. فكأن شاعرنا -من خلال الرسول المفوض القرشي، ووسوسة الشيطان في ضمير الأعشى- قد تفهم شخصية الأعشى ونفسيته وأنانيته وماديته، فراح يعزف على أوتار أطماعه ووساوسه ليسقط أخيراً في بؤرة الشيطان. فطفق الأعشى يفيض بالمغريات التي زينها له الشيطان المتمثل برسول قريش الذي فوضوه ليلحق به ويعده بما شاء من إبل وغنم ومال، وثنيه عن عزمه بكلام معسول، يصور له كيف سيحول الإسلام -بقيوده- دون الاسترسال بالملذات والشهوات.. إذ يحرم كل ما اعتاد عليه من خمر وربا وزنى وقمار، ويحل محلها صلاة وزكاة وصوم:
وأنت جيب الكأس والكأس والزنا الـ
ـمباح ودنيانا نساء وميسر
فمالك والإسلام فهو عن الخنى
ستار، وسور لا يطال، مسور
فعد غانماً ما شئت مما اشتهيته
لأهلك ممن أرسلوني، موفر
تجيء به الأحمال تمشي قوافلاً
لمنفوحة الفيحاء ترغا وتهدر
ويطيل الأعشى لبطلنا قصته مع تلك المغريات التي صورها له رسول قريش، في هذه الوعود يغري بها الأعشى:
أنا الكافل العاني الضمين بكل ما
التزمت، فعد من حيث ما جئت تشكر
فما لك ربح من لقاء (محمد)
وحظك في نجوى الملوك مظفر
تجوب بلاد الله، شرقاً ومغرباً
كما شئت، لا تلقى بها ما يكدر
تحل على من شئت ضيفا مكرماً
وما فيهم إلا الصديق المؤزر
تعيش طليقاً، لا يضيرك آمر
بغير الذي ترضى به حين يأمر
مصيفك في الصيف الشام. بجلق
وغسان. أما في الشتاء فحمير
ولا تنس يا (ميمون) بلواك صائماً .
ثلاثين يوماً، والنوافل أكثر
ستمضي بها شيخوخة العمر جائعاً
مظمّا، وياويل الذي فيه يفطر
وقد هز ذلك الموقف الأعشى، وزلزل أعصابه، لأنه وصل إلى قمة الأزمة.. وصل إلى مرحلة الاختيار، وموقف الحسم. لذلك فإننا نجده في المشهد التالي (السادس عشر) يتدرج مع خواطره وأحلامه ورغباته شيئاً فشيئاً.. وأخذت تتراءى أمامه وفي خياله، تلك الغنائم والهدايا تعج بها ساحات داره، وقد غنم بمال وفير وسيزداد في التجارة الرابحة. وعندئذ قفل راجعاً -متجنباً يثرب- إلى نجد.. وقد ألقى قصيدته في عرض طريقه وضميره يؤنبه على هذا الغدر.. غدره بمحمد ورسالته، وكأن تلك الحالة المتذبذبة التي امتزج بها الطمع بالندم، وبروز عنصر الاستهانة بالنبوة، والقوة الإلهية.. قد حققت معجزة مدهشة.. إذ ما هي إلاَّ ساعة حتى أجفلت ناقته، فسقط فدقت هامته بالحجارة ميتاً. ويصف حالته بعد موته، وما جناه من خزيه وعاره، وحتى آماله وأحلام ردته قد دفنت معه.. فخسر بها الدنيا والآخرة.. مع أن الحقيقة كانت واضحة وضوح الشمس.. وفرح بمصيره من بالأبطحين والحرتين.
تقبل من بـ (الأبطحين) نهايتي
بفرحة من بـ (الحرتين) وأكبر
ومن بالأبطحين من مكة؟ هم زعماء قريش الذين بعثوا له رسولهم ليصرفه عن الإسلام والوصول إلى رسول الله في المدينة. ومن بالحرتين؟ هم المسلمون في المدينة الذين سمعوا بنجاح قريش في إغراء الأعشى بالعودة إلى نجد والعزوف عن الإسلام والإيمان برسالة رسول الله. فشمت به في موته كلا الجانبين فخسر الدنيا وهي وعد قريش له بالمال ثمن بقائه على دين الجاهلية، وخسر الآخرة بعدم اهتدائه إلى الإسلام فمات على الكفر.
وحتى رفاق السوء من الندامى أصبحوا يسخرون من قبره وهم سكارى يطوفون حوله كالصنم ويسكبون فوقه الخمر ليسكر:
يطوف على قبري السكارى كأنهم
على صنم ملقى على الأرض حسر
يصبون ما فاضت كؤوس شرابهم
به، فوق قبري علني فيه أسكر (2)
ويتجلى عمق النهاية في الدرس الذي تعلمه من تجربته، إذ أفاض بسيل من الأحاسيس والمشاعر تجسد الصورة المثلى لتجربة كل المذنبين العصاة:
وها أنا طيف في رجا الغيب مذنب
أفاق وإنسان بلاه مقدر
عصيت نداء الله حين أهاب بي
ومثلي في عصيانه ليس يعذر
وما كان عصياني إلا لشهوة الـ
ـعطاء، وحب المال يعمي ويبطر
تضيع أرباب العقول عقولها
به، وإذا استشرى بمن ضاع يفقر
ومالي إلا الله جل جلاله
ومن سوف يعفو عن ضلالي، ويغفر
لعل قصيدي في (محمد) شافعي
يجنبني نار اللظى، ويكفر
فلن أطلب العدل الذي أستحقه
من الله، بل غفرانه، يوم أحشر
ويستيقظ بطلنا من أحلامه فجأة على أثر صهيل مهر، وما زالت أطيافـه ورؤاه مع ذلك العالم التاريخي تتحرك في وجدانه، وانتابته مشاعر حزينة، وضياء القمر ينتشر في آفاق (التنهات). وجمع من حوله أشياءهم استعداداً للرحيل، بعد أن أقاموا فريضة صلاة الصبح.. وعادوا إلى اليمامة الرياض من حيث قدموا. وقد ألقى نظرة لحى المكان وما زالت الطبيعة الصحراوية لوحة جميلة تجمع الرياض الطيوب والطيور والسيول:
تلفت خلفي حين ما سار مركبي
أقلب طرفي حول ما كنت أبصر
أودع فيه الشيح والطلع والغضا
على الروض، من أغصانه الطل ينثر
وقد بكرت أطياره من وكورها
ترفرف في أسرابها، وتصفر
على غبش الصبح المخضل بالندى
وقد لاح في آفاقه، وهو مسفر
تفوح الخزامى حولنا، وكأنها
تودعنا في ما يضوع وينشر
يرف على مجرى السيـول كأنـه
بألوانه في شهر آذار (عبقر)
وتنتهي رحلتنا مع شاعرنا بلخير.. وقد أفلح في جرنا معه إلى ذلك العالم التاريخي العربي.. فاستطاع أن يحول الواقع الصحراوي، والتاريخ الأدبي، إلى سبحات مجنحة في آفاق الخيال.. في رحلة متكاملة تتوجها الأصالة والفن والشاعرية والفكر والتاريخ والدين.
لذلك لم تكن أهداف شاعرنا -في هذه الرحلة الخيالية- أن يكشف عن كنوز أدب وتراث الجزيرة العربية فحسب، وإنما ليستوحي الرموز المختفية وراء ذلك التراث.
فلقد كانت تجربة الأعشى رمزاً لقضية إنسانية عامة في حياة الإنسان المعاصر. تجربة الإنسان وهو يمتحن ويجابه مغريات العصر المادية الزائلة بينما يسعى ليحقق المثل العليا والقيم الخالدة.. فستظل تجربة الأعشى رمزاً لموقف الإنسان في صراعه بين العبث والمبدأ. ومن هنا فستقودنا رحلة بلخير القصصية إلى قضية الله، والإيمان، والاستسلام لمشيئته.. تلك القضية التي طرحها دانتي وملتون والمعري في أعمالهم الإبداعية -وكذلك بلخير- حين بعثوا لنا الأموات، وراحوا يستنطقونهم، ويستلهمون العبر من تجاربهم في الدنيا، ومصيرهم في الآخرة، بأسلوب قصصي فني ملحمي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :959  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج