شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
545- على قبر عصفور!
[للشاعر ديوان شعر سمَّاه "مع العصافير في بروملي"، وقصائده في "المجلّد الثاني" من "ديوان الشامي"، ولمّا ماتت قرينةُ عصفورِهِ "الخليل" أعرب عن حزنه عليهما في رسالة طويلة إلى صديقه الكويتي الشاعر الأديب "عبد الرزّاق البصير"؛ ولعل ما ورد فيها يصور أجواء الشاعر في محراب عزلته مع عصافيره، قال]:
"يومنا هذا الخامس من رمضان الكريم عام 1401هـ ماتت "قُوقِيَة" التي سبق أن حدثتك عنها..إنها عصفورة صفراء جميلة من فصيلة "الببَّغاوات"، ويسمون هذا النوع من الطيور في بريطانيا "بوجي".
لقد عاشت معنا بجوار رفيقها.. ذلك الفيلسوف الذي حاورني طويلاً في قصيدتي "مع العصافير في "بروملي" –طيلة خمس سنوات؛ وكنت –كالعادة- قد قصدتهما صباح يومنا لإِيقاظهما، وتنظيف برجهما، وتزويدهما بالماء الطريّ، والطعام النظيف، وإذا بي أجد "قوقية" جامدة لا حراك بها.
آه.. لقد عرفتُ كيف تموت الطيور في أوكارها؛ هبطَت من مكانها الذي تأوي إليه ليلاً وهو أرجوحة معلَّقة في إحدى زوايا البرج ووقفَتْ على قدميها، ولوت رأسها الصغير، وسجَّتْه مُغمضة العينين على كتفها الناعم.
لقد كان المنظر محزناً؛ وناديت زوجي فأقبلْتُ مع ابنتي الصغيرة التي صاحت مذعورة: مسكينة.. "قوقية". (الله يرحمها). لقد ذهبت إلى الجنة واشرورغت عيناها.
أما أنا فلم يفاجئني موتها –وإن كان قد أحزنني- لأنني منذ بضعة أشهر ألاحظ أن وهَن الشيخوخة – وهي أسنَّ من رفيقها بحوالي عام – قد بدأ يدبْ في أوصالها، ويُرهق أعصابها، ويُضعف صوتها، فأصبحت كثيرة النعاس، طويلة الصمت، بطيئة الحركة، تضيق بالمداعبة، ويبدو عليها شيء من الشراسة والنزق حين يلاطفها رفيقها "قوقو" الماهر الساخر اللَّعوب.. وعندما أنقلهما من نافذة النهار، إلى زاوية الليل، محاوراً مداعباً، لا تقفز إلى أرجوحتها بخفةٍ ونشاط، ورشاقة ومرح، كما كانت تفعل.. بل تتسلق إليه ببطءٍ ووَهَن، مستعينةً بأصابعها ومنقارها، وفي تعثُّرٍ وإعياء، ولذلك فقد كنت أترقَّب ساعتها الأخيرة، وأخشى حدوثها.
ها قد ماتت عصفورتي يا عبد الرزّاق..
وحزنَ البيتُ ومَن فيه عليها..
وكأنَّما فقدنا عزيزاً من أفراد العائلة..
لا أراكم الله مكروهاً.!
أما "قوقي"، الأخضر.. الفيلسوف.. خلّي.. فقد أشعرني
بأنه قد عرف أن شريكة حياته قد ماتت!
لقد وجدته لا يزال متعلِّقاً على أرجوحته
وخلافاً لعادته حين يراني صباح كل يوم..
لم ينبس ببنت منقار.. بل ظلَّ صامِتاً..
وعيناه المذعورتان تحدِّقان في عينَي..
ويحرِّك رأسه، منفوش الريش.. كأنه يريد أن ينطق
بصوت جديد.. ولكنه لا يطيق.!
أو أنه يحاول أن يبكي؛ أو ربما ينوح..
ربّما ربّما؛ أو أنَّ ذلك قد خيّل لي..
وأنه لم يكن يعرف أنها قد ماتت..
وأن الطيور لا تحزن.. ولا تبكي، ولا تنوح..
بل ولا تدري أنها تموت، ولا تعرف معنى الموت!
ربّما ربما.. ولكن. ما بال "الغراب" الذي وارى سوأة أخيه؟
وعلى كلّ يا أخي عبد الرزاق..
لقد بادرنا.. فوضعنا جثمان العصفورة في جوف قطن مُضمَّخٍ بماء الورد وأدرجناه في كيس أبيض وواريناه في صمت وخشوع وفي قبر صغير حفرتُه في إحدى زوايا حديقة البيت تحت شجرة "الياسمين".
وعدت القهقرى –عشرين عاماً- إلى سنة 1961م/ 1380هـ وعندما انتقلت من القاهرة إلى لندن وزيراً مفوضاً لليمن، وحينذاك اقتنيت عصفوراً جميلاً من فصيلة "الكناري" وكان ذا صوت حنون رائع؛ وأصيب – وهو في عنفوان شبابه – بضربة برد قارس إثر عاصفة ثلجية هبَّت في إحدى ليالي شتاء "لندن" ذلك العام؛ وما لبث أن اختنق وفارق الحياة؛ وكان أحمد بن أخي عبد الوهاب يومئذٍ في الخامسة فحزن عليه كما حزِنَتْ ابنتي على "قوقية" فسألني ماذا سنصنع به؟ فقلت سنقبره؛ ووضعناه في بطن قطنةٍ معطَّرة، وأدرجناه في كيس أبيض، وحملناه إلى حديقة "هايد بارك" ودفناه تحت دوحة وارفة. وكنت يومئذٍ في الثامنة والثلاثين وبأحلامها وآمالها، وطموحاتها وحماقاتها، أردت أن أبدِّد حزن ولدنا "أحمد"، بل وأن أتنفَّس الصَّعداء؛ فقلت له هيا بنا نغنّي كي تبتهج روح "العصفور" ورفعت صوتي بذلك النشيد الذي لا شك أنك تحفظه مثلي، والذي أردت أن يحفظه ولدنا أيضاً:
بلاد العرب أوطاني
من "الشام" "لبغدانِ"
ومن "نجدٍ" إلى "يمنٍ"
إلى "مصر" "فتطوانِ"
وأما اليوم – وأنا أتسلَّق عقبة الستين، وقد تلاشت تلك الأحلام، وتبدَّدت الآمال، وانهارت الطموحات، وأصبحت أخشى أن لا يرحب بجثماني حتى قبر صغير في صنعاء..! فماذا سأنشد؟ ولمن أغني؟ وهل يحق لي أن أقول:
بلاد العرب آهاتي
لكِ اليوم وأحزاني
فما أسمع قد أحرق بالحسرة وجداني،
وأرقني، وأشجاني،
وأوجعني، وأبكاني،
وحبكِ يا بلاد العرب دِيناً – بعض إيماني
فلا "مصر" كما كانت
ولا أملٌ "بتطوان"
ولا "الفيحاء" في دعةٍ
ولا أمن "بلبنان"
و"مكة" ترقب الأحداث في "عدنٍ " و"بغدانِ"!
وقد داس "اليهود" حماكِ في "القدس" و"جولان"
وطمّ الخُلْفُ من "صنعاء" حتى سفحِ "عَمّان"
وبحر "النفط" يوشك أن
يحوَّلَ بحر "نيران"
فكيف أقول مفتخراً
"بلاد العرب أوطاني"
ولا الدار كما كانت
ولا الجيران جيراني
أخي عبد الرزّاق لم أستطع بعد أن واريتُ جثمان عصفورتي منذ ساعة إلاَّ أن أقول شيئاً أُنفّس به على كبدي:
ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني
بها كبداً ليست بذات قروحِ
ولم أداور القوافي التي تجيش صاخبة في صماخي.
وليت شعري ماذا سأقول حين تداورني؟
آه يا صديقي..
أخشى أن يطول أمد الغربة، حتى أشيّع جثمان عصفوري الأخضر الفيلسوف، أو بعض زملائه، ولا يذكر الناس للشامي إلاَّ أنّه أنشأَ مقبرة للعصافير في "بروملي"؟!
بروملي: 5 رمضان 1401هـ
6 يوليو 1981م
وبعد حوالي عام شاخ العصفور الأخضر ولحق برفيقته، وواريته في ضريح بجوارها وسكبت على قبره هذه الدمعة :
رحِّبي وأْنَسي به يا قبورُ
سيغنِّيك إن غفا الديجورْ
مثلما كان لي يغنّي صباحاً
ومساءً؛ لا يعتريه فتورُ
ستنوح الطيور تبكي عليه،
وسيُشْجيكِ ما تقول الطيورُ
كان – رغم الإِسار يمرح كالطِّفل؛ فدُنياهُ بهجةٌ وسرورُ؛
وإذا ما شدا أصاخَ له الكون؛ طيورٌ وأنجمٌ، وصخورُ
وتفانيتُ في ترانيمه أغسلُ روحي، وأنتشي وأمورُ
وأنا اليوم بعده غير نفسي
همدت غربتي وضجّ الشعورُ
مَن يغنّي ملاحمي، من يُسلّي
شغفي؟ من معي حناناً يثورُ؟
وإذا ما ابتسمت غنّى، وإن ثرت تغنّى مداعباً لا يخورُ
* * *
آه؛ يا دمعة على قبر عصفوري، تندّيْ حتى تبيدَ الدهورُ؛
نَهَراً حوله، وألحان أرواحٍ، ومسكاً تحسو شذاه العطورُ
وارشفي يا طيور من لحنه الغا
في عبيراً، وعربدي يا زهورُ
بروملي: 1403هـ/ 1983م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :570  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 575 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج